التضمين وزيادة
الحروف وحذفها

(والمختار: أن ما أمكن تخريجه على غير الزيادة، لا يحكم عليه بالزيادة وتخريج كثير من هذه الشواهد ممكن على النضمين).
المرادي.
(وإذا زاد حرف الجر فيما هو غني عنه فذلك لأسباب … أن يحدث بزيادة الحرف معنى لم يكن في الكلام … وهذا النوع كثير يراه من منحه اللَّه طرفا من النظر، ولم يمر عليه معرضا عنه).
ابن السيد البطليوسي.
(وحذف الحروف ليس بالقياس، وذلك أنها دخلت الكلام لضرب من الاختصار، فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصرا لها، واختصار المختصر إجحاف به).
أبو علي الفارسي.

وحروف الجر تنقسم من طريق الزيادة ثلاثة أقسام قسم لا خلاف بين النحويين في أنه غير زائد.
وقسم لا خلاف بين النحويين في أنه زائد وإن كان في ذلك خلاف عند أهل البيان.
وقسم ثالث فيه خلاف.
وإنما خصصنا الياء بالذكر لأن ابن قتيبة لم يذكر غيرها، فالباء التي لا يجوز أن يقال فيها إنها زائدة تسعة أنواع:
منها الباء التي لا يصل الفعل إلى معموله إلا بها كقولك: مررت بزيد وتسمى باء الإلصاق وباء التعدية.

ومنها الباء التي تدخل على الاسم المتوسط بين العامل ومعموله كقولك ضربت بالسوط زيدا. وكتبت بالقلم الكتاب، وشربت بالماء الدواء، وتُسمى باء الاستعانة، والفرق بينها وبين الأولى: أن الفعل في الأولى متعد إلى الاسم الذي باشرته بالباء من غير توسط بينهما، وفي الثانية يتوسط شيء آخر، وقد يقتصرون على أحد الاسمين، فيقولون: ضربت بالسوط، وكتبت بالقلم، ولا يذكرون المكتوب والمضروب، وقد يقولون: ضربت زيدا، ولا يذكرون اسم المتوسط الذي بواسطته باشر العمل معموله.

ومنها الباء التي تنوب مناب واو الحال، كقولهم جاء زيد بثيابه أي وعليه ثيابه.

ومنها الباء التي تأتي بعد السؤال: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا).

فإن تسألوني بالنساء فإنني … بصير بأدواء النساء طبيب

ومنها الباء التي تأتي بعد البدل والعوض، كقولهم: هذا بذاك.


ومنها الباء التي تأتي بمعنى القسم.


ومنها الباء التي تقع في التشبيه – لقيت به الأسد – ورأيت به القمر.


موضوعات ذات صلة:


ومنها الباء التي تقع بعد ما ظاهره غير الذات وإنما المراد الذات ………………….. ولم يشهد الهيجا بألوث معصم ………………….. يشرب كأسا بكفِّ مَن بخلا


ومنها باء السبب: غلب تشدر بالدخول كأنها …
فجميع هذه الباءات لا تجوز زيادتها.

أما الزائدة التي لا خلاف في زيادتها فكل باء دخلت على الفاعل في نحو: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وما دخل منها على المبتدأ: بحسبك في القوم أن يعملوا …، وإذا لزم أن تكون زائدة لأن الفاعل لا يحتاج إلى واسطة بينه وبين فعله لشدة اتصاله والمبتدأ سبيله أن يكون مُعرّى من العوامل اللفظية.


وأما الباء التي فيها خلاف فكل باء دخلت على معمول وعامله يمكن أن يتعدى إليه بنفسه من غير وساطة حرف بينهما. من ذلك قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ). وقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

قال ابن يعيش: وتزاد الباء مع المفعول والذي يدل على زيادتها (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) لقوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

وقال ابن جني: فالباء زائدة. وهكذا صار إلى ما صرفنا عنه وسوَّاً إلينا التمسك به.

وقال المرادي: لا تلقوا مضمن: تفضوا، وقيل: حذف المفعول والباء السببية أي لا تلقوا أنفسكم بسبب أيديكم كما تقول: لا تفسد حالك برأيك قاله المبرد.

وقال البغوي: قيل الباء زائدة يريد ولا تلقوا أيديكم أي أنفسكم أي بما كسبتم إلى التهلكة، وقيل: الباء في موضعها وفيه حذف أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وتزداد الباء في المفعول، ذكر ذلك ابن يعيش نقلا عن سيبويه وكذلك السيوطي والزركشي وذكر ابن جني: (بأيديكم) الباء زائدة وأنشد أبو زيد في النوادر:

بحسبك في القوم أن يعلموا … بأنك فيهم غني معز فزاد الباء في المبتدأ. أ. هـ

وذكر البيضاوي: أن الباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس وقيل: لا تجعلوها (أي التهلكة). آخذة بأيديكم، ولا تلقوا بأيديكم إليها فحذف المفعول، وعدي الإلقاء بـ (إلى) لتضمنه معنى الإنهاء. أ. هـ.

أقول: التضمين جرى في الفعل: (ألقى) بمعنى (رمى) وهما أخوان، الآية تريد أن تجعل الرمي في المهالك مسببا عما كسبته أيدي الناس المفرطينفي الشح عن الإنفاق في الغزو وتجهيز الغزاة فالباء على أصلها سببية. إذ ليس المراد النهي عن إلقاء اليد في المهالك، لأن أحدا من العقلاء لا يرمي نفسه، بل المراد تجنب الأسباب المفضية إلى المهالك، أي تنتهي أعمارهم إلى هذه النهاية الأسيفة بسبب ما جنته أيديهم من الشح والإمساك، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي هي حرف الجر (الباء) لأن الفعل ألقى لا يتعدى بالباء، فالباء ليست زائدة وفعل ألقى تضمن معنى رمى والمتعدي بالباء والمفعول محذوف تقديره أنفسكم ولا ترموا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. وما دام الشح والإمساك مُفضياً إلى المهالك فالنهي عن الأخذ بالأسباب نهي عن السبب وهو خير عاصم.

ومن ذلك قوله تعالى: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ).

قال ابن يعيش: وتزاد الباء مع المفعول، في قول المحققين من أصحابنا وتأويله: تُنبت ما تُنبته والدهن فيه فهو كقولك: خرج بثيابه ونحوه فيكون الدهن مفعولا والباء زائدة.

وقال الزمخشري: تنبت وفيها الدهن، وقرئ: تنبت، وفيه وجهان:
أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت وأنشد لزهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم … قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل

والثاني: أن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن (الزيت)، وقرئ: تُنبت بضم التاء وحكمه حكم تَنبت وقرأ ابن مسعود: تُخرج الدهن وغيره تَخرج بالدهن، وفي حرف أُبي تثمر بالدهن، وعند بعضهم تنبتبالدهان، وقال الجمل هي باء الإقحام.


وقال الآلوسي: الباء للملابسة والمصاحبة مثلها في ذلك جاء بثياب، وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها، فإنه الملابس له في الحقيقة. وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك: ذهبت بزيد، كأنه قيل: تُنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتُحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال. وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية. قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان.

أقول: تنبت تضمن معنى تنضح والمتعدي بالباء فهي ترشح بالزيت على هَيْنة وفي بطء كما تُرشح الأم ولدها باللبن أما زيادة الحروف فولها ظهرك ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ).

قال الزمخشري: وقد تقع اللام مزيدة قَال تعالى: (رَدِفَ لَكُمْ).

وجاء في اللسان: يجوز أن يكون أراد: ردفكم فزاد اللام ويجوز أن يكون ردف مما تعدى بحرف جر وبغير حرف جر. التهذيب قال: قرب لكم.

وقال الفراء: دنا لكم وقد تكون اللام داخلة والمعنى ردفكم. وردفتفلانا وردفت لفلان: صرت له رِدْفاً. الجوهري: يقال نزل بهم أمر فردف لهم آخر أعظم منه.
وقال الزمخشري: فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم، وأزف لكم، ومعناها تبعكم، ولحقكم.

وقال الجمل: وفي هذه اللام أوجه: أظهرها: أن رَدِف ضُمِّن معنى فعل يتعدى باللام أي دنا وقرب.

أقول: إن سياق الآية يشير إلى قرب العذاب لهم لاستهزائهم، ودنوه منهم لتغطرسهم، فتضمين ردف معنى دنا وأزف يثير في القلوب الخوف والقلق من شبح العذاب فهو وراءهم ورديف لهم كما يكون الرديف للراكب، ولولا هذه اللام لما ارتفع الفعل في الإعجاز وعن طريق التضمين إلى مشارفة النظم البديع للمعنى المسبل وراء سِتار الغيب يتلوحه العاقل على قيد خطوات ليتهيأ
له ويستعد في كل لحظة، وأما عسى ففي وعيد اللَّه تدل على صدق الأمر وجِدِّه ولا مجال للشك بعده.
ومن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى).
قال ابن يعيش: الباء زائدة: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).
أقول: يعلمِ هنا بمعنى يوقن ويصدق ويؤمن، وهذا يتعدى بالباء، قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أما سقوط الباء في قوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فقياسي إذ يسقط حرف الجر مع المصدر المؤول ولا ريب أن زيادة الحروف تُحدث في العبارة معنى جديدا كما قال ابن السيد: فإمعان النظر عن كنه معانيها يبلغنا تعدد وجوه إفادتها، وإلطاف النظر فيها يكشف عن ما استودعه اللَّه من أسرارها، وطريقة عرضها حين تختلف من تركيب لآخر، يُظهر سر إعجازها ففي قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يدعي الكوفيون زيادتها ولا يُثبته البصريون لأنه عندهم على حذف الجواب: إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال … طابت نفوسهم بصدقِ وَعد ربِهم.
وقولنا: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) نابت (ما) عن (حقا ويقينا).
و (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) نابت (الباء) عن (الإلصاق والمباشرة) و (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) نابت (مِنْ) عن (البعضية).
و (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) نابت (ما) عن (التوكيد).

فالحروف هذه اختصار لكلمات، فإذا حكمنا عليها بالزيادة فقد أفسدنا المعنى الذي أفادته، فقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) أي بعضهم فإذا حذفنا (مِنْ) لكونها زائدة فقد صارت الأولاد والأزواج جميعا عدوا لنا. أرأيت كيف فسد المعنى بدعوى الزيادة؟! علينا إذاً أن نتجنب إطلاق لفظ زائدة في كتاب اللَّه فإن الزائد قد يُفهم منه أن لا معنى له وكتاب اللَّه منزه عن ذلك إنما تنكشف البراعة عند معرفةوجه التأويل، وما جاءت هذه الحروف إلا لفوائد ومعانٍ تخصها لتكسب المعنى نبلاً، وتظهر فيه مزية من الجهة التي هي أصح لتأديته، وأخص به وأكشف عنه، وأبهر في صناعته. ومثل هذا يعرفه البياني الذي خالط كلام الفصحاء وعرف مواقع استعمالهم وذاق حلاوة ألفاظهم، وأما النحوي الجافي فعن ذلك بمنقطع الثرى.

التحويليون وهم أصحاب الاتجاه العقلي يرون أن النظر في المعنى ملازم للنظر في الشكل والتركيب، ولا يرتضون الوقوف عند الوصف المحض الذي يراه الوصفيون من علماء اللغة وهم أصحاب الاتجاه النقلي وأن اللغة توقيفية من اللَّه سبحانه، بل يتعداه إلى تفسير الظواهر اللغوية تفسيرا عقليا، يدرسون الصوت والنظم والدلالة بأنواعها، لتتصل اللغة بالفكر مثلما اتصلت سابقا بالمنطق والفقه وعلم الكلام، ويشير هؤلاء إلى أن حروف المعاني تدخل في النظم، ولا تدل على معنى في العمق، إنما تؤدي في التركيب لونا من الزخرف أو إيقاعا في التنغيم الصوتي أو فائدة في التركيب كالتوكيد أو قوة الربط أو الإنابة عما وراءها يقول سيبويه: ليس زيدٌ ببخيل ولا جباناً. الباء دخلت على شيء، لو لم تدخل عليه لم يُخل بالمعنى ولم يُحْتج إليها. ألا تراهم يقولون: حسبك هذا وبحسبك هذا، فلم تغير الباء معنى، وجرى هذا مجراه قبل أن تدخل الباء. أ. هـ أي دخول الباء كخروجها، فدخولها لتوكيد المعنى وقوة الربط.

أقول: إن دخول الباء على بخيل نفت عنه أدنى درجات البخل وعدم دخولها على جبان لاحتمال بعض الجبن فيه أما البخل فمنتف عنه أصلا.

ويقول ابن جني: إذا قلت ليس زيد بقائم فقد نابت الباء عن (حقا)و (ألبتَّةَ) و (غير ذي شك) وإذا قلت: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم فعلنا كذا حقا أو يقينا وإذا قلت: أمسكت بالحبل: فقد نابت الباء عن قولك: أمسكت مباشرا له وملاصقة يدي له. وإذا أكلت من الطعام فقد نابت (مِنْ) عن البعض وكذلك، بقية ما لم نسمه فإذا كانت هذه الحروف نوائب عما هو أكثر منها لم يجز من بعد ذا أن نتخرق عليها فننتهكها ونجحف بها.

وأختم حديثي عن دعوى الزيادة بأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال ابن جني وسيبوبه.

فأقول: ما دام الحرف بعض الفعل من حيث كان مُعديا له وموصلاً، فهو جزء منه، أو كالجزء لقوة اتصاله به وشدة امتزاجه، فهو يعتده كالبعض له، فكيف ندعي زيادته؟!

هذه اللغة شهدت بحكمتها العقول، وتناصرت إليها أغراض ذوي التحصيل بوجه يقبله القياس، وتنقاد إليه دواعي النظر والإنصاف، فما خفي عنا فيها فلا نخِفُّ إلى نقضه، مما ثَبتَ اللَّه أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه، بل نتهم نظرنا فيه، ولا نسرع إلى إعطاء اليد بفتح بابه، ونتأتى له ما استطعنا، حتى نبلغ حاجتنا، ويفتح اللَّه لنا مغاليقه، فنفقه الغرض من ذكر هذه الحروف بقوة الباصرة وملاطفة التاول ودوام التأمّل وما ادعى زيادتها إلا مَن حمل هذه اللغة على ظاهرها، وصار إلى احتذاء رسومها، أما من تمكن، فيها وتركح في وجوهها ونواحيها، فقد جعل في هذه الحروف تحصينا لسلامتها، وتزاحما لأغراضها، وإثراء لمعانيها.

ترك تعليق