التضمين وتناوب الحروف (3)


ذكر العزّ بن عبد السلام:
أن (مَنْ) تضمَّنت معنى النفي في قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ). معناه لا يرغب.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي لا أحد أظلم.
(فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) أي لا أحد ينصرني.
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) أي لا أحد أصدق.
* ومعنى الاستفهام في قوله تعالى:
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ).
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
(وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ). وهو كثير في كتاب الله.
* ومعنى الشرط في قوله تعالى:
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ).
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ).
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). وهو كثير في كتاب الله.

* وأن (ما) فتضمنت معنى الشرط في قوله تعالى:
(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ).
* ومعنى الاستفهام في قوله تعالى:
(الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2).
(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)
.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ). انتهى قول العز بن عبد السلام.
وقال المحققان شاكر وهارون في قول المرَّار بن مُنقذ: أملحُ الخلق إذا جردتها … غير سِمطين عليها وسُؤُر لحسبت الشمس في جلبابها … قد تَبدت من غمام مُنسفِر لحسبت جواب (إذا) بتضمينها معنى (لو) ولم نجد هذا الاستعمال فيما بين أيدينا من المصادر. أ. هـ.
أقول: إنما جاز هذا المعنى في هذا السياق لا لشيء رجع إلى نفس (إذا) بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (إذا) وهي مجيء اللام في حَسِب، وأكد أبو عبيدة على جواز التعاقب بقوله: ومن مجازات الأدوات اللواتي لهن معانٍ في مواضع شتى فتجيء الأداة منهن في بعض تلك المواضع لبعض تلك.
وذكر الأخفش: تعاقُب معاني الأدوات، وأخذ الفراء عنه وذكر في كتابه معاني القرآن كثيرا من تعاقب هذه الحروف بعضها مكان بعض، فقد أفاد من سابقيه كيونس وأبي عمرو بن العلاء. وأخذ عن الأخفش كثيرون كالفراء وابن قتيبة والمبرد والزجاجي وأبي علي الفارسي.
وأخذ المفسرون من هذه المصادر كل حسب رؤيته ومشتهاه فهذه (أو) في قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا).
قال الزمخشري معنى (أو) ولا تطع أحدهما. فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل ولا تطعهما جاز أن يُطيع أحدهما. وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أن النهي عن طاعتهما جميعا أنهى.
وقال أبو السعود: (أو) للدلالة على أنهما سيّان في استحقاق العصيان والتقسيم: باعتبار ما يدعونه إليه. فإن تَرتُبَ النهي على الوصفين مُشعرٌ بكليهما له.
وقال أبو حيان: النهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما.
وقال أبو عبيدة: (أو) بمعنى الواو، وأما (أو) في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) فهي بمعنى (بل) على مذهب الفراء وبمعنى الواو على مذهب قطرب.

وأما (أو) في قوله تعالى: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) قال الجمل: (أو) تضمنت معى الواو لقوله: (حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
وهذه (هل) في قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ). قال الزمخشري: هل بمعنى قد. وقال الجمل: ليست هل للاستفهام لأن الاستفهام محال على الله، وقال بعضهم إنها للاستفهام والجواب مقدر.
وهذه (على) في قوله تعالى: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى).
ذكر أبو حيان: قيل على بمعنى اللام وتقدير الخبر المحذوف كائن لمن اتبع الهدى ومثلها: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
ذكر الجمل: أن (على) بمعنى اللام أي لأجل الأصنام – مفعول لأجله.
أقول: تحتمل (ما) أو (مِنْ) أو (إذا) أو (هل) أو سواها أكثر من معنى كما ذكر شاكر وهارون في (إذا) معنى (لو) وكما وجدنا في (هل لك في) معنى ترغب وفي: (هل لك إلى) معنى أدعوك حتى إذا ظهر في النص مرجح يصرفها إلى أحد الاحتمالات المخصصة لها في مدلول معين، شارفتْه وتَلَوحت له واستغنت به عن سواه. أما التعاور فلا أرى له مساغا لأنه حَصْرٌ للحرف في منظور ضيق لينتهي به إلى حطب يابس.

 

ترك تعليق