المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [أصلُ الاشتقاق]


الفعلُ مشتقُّ من المَصدر. وقالَ الكوفِيُّون المصدرُ مشتقُّ من الفعل.
ولمّا كان الخِلافُ واقعًا في اشتقاقِ أحدِهما من الآخرِ لزمَ في ذلك بيانُ شيئين:
أحدُهما: حدُّ الاشتقاق.
والثاني: أنَّ المُشتقَّ فرعُ على المشتقّ منه.

أمّا الحدُّ: فأقربُ عبارةٍ فيه ما ذكره الرُّماني وهو قوله: الاشتقاق: اقتطاع فرع من أصلٍ يدور في تصاريفه [على] الأَصل، فقد تضمَّن هذا الحدّ معنى الاشتقاق، ولزمَ منه التَّعرّض للفرع والأصل.
وأمّا الفرعُ والأصلُ: فهما في هذه الصِّناعة غيرُهما في صناعةِ الأَقِيسَةِ الفِقْهِيّةِ، فالأصل هاهُنا يُراد به الحُروف المَوضوعة على المَعنى وَضْعًا أوّليًا، والفَرعُ لَفظُ توجدُ فيه تِلكَ الحُروف مع نوعِ تغييرٍ ينظمُّ إليه مَعنى زائدٌ على الأصلِ، والمثالُ في ذلك ((الضَّربُ)) مثلاً فَإنّه اسم موضوعٌ على الحَركةِ المَعلومة المُسمّاة ضَربًا، ولا يَدلُّ لَفظُ الضَّرب على أكثرِ من ذلك، فأمَّا ضَرَبَ، ويضرب، وضارب، ومضروب ففيها حروف الأصل وهي الضاد والراء والباء، وزيادات لفظيّة لزم من مجموعها الدّلالةُ على معنى الضرب ومعنى آخر، وإذا تقرّر هذا المعنى جئنا إلى مسألة المصدر.
وقد نصّ سيبويه على اشتقاق الفعل من المصدر، وهو قوله في الباب الأول: وأمّا الأفعال أُخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لمامضى ولما هو كائن لم ينقطع ولما سيكون. وأخذت بمعنى اشتقّت وأحداث الأسماء ما كان منها عبارة عن الحدث وهو المصدر، والدليل على أنّ الفعل مشتق من المصدر طرق منها:
وجود حدّ الاشتقاق في الفعل، وذلك أنّ الفعل يدلُّ على حدث وزمان مخصوص فكان مشتقّاً وفرعاً على المصدر، كلفظ ضارب ومضروب، وتحقيق هذه الطَّريقة أنّ الاشتقاق يراد لتكثير المعاني، وهذا المعنى لا يتحقّق إلاّ في الفرع الذي هو الفعل، وذاك أنّ المصدر له معنى واحد وهو دلالته على الحدث فقط، ولا يدلّ على الزَّمان بلفظه، والفعل يدلّ على الحدث والزمان المخصوص، فهو بمنزلة اللفظ المركّب، فإنّه يدلّ عليه المفرد، ولا تركيبَ إلاّ بعدَ الإِفرادِ، كما أنّه لا دِلالةَ وعلى الحَدثِ والزَّمان المَخصوص إلاّ بعدَ الدِّلالةِ على الحَدَثِ وَحده، وقد مُثّل ذلك بالنَّقرة من الفِضّة، فإنَّها كالمادّة المُجرّدة عن الصُّورة، فالفِضّة من حيث هي فضّة لا صورةَ لها، فإذا صِيغ منها جامٌ، أو مِرآةٌ أو قارورةٌ كانت تِلك الصُّورة مادةً مخصوصةً،فهي فَرعٌ على المّادةِ المُجرّدة، كذلك الفعل هو دليلُ الحَدث وغيره، والمَصدر دليلُ الحَدث وحدَه، فبهذا يَتَحَقّق كونُ الفعلِ فرعًا لهذا الأَصلِ.
طريقةٌ أخرى: هي أنّا نقولُ: الفعلُ يشتمِلُ لفظُهُ على حروفٍ زائدةٍ على حروفِ المَصدَرِ، تدلُّ تِلك الزّيادةُ على معانٍ زائدةٍ، على معنى المَصدر فكانَ مشتقّاً من المصدَر كاسمِ الفاعلِ والمفعولِ والمكانِ والزّمانِ، كضاربٍ وضَرْبٍ ومَضروبٍ، وبيانه: أنَّك تَقولُ في الفعلِ ضَرَبَ فتحرّك الراء فيختلفُ معنى المَصدر، ثمّ تقول استضْرَب فتدلّ هذه الصّيغة على معنى آخر، ثمّ تقول اِضرب ونَضرب وتَضرب ويَضرِب، فتأتي هذه الزّوائد على حروفِ الأصلِ وهي الضّاد والرّاء والباء مع وجودها في تلك الأمثِلة، ومعلومٌ أنَّ ما لا زيادةَ فيه أَصلٌ لما فيه الزّيادة.
طريقةُ أُخرى: هي أنَّ المصدَر لو كان مُشتقّاً من الفعلِ لأدَّى ذلك إلى نَقضِ المعاني الأُوَل، وذلك يخلّ بالأصول، بيانه: أنّ لفظَ الفعل يَشتملُ على حروفٍ زائدةٍ ومعانٍ زائدةٍ وهي دِلالته على الزَّمان المَخصوص، وعلى الفاعل الواحدِ، والجماعةِ والمؤنّثِ والحاضرِ والغائبِ، والمصدَرِ يذهبُ ذلك كلُّه، إلاّ الدّلالة على الحَدث، وهذا نقضٌ للأَوضاعِ الأُوَل، والاشتقاقُ يَنبغي أن يُفيد تَشييدَ الأصولِ وتَوسعة المَعاني، وهذا عَكسُ اشتقاقِ المَصدر من الفِعل.

واحتجَّ الآخرون من ثَلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنَّ المصدَرَ مفْعَل وبابه أن يكون صادِرًا عن غيرِه، وأمَّا أن يَصدُرَ عنه غيرُه فكلاّ.
والثاني: أنّ المصدَرَ يعتلّ لاعتلالِ الفعلِ، والاعتلالُ حكمٌ تسبقه علّته، فإذا كان الاعتلالُ في الفعلِ أولاً وجبَ أن يكون أصلاً، ومثالُ ذلك قولُكَ صامَ صِيامًا، وقامَ قِيامًا، فالواو في قام: أصلٌ اعتُلّت في الفِعل فاعتُلّت في القِيام، وأنتَ لا تقولُ اعتُلّ ((قامَ)) لاعتلالِ القيامِ.
والوجهُ الثالث: أنّ الفعلَ يَعملُ في المَصدرِ كقولك: ((ضَربته ضربًا)). ف ((ضربًا)) منصوب ب ((ضربت))، والعاملُ مؤثِّرٌ في المَعْمُولِ، والمُؤَثِّرُ أَقوى من المُؤَثَّرِ فيه، والقُوّةُ تَجْعَلُ القَوِيَّ أصلاً لِغيره.
والجواب: أمّا الوجهُ الأول فليس بشيء؛ وذلك أنّ المصدرَ مشتقٌّ من صدرت عن الشيء إذا وليتَه صدرَكَ وجعلتَه وراءَك ومن ذلك قولهم: ((المَورِد والمَصدَرُ)) يشارُ به إلى الماء الذي ترد عليه الإبل ثمّ تَصدر عنه ولا معنى لهذا إلاّ أنّ الإِبل تتولّى عن الماء، وتصرِفُ عنه صدورَها فيقالُ قدصَدَرَتْ عن الماءِ وقد شاعَ في الكلام قولُ القائل: فلانٌ موفّقٌ فيما يُورده ويُصدره، وفي مَوارده ومَصادره، وكلٌّ ذلك بالمعنى الذي ذَكرناه، وبهذا يتحقّق كون الفعل مُشتقّاً من المَصدر؛ لأنّه بمنزلةِ المكانِ الذي يَصدُرُ عنه.
أمّا الوجهُ الثّاني: فغير دالٍّ على دَعواهم؛ وذلك أنّ الاعتلالَ شيءُ يُوجبه التَّصريفُ وثِقَلُ الحُروف، وبابُ ذلك الأَفعال؛ لأنّ صيغَها تَختلف لاختلاف معانيها، فقامَ مثلاً أصله قَوَمَ، فأُبدلت الواوُ ألفًا، لتحرُّكها، فإذا ذَكرت المَصدر من ذلك كانَت العِلّةُ المُوجبة للتغييرِ قائمةً في المَصدَرِ وهو الثِّقَل.
وجواب آخر: وهو أنّ المصدرَ الأصليَّ هو ((قَوْم)) كقولك ((صَوْم)) ثمّ اشتَققت منه فعلاً وأعللته لما ذكرنا، فعدلت عن قومٍ إلى قيام؛ لتناسب بين اللّفظين للمعنيين المشتركين في الأصل، يَدلّ على ذلك أنَّ المصدرَ قد يأتي صَحيحًا معتلٌّ، والفعلُ يجبُ فيه الإعلال، مثل الصّوم والقّول والبَيع، فإذا اشتققتَ منها أفعالاً أعلَلْتَها فقلت: صامَ وقامَ وباعَ.
فقد رأيتَ كيفَ جاءَ الإعلالُ في الفعلِ دونَ المصدَرِ؟ فاختلَّت الثّقةُ بما عُلّل به.
وأمَّا الوجهُ الثالثُ فهو في غايةِ السُّقوط، وبيانُه من أوجهٍ ثلاثة:

أحدُها: أنَّ العاملَ والمَعمولَ من قبيلِ الأَلفاظِ، والاشتقاقَ من قبيلِ المَعاني، ولا يدلُّ أحدُهما على الآخرِ اشتقاقاً.
والثاني: أنَّ المصادِرَ قد تَعمل عَمَلَ الفِعلِ كقولك: يُعجِبني ضربُ زيدٍ عمرًا، ولا يدلُّ ذلك على أنّه أَصلٌ.
والثالث: أنّ الحُروفَ تَعملُ في الأسماءِ والأفعالِ ولا يَدُلُّ ذلك على أنَّها مشتقّةٌ أصلاً، فضلاً على أن تكونَ مُشتقّةً عن أن تكونَ مُشتقّةَ من الأسماءِ والأفعال: والله أعلمُ بالصواب.

المصدر: التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق