التَّقدِيمُ

وقَد يَضطَرُّ الشَّاعِرُ أنْ يَضَعَ الكَلامَ فِي غَيرِ مَوضِعِهِ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُوضَعَ فِيهِ، ويُزِيلُهُ عَنْ قَصدِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ، والَّذِي لا يَحسُنُ فِي الكَلامِ غَيرُهُ، ويَعكِسُ أحيَاناً الإعرابَ، فيَجعَلُ الفَاعِلَ مَفعُولاً، والمَفعُولَ فاعِلاً، ويُقدِّمُ ما حَقُّهُ التَّأخِيرُ، ويُؤخِرُّ ما حَقُّه التقدِيمُ، وأَكثَرُ ما يَجرِي ذلِكَ فِيما لا يُشكِلُ مَعناهُ،

فَمِنْ ذلِكَ قَولُ الشَّاعِرِ: (من البسيط)

لَمَّا رَأَى طالِبُوهُ مُصعَبَاً ذُعِرُوا *** وكَادَ، لَوْ سَاعَدَ المَقدُورُ، يَنتَصِرُ[1]

وقد تأخَّر خبر كاد، وهو جملة ” ينتصر “، وحقُّه أن يتقدَّمَ على الجملة الاعتراضية ” لو ساعَدَ المقدُورُ “.

وقولُهُ: (من الطويل)

كَسَا حِلمُهُ ذا الحِلمِ أثوابَ سُؤدَدٍ *** ورَقَّى نَدَاهُ ذا النَّدَى فِي ذُرَى المَجدِ[2]

وقولُهُ: (من الطويل)

ولَو أنَّ مَجدَاً أَخلَدَ الدَّهرَ واحِداً *** مِن النَّاسِ أَبقَى مَجدُهُ الدَّهرَ مُطعِما[3]

وقوله: (من الطويل)

جَزَى رَبُّهُ عنِّي عدِيَ بنَ حاتِمٍ *** جَزَاءَ الكِلابِ العَادِياتِ، وقد فَعَلْ[4]

وقوله: (من البسيط)

جَزَى بَنُوهُ أبا الغِيلانِ عن كِبَرٍ*** وحُسنِ فِعلٍ كما يُجزَى سِنِمَّارُ[5]

فلو كانَ الضَّمِيرُ المتَّصِلُ بالفَاعِلِ المتقَدِّمِ عائِداً علَى ما اتَّصَلَ بِالمفعُولِ المُتأَخِرِ امتَنَعَتِ المَسأَلةُ.

وقولُهُ: (من البسيط)

جاءَ الخِلافَةَ أو كانَتْ لَهٍُ*** قَدَراً كَما أَتَى رَبَّهُ مُوسَى علَى قَدَرِ[6]

تَقَدَّمَ المَفعُولُ بِهِ ” ربَّه ” علَى الفَاعِلِ ” مُوسَى “، وكانَ حقُّهُ التأخِيرَ مَعَ أنَّ فيهِ ضَمِيراً يعودُ علَى متأخِرٍ لَفظاً ورُتبةً.

ومن التقديمِ أيضاً تقديمُ المفعولِ بِهِ علَى الفاعِلِ. ومن ذلِكَ قَولُهُم: (من الطويل)

تَزَوَّدْتُ مِن لَيلَى بِتَكلِيمِ سَاعةٍ ٍ*** فَمَا زَادَ إلَّا ضِعفَ ما بِي كلامُها[7]

وعندَما يَكُونُ الخَبَرُ مَحصُوراً بإنَّما، نحو: ” إنَّما زَيدٌ قائِمٌ ” أو بـ ” إلَّا “، نحو: ” ما زَيدٌ إلَّا قائِمٌ “، وهو المُرادُ بِتَقدِيمِ المبتدأِ وحَصرِ الخَبَرِ، فلا يجوزُ في المثاليْنِ تقديمُ ” قائم ” على ” زَيد “، وقد جاءَ التقدِيمُ مَعَ ” إلَّا ” شُذُوذَاً، كَقولِ الشَّاعِر: (من الطويل)

فيا رَبِّ هل إلَّا بِكَ النَّصرُ يُرتَجَى *** علَيهِم؟ وهلْ إلَّا علَيكَ المُعوَّلُ[8]

والأصلُ: ” وهلِ المُعَوَّلُ إلَّا علَيكَ” فَقَدَّمَ الخَبَرَ.

ولا يَجُوزُ تَقدِيمُ الخَبرِ علَى الَّلامِ، فلا تَقُولُ: ” قَائِمٌ لَزَيدٌ “، لأنَّ لامَ الابتِداءِ صَدرُ الكَلامِ، وقد جاءَ التَّقدِيمُ شُذُوذَاً، كَقَولِ الشَّاعِر: (من الكامل)

خالِي لَأَنتَ، ومَنْ جَرِيرٌ خالُهُ *** يَنَلِ العَلاءَ، ويُكرِمِ الأَخوَالا[9]

والأصل: ” لأنتَ ” مبتدأ مؤخر، و” خالِي ” خَبَرٌ مُقَدَّمٌ.

وبعد فإنَّ التَّقدِيمَ هُوَ وَضعُ الكَلامِ فِي غَيرِ مَوضِعِهِ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُوضَعَ فِيهِ، والَّذِي لا يَحسُنُ فِي الكَلامِ غَيرُهُ، ويُقدِّمُ ما حَقُّهُ التَّأخِيرُ، ويُؤخِرُّ ما حَقُّه التقدِيمُ، وأَكثَرُ ما يَجرِي ذلِكَ فِيما لا يُشكِلُ مَعناهُ، فرأينا تقديمَ الخبرِ علَى المُبتدأِ، والمفعولِ به علَى الفَاعِلِ، وتأخيرِ الخبرِ، وهذِهِ الحالاتُ جاءَتْ فِي الشِّعر ضَرُورةً.

 


[1] شرح ابن عقيل 1: 448.والشاهد فيه: ” رَأَى طالِبُوهُ مُصعَبَاً ” فقد أخرَّ المفعول عن الفاعل، علماً أنَّه مع الفاعل ضميراً يعود على المفعول، فعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة.

[2] المصدر نفسه 1: 449.والشاهد فيه: ” كسا حلمه ذا الحلم، ورقى نداه ذا الندى” فإنَّ المفعول فيهما متأخر عن الفاعل، ومع الفاعل ضمير يعود على المفعول، فيكون فيه الضمير عائد على متأخر في اللفظ والرتبة.

[3] المصدر السابق 1: 449. والشاهد فيه: ” أبقى مجده مطعما ” فقد أخرَّ المفعول، وهو ” مطعما ” عن الفاعل وهو قوله: ” مجده ” مع أنَّ الفاعل مضاف إلى ضمير يعود إلى المفعول، فيقتضي أن يرجع الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة.

[4] شرح ابن عقيل 1: 450. والشاهد فيه: ” جزى ربه …عدي” أخر المفعول به، وهو قوله: ” عدي “، وقدم الفاعل، وهو قوله: ” ربُّه ” مع اتصال الفاعل بضمير يعود على المفعول لفظاً ورتبة.

[5] شرح ابن عقيل 1: 451. والشاهد فيه: ” جزى بنوه أبا الغيلان ” فقد أخر المفعول ” أبا الغيلان” عن الفاعل ” بنوه ” مع أنَّ الفاعل متصل بضمير يعود على المفعول لفظاً ورتبة.

[6] شرح ابن عقيل 2: 214.

[7] المصدر السابق 1: 445. والشاهد فيه: ” فَمَا زَادَ إلَّا ضِعفَ ما بِي كلامُها” قدم المفعول به “ضعف ” على الفاعل ” كلامها ” مع كون المفعول منحصراً بـ “إلا “.

[8] شرح ابن عقيل 1: 220. والشاهد فيه: ” بك النصر” و ” عليك المعول ” فقد قدم الخبر المحصور بإلا في الموضعين شذوذاً.

[9] شرح ابن عقيل 1: 221. والشاهد فيه: ” خالي لأنت ” فقد دخلت اللام على الخبر ضرورة، وحقها التقديم..