نشوء ظاهرة التضمين

لماذا اختصت بعض الأفعال بحرف معين كفعل قصد الذي يتعدى بـ (إلى) وفعل عمد المتعدي باللام على الفصيح؟ لعل هذا التخصيص وارد من قبل الملابسة الواقعة بين معنى الفعل ومعنى الحرف الملازم له، عمد والعمود والعمدة تفيد معنى الارتكاز والتحامل على الشيء بثبات، وهذا لا يتوافق مع
إلى أو عن أو سواه وإنما مع اللام التي تفيد الاختصاص أو الملك. وكذلك فعل قصد، والقصد والمقصود الذي يفيد التوجه إلى غاية مخصوصة ونهاية يطلبها، وهذا يتناسب مع إلى التي تفيد الغاية. وفعل رغب إذا أفاد انصراف النفس عن شأن من الشؤون تعدى بـ (عَنْ) وإذا أفاد انغماسها تعدى بفي.
فإذا كان هذا هو سر اختصاص هذه الحروف فكيف نفسر تعدّي الفعلبغير حرفه المعتاد؟ وكيف نفسر بعض الشواهد التي تخرج فيها الحروف عن معانيها المعتادة أو خصوصياتها؟ أقول: هذه عادة للعرب مألوفة وسنة مسلوكة: إذا أعطَوا شيئاً من شيء حكما قابلوا ذلك بأن يُعطوا المأخوذ منه حُكما من أحكام صاحبه، عمارة لبينهما، وتتميما للشبه الجامع بينهما. (فشرب) أعطيناه حكما من أحكام صاحبه (استمتع) في تعديته بالباء عمارة لبينهما، وحين غمض تفسير هذه الظاهرة على علمائنا الأجلاء، ساقهم الاجتهاد العقلي إلى افتراضٍ قدَّروه لتعليل هذه الظاهرة هو:

(التضمين) وغالبا يكون الافتراض سبيلا للتعليل والتفسير منذ القديم.
جاء في حاشية السجاعي على القطر لابن هشام أن أول من قدر التضمين البياني هو السعد أخذاً من عبارة وقعت للزمخشري في الكشاف على ما ذكره ابن كمال باشا في رسالة التضمين.
وجاء في أمالي السهيلي ما يلي: وتعدية (يخالف) بـ (عَنْ) في قوله تعالى: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) محمول على ينحرفون أو يروغون، ومثله تعدية رحيم بالباء في قوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) حملا على رؤوف (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ألا تقول: رافت به، ولا تقول: رحمت به؟
والرفث بمعنى الإفضاء في قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ومنها الإحماء في قوله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ) حملا على يوقد عليها. وفي قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ). والجاري على ألسنتهم: ظفرت به وأظفرني اللَّه به، ولكن جاء محمولا على أظهركم عليهم. أ. هـ. والظاهر من كلام السهيلي أنه أراد بالحمل معنى التضمين ليس غير.

الغرض من التضمين:

للتضمين غرض هو الإيجاز وقرينة هي تعدية الفعل بالحرف وهو يتعدى بنفسه، أو تعديته بنفسه وهو يتعدى بالحرف، أو تعديته بغير حرفه المعتاد، أو يتعدى لمفعول واحد عداه لمفعولين، أو يتعدى لمفعولين عداه لواحد، أو لازم عداه، أو متعد جعله لازما. وكثرة وروده في الكلام المنثور والمنظوم تدل على أنه أصبح من الطرق المفتوحة في وجه كل ناطق بالعربية متى حافظ على شروطه. فإن لم نرَ بين الفعلين العلاقة التي يُعتد بها فيما ذكرت، كان التضمين باطلا، فإذا وجدت العلاقة ولم يلاحظها المتكلم، فاستعمل فعل أذاع متعديا بحرف الباء، ظناً منه أنه يتعدى به، لم يكن كلامه من باب التضمين بل كان كلامه غير صحيح.
الكلام المشتمل على فعل عُدِي بحرف وهو يتعدى بنفسه، أو عُدِي بحرف وهو يتعدى بغيره، يأتي على وجهين: الوجه الأول: ألا يكون هناك فعل يناسب الفعل المنطوق به حتى تخرج الجملة علئ طريقة التضمين. ومثل هذا نصفه بالخطأ. الوجه الثاني: أن يكون هناك فعل ملحوظ يصح أن يقصد المتكلم بمعناه مع معنى الفعل الملفوظ، وبه يستقيم النظم إن صدر عن من شأنه العلم بوضع الألفاظ العربية، ومعرفة طرق استعمالها، فيحمل على وجهالتضمين الصحيح كما جاء في الحديث: كان رسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يتخولنا بالموعظة خشية السآمة علينا. فضمن السامة معنى المشقة فعداها بـ (على). فإن صدر هذا من جاهل باللغة كان لك أن تحكم عليه بالخطأ وإن سمعت قائلا يقول: أرجو اللَّه قضاء حاجتي. فلا جناح عليك أن تحكم عليه باللحن والخروج عن الفصحى لأن فعل الرجاء لا يتعدى إلى مفعولين إلا أن تجعل فعل (أرجو) مُشربا فعل (أسأل) بناء على أن بين الرجاء والسؤال علاقة السببية وتُدخل ذلك في باب التضمين.
فالغرض من التضمين إفراغ اللفظين إفراغا كأنَّ أحدهما سُبِك في الآخر فالمعنى لا يأتيك مُصرحا بذكره، مكشوفا عن وجهه بل مدلولا عليه بغيره، يشارفه من طريق يخفى ومسلك يدق، يتلوّح لك بعضه بالإيماء دون الإفصاح وذلك أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومُصارحة وجهَرا، عناية بما وراءه من معناه وتوصلاً إلى إدراك مطلبه الذي لا يفطن له إلا من أوتي النظر، ويستشف الغامض ويصل إلى الخفي، حتى كأنَّ الإفصاح به غير سائغ، والإعلان عنه مستوحش. والغرض من التضمين أن يكون لفظه ممطوراً، مفترًّا عن أزهاره، مُبتسما عن أنواره، يحمل في حروفه معنى، ويجر من ورائه معنى، أو يستتبع معنى، وهذا أشفى للنفس من المعنى الفذ.

والصلة بين المضمن والمضمن فيه قُرْبُ رحمٍ، تتعدى الظواهر إلى الضمائر لِتَخلُصَ إلى السرائر، فلا نرى تضمينا مقبولا صحيحا حتى يكون المعنى هو الذي تاهب لطلبه واستدعاه، وساق نحوه، وأهدى إلى مذهبه، بطريق من طرق الدلالة بمنطوقة أو مفهومه، مُوافقا لوضع اللغة، سائغاً في الاستعمال ولو على سبيل المجاز، ليزيد في قيمته ويرفع من قَدْره ويعلو فيمنزلته بجماله المستفاد من طريق العرض وحسنه المكتسب بالصنعة.

المصدر: التضمين النحوي في القرآن الكريم

 

ترك تعليق