التضمين وتناوب الحروف (1)


(لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره الا بحجة يجب التسليم بها) الطبري.
(والعرب تضمن الفعل معنى الفعل، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف نقوم مقام بعض) ابن تيمية.
(وظاهرية النحاة بجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره. هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه، وطريقة حذاق أصحابه) ابن قيم الجوية.
(وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها منبعض، ويحمل بعضها معاني البعض، فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقيس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال). ابن العربي.
(إن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يصل إلى معموله بحرف والآخر يصل بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موضع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر). ابن يعيش.
طَويتُ نفسي ذات يوم على موضوع شائك، كاني أطلب فيه خبيئة خفيت عني، وأتدسس إلى دفين مرّ به المفسرون مستعجلين.
عجبا … كيف ينوب الحرف عن أخيه وهو لا يحمل معناه في نفسه إلا على استحياء!.
ترخّص في تناوب الحروف مَن ترخص من المقلدين ليخرج من وعورة المسلك، ويفر من صعوبة البحث، إلى قرب المأخذ وسهولة التناول. وأما الحُذاق المتقنون فإلى التضمين في الفعل أميل، وفيه أرغب، وبه أعنى، وسيبويه أولهم ركابا لهذا الثَبَج غير هيّاب منه، وأكثر كلام أتباعه عليه.
ولعل الذي حملهم على هذا الخلاف، دقة المدخل وغموض الحال، ولو تساهم أُلو النظر في التأمل في معاني الحروف، وإمعان النظر فيها، والبحث عن سرها ومستودعها، لمكنّهم من اكتلاء غُررها واجتلاء أبكارها وعُونها.
وما كان هذا الحسن في حروف العربية، وهو الذي لوى أعناق الفصحاء والبلغاء، إلا لما بناه سبحانه على أسرار استودعها فيها. فلا تقفْ على الفعل مبهوتا بلا لحظ، ولا على حرفه المتعدي به محشوبا بلا تأمل:

﴿ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ تعدى (فرض) بـ في ومعناه أوجب وألزم.
﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ﴾ وتعدى بـ (مِن) ومعناه قسما.
﴿ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لهُ ﴾ وتعدى باللام ومعناه أحل أو قدر.
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ﴾ وتعدى بـ (على) ومعناه أنزل.
نعم (فرض) يتعدى بأكثر من حرف ويختلف معناه باختلاف الحرف المتعدي به كما رأيت، أوليس هذا دليلا غير مدفوع على أن التضمين جرى في الفعل لا في الحرف، وشاهد على فساد مَن ذهب إلى خلافه؟!.
وهذا ابن القيم يسوق لفعل السمع أربعة معانٍ:
1 – سَمْعُ إدراكٍ ومتعلقه الأصوات ويتعدى بنفسه ﴿ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ ﴾.
2 – سَمعُ فهمٍ وعقلٍ ومتعلقه المعاني ﴿ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾.
3 – سَمْعُ إجابة ويتعدى باللام (سمع اللَّه لمن حمده).
4 – سَمْعُ انقياد ويتعدى بـ (مِن) في الحديث قال: ” ما سمعت مني ” وفي حديث آخر: ” تكلم يُسمع مِنك “.
فحين يتعدى الفعل بأكثر من حرف يكون المستنبَط والمُستخرَج دقيقا، والتماسه صعبا، ولا يُدرك إلا بالغوص. هذا فعل دخل تعدى بـ (على) وفيوالباء. جعل السيوطي على بمعنى في ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ ﴾ وجعل في بمعنى مع ﴿ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ ﴾ وابن هشام جعل الباء بمعنى مع ﴿ وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ﴾.
وإنَّمَا قالوا بتناوبها عندما عجزوا عن استشفاف معانيها. فإذا كانت هذه الحروف تَهي عن حَفل معناها لعواني ذواتها، فكيف بها تتجشم احتمال سواها مما يعاورها أو تنوب عنه؟! إن غياب الحرف المألوف مستبدلا بسواه يُنبئ بولادة معنى جديد. إجماع بعض المفسرين على تضمين حرف معنى حرف
ليس بحجة، فالحرف لا يقوم معناه بنفسه فكيف يتضمن معنى سواه؟ وتخصيص العليم في تنزيله لحرف ما واختياره إياه، فيه من المَنْبَهة والحكمة ما يُشير إلى امتيازه؛ والإبداع إنما كان في اختياره، والنجاح يكون في التعويل عليه دون سواه، والعبرة في النهاية هي في الكشف عن سره حين خرج عن مألوفه.
إنك إن قلت ما قالوا ضللت الطريق وابتعدت عن مطلوبك، بل انظر إلى التركيب بجُمعه. فالأفعال لا تعطي فائدتها المرجوة حتى تأخذ ضربا من التركيب، وفي هذا التركيب لا بُد من فتح قنوات اتصال بين مفردات الجملة ليؤدي كل لفظ دوره، فالمرونة في التعامل مع الجوار للإحاطة بأبعاد كل
لفظ. والرؤية الشمولية في المعالجة تتجاوز ضيق الأفق، وتبقى مفتوحة الأعين على البدائل الأخرى لتسمع توجيه المعنى عند الآخرين. فلو غيرت في هذه
الحروف التي تعدت بها والتي بخصوصيتها أفادت لأخرجتها من كمال بيانها إلى جفاف معناها، وضيق أفق مدلولها. وكلم من أفعال انحطت عن رتبتها حين قطعناها عن حروفها بدعوى تعاورها أو بزعم مَنْ جعلها زائدة، فازدرتهاالعيون بعد أن كانت طامعة في حسنها المكتسب، وراغبة في جمالها المستفاد، وذلك عن طريق نظامها الفريد وأسلوبها المتميز ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ قال أبو عبيدة والأخفش: (عن) زائدة وقال غيرهم: معناها (بعد).
ولا أحسن مما ذهب إليه ابن الحاجب في تضمين المخالفة معنى الحَيَدان لقد عزاها عن فضلها من ادعى بتناوبها، وجُل حُسنها هو تعديها بغير حرفها المعهود، وكيف يتأتى لشادي حُسنها أن يستشف جمالها إلا برؤيتها في عِقدها المنظوم؟ فإن فَرَطْتها من سِلكها أفْقدْتها أهم خصائصها، فإن أَبَيْتَ وعاودت، فخُذْ في غير هذه الصناعة.
فحين يقول (يشرب بها) في قوله سبحانه ﴿ يشَرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾ أي يشرب منها، فقد سلبها حلاوتها، وسر جمالها هو في طريقة عرضها وتعديها بغير حرفها، فإذا كانت الباء بمعنى من فلماذا عدل ربنا العليم في أسلوبه المعجز، وبيانه المبين من حرف إلى حرف سكت عن الجواب القائلون بتناوب الحروف – وجل المُفسرين على هذا – وذهب القائلون بالتضمين إلى أن (شرب) معنى روي وليس في هذا مَقنع لأن الرِي يكون من ظمأ، وأهل الجنة لا يظمؤون (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) الشرب في الجنة إذاً من أجل الاستمتاع والتلذذ ولذلك جيء بالباء إيذاناً بهذا المعنى، وتجلية له، وتشوفا إليه. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا عدل ربنا عن لفظ الاستمتاع إلى لفظ الشرب؟ لو قال سبحانه: عينا يستمتع بها عباد الله، لانصرف الذهن إلى إمتاع البصر في انفجار الماء من هذه العين وتدفقها وفورانها، أو إمتاع السمع بصوت تدفق الماء وخريره، أو إمتاع الجسد بالسباحة والابتراد، أو إمتاع النفس بهذا المشهد الكلي. ولكن الغرض هو الاستمتاع بالشرب على وجه الخصوص لأنه مذوق، والذائقة أخص الحواس وأشدها، ولذلك كانت العناية بها منه سبحانه. أما بقية الصور والألوان فمراده على وجه العموم عن طريق التضمين.
وهكذا يختزن الفعل مع حرفه من المعاني والصور في سياق التضمين ما يُسفر ويَضَح مع الاستقراء له وإلطاف النظر فيه مما نفتقده في التناوب والتعاور.
وهذا من أسرار هذه اللغة الشريفة العظيمة الشأن، فالفعل يحمل معنى في نفسه، ومعنى مع الحرف الذي عُدي به، ويومئ به إليه، ومعنى في تركيبه في جملته يوحي بالمنطوق ما ليس منطوقا فإذا الفعل مولود جديد بشخصية جديدة، قد لا تحمل ملامح أرومتها، وأزيدك استبصاراً في تهافت من يرى في التعاور مخرجا أو مذهبا: عَدى ربنا العليم فعل (رزق) بالحرف (في) ﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾ ورزق يتعدى بـ (مِن) وقال القائلون بالتناوب والتعاور: (في) معناها (مِنْ) ولو سألت: لم عدل سبحانه من حرف إلى حرف؟ وليس بين الحرفين فرق في الإيقاع الموسيقي فكلاهما حركة وسكون. والجواب الشافي يرد على لسان الزمخشري وأخذه عنه أبو حيان في البحر والآلوسي في روح المعاني قال: أي اجعلوها مكانا لزرقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من أرباح أموالهم، لا من صلب المال، لئلا يأكلها الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل منها كما قال بعض المفسرين لكان الإنفاق من المال نفسه. ولعل سائل يسأل: لم عدل تعالى عن (اتجروا) إلى (ارزقوا)؟

أجيب: لو قال اتجروا لصرنا ملزمين بتشغيل أموالهم بالتجارة على وجه الخصوص، وإن لم نجد التاجر الصدوق والصفقة الرابحة.

إذاً في إبدال حرف بحرف غرض له سبحانه عدل إليه وساقه من أجله.
وهذه سنة مسلوكة وعادة مألوفة وطريقة مُتلئبة في هذه اللغة الشريفة لا يُنكرها إلا من نَزُر منها حظه وتخلفت عنها مداركه.
أرأيت حفظك اللَّه كيف حاز التضمين هذا الشرف الرفيع بتوجيه (رزق) إلى (اتجر) وعن طريق هذه العصا السحرية (في).
ولو قلنا ما قاله أصحاب الرأي الفطير بتناوب الحروف وتعاورها، لنفد مال اليتيم في سنوات معدودات، ثم مد يده ليتسول قبل أن يشتد عوده، ولو قيل: ما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه؟ لقلت: التجارة سبب من أسباب الرزق ووسيلة من أحسن وسائله، فالعلاقة بينهما سببية. وبهذه الرؤية الواسعة لمكانة الحرف والنظرة الشمولية للنص نتفادى مطبَّات القائلين بالتناوب والتقارض.
فإن تحاميت رعاك اللَّه هذا المسلك الشاق مدعيا غموض حاله، ومتهيبا من ارتياض معاناته، لدعتْك كثافة الذهن إلى إنكار هذه اللطائف ولكنك إن طبنت له، ورفقت به، أولاك جانبه وأمطاك كاهله، ولكشفت عن أسراره.
وهذا غور آخر بطين نجتاحه لتزداد يقينا فيما ذهبنا إليه، وعُمقا في معرفته. قال سبحانه: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ﴾ قال الحسن: صراط إليَّ مستقيم. وقال مجاهد: الحق يرجع إلى اللَّه وعليه طريقه. وقيل: (على) فيه للوجوب. أي على بيانه وتعريفه والدلالة عليه نظيره ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ فالسبيل القاصد يرجع إلى الله. قال الشاعر: فهُنَّ المنايا أي واد سلكته … طريقي عليها أو على طريقهافإن قيل: لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة (إلى) التي للانتهاء لا (على) التي للوجوب ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴾ قيل: في أداة (على) سر لطيف وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط، على هدى، وعلى حق، كما قال في حق المؤمنين: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ وقال لرسوله: ﴿ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ فاللَّه هو الحق، وصراطه حق، ودينه حق، فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى، فكان في (على) ما ليس في (إلى) فتأمله فإنه سر بديع. فإن قلت: فكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق وعلى الهدى؟ قلت: لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى، مع ثباته عليه واستقامته إليه، فكان في (على) ما يدل على علوه، وثبوته واسقامته، بخلاف الضلال والريب، فإنه يؤتى فيه بأداة (في) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدشسه فيه ﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ ﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ ﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾.

ترك تعليق