كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

نشأة النحو وتدرجه:

نشأ النحو أول أمره صغيرا، شأن كل كائن، فوضع أبو الأسود منه ما أدركه عقله، ونفذ إليه تفكيره، ثم أقره الإمام على ما وضعه وأشار عليه أن يقتفيه، فقام بما عهد إليه خير قيام، ولم يهتد بحث العلماء إلى يقين فيما وضعه أبو الأسود أولا على ما سلف تفصيلا، وكانت هذه النهضة الميمونة بالبصرة التي كان في أهلها ميل بالطبيعة إلى الاستفادة من هذا الفن اتقاء لوباء اللحن الزاري بصاحبه وخاصة الموالي الذين كانوا أحوج الناس حينذاك إلى تلقي هذا العلم رغبة منهم في تقويم لسانهم وتخليصه من رطانة العجمة، وحبا في معرفة لغة الدين الذي اعتنقوه، وطمعا في رفع قدرهم بين العرب، فصدقت عزيمتهم في دراسته والتزيد منه، وما انفكوا جادين فيه بعدئذ حتى نبغ منهم كثير قاموا بأوفى قسط في هذا العلم، وقادوا حركته العلمية. قال المبرد “مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده”[1]، فكان منهم علماؤه المبرزون دراسة وتأليفا حتى أشير إليه ردحا من الزمن أنه علم الموالي.

فلأبي الأسود الفضل الوافر في بدء الغرس الذي نما وترعرع وازدهر على كر الزمان بإضافة اللاحق إلى السابق ما استدركه وما ابتدعه، فازداد فيه التدوين والتصنيف شيئا فشيئا، غير أن هذا العلم لم تطل عليه الأيام كسائر الفنون فاكتمل وضعه قبلها، والباعث على النشاط فيه والسرعة شعور العرب بالحاجة إليه قبل كل علم، فإن الفتوحات الإسلامية متوالية في الأمصار، والعرب متدفقون عليها، والامتزاج مستحكم بينهم وبين من دخلوا في حوزتهم وعثير [2] اللحن منتشر أقذى الأبصار، فهب العلماء لا يلوون على شيء منكمشين في تدوينه فكان يسير بخطا فسيحة تبشر بالأمل القوي العاجل حتى نضج ودنا جناه، فتم وضعه في العصر الأموي دون سائر العلوم اللسانية.

وما استهل العصر العباسي إلا وهو يدرس دراسة واسعة النطاق في العراقين “البصرة والكوفة” وكمل وأوفى على الغاية في بغداد ولما ينقض العصر العباسي الأول وذلك قبل تمام القرن الثالث الهجري.

ولقد تلمسنا تعرف المراحل التي اجتازها هذا العلم طبقا لنواميس النشوء فلكل علم أطوار يمر بها كما يمر الحي بأطوار الحياة وليدا وناشئا وشابا وكهلا في كثير من الكتب التي يخال فيها التعرض لذلك فما وقفنا على ما يشفي الغلة وينير السبيل، فلاح لنا بعد إنعام الفكرة وإطالة النظرة أن نجعل الصلة بين هذه المراحل وبين العلماء القائمين بأمر هذا الفن إذ كان على أيديهم ما نقله من طور إلى آخر.

روى لنا التاريخ أن البصريين هم الذين وضعوه وتعهدوه بالرعاية قرابة قرن، كانت فيه الكوفة منصرفة عنه بما شغلها من رواية الأشعار والأخبار، والميل إلى التندر بالطرائف من الملح والنوادر، ثم تكاتف الفريقان على استكمال قواعده، واستحثهما التنافس الذي جد بينهما واستحرت ناره ردحا من الدهر ينيف على مائة سنة، خرج بعدها هذا الفن تام الأصول، كامل العناصر، وانتهى الاجتهاد فيه، وحينذاك التأم عقد الفريقين في بغداد، فنشأ المذهب البغدادي الذي عماده الترجيح بين الفريقين.

ثم شع نور هذا العلم في سائر البلاد الإسلامية التي احتفظت به بعد أن دالت دولة بغداد العلمية، وفي طليعتها الأندلس في عصرها الزاهر، ومصر المعزية والشام وما يتأخمها.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة


[1] الكامل مع الرغبة ج٤ ص١٩٣.

[2] العثير: التراب، والعجاج: الغبار والدخان.

ترك تعليق