مسائل نحوية متفرقة (7)

مسألة [٥٠]

ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب من المعرفة يكون الاسم الخاص فيه شائعا في الأمة، زعم أن قولهم لضرب من الكمأة: هذا نبات أوبر، معرفة، وإنما حجته في تعريف هذا الضرب وتنكيره ترك صرف ما ينصرف منه في النكرة ولا ينصرف في المعرفة، فإذا رآه لا ينصرف علم أنه “يراد به” المعرفة، لأنه لو كان نكرة انصرف، أو يراه منع من حرفي التعريف فعلم أنه لو كان نكرة دخلا عليه كما دخلا على ابن المخاض وابن اللبون، فأما بنات أوبر فلا دليل فيه بترك صرفه، لأن أوبر أفعل الذي هو صفة، وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، وقد دخل عليه حرفا التعريف فدلا على أنه كان قبل دخولهما نكرة، قال:

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا … ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

فأما الأصمعي فزعم أنهم أدخلوا الألف واللام مضطرين، وذهب إلى مثل ما قاله سيبويه أنه معرفة ولكنهم اضطروا كما اضطر الذي قال:

باعد أم العمرو من أسيرها

فهذا بمنزلة الحارث والعباس، يجريه كما كان صفة وما أرى بهذا بأسا.

قال أحمد: أما قوله: إن بنات الأوبر لا دليل فيه بترك الصرف، لأن أوبر أفعل الذي هو صفة، وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فلم ينسبه إلى سيبويه في بنات أوبر على أنه معرفة بترك الصرف، ولكنه وجده في العرب الفصحاء بغير ألف ولام، وإنما دخلت فيه الألف واللام في الشعر، فلما رآه ممتنعا من الألف واللام في معظم كلامهم وعند الفصحاء منهم حكم عليه بأنه معرفة، إذ كان ذلك أحد دليليه في الباب وهو الامتناع من الصرف فيما ينصرف مثلا في النكرة، والامتناع من الألف واللام، والدليل على إرادته هذا الوجه الأخير قوله بعد ذلك في آخر الباب: (وقال ناس: كل ابن أفعل معرفة لأنه لا ينصرف، وهذا خطأ لأن أفعل لا ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول: هذا أحمر قمد، فترفعه إذا جعلته صفة لأحمر، ولو كان معرفة كان نصبا) فقد أنكر على هؤلاء إذ أحتجوا بالامتناع من الصرف في كل موضع، لأن بعض /٦٩/ النكرات قد لا ينصرف لأنه صفة، وقد رد عليه أيضا محمد بن يزيد “هذه” العبارة.

مسألة [٥١]

ومن ذلك قوله في هذا الباب: وكل أفعل نكرة، وأما قولهم: إنه معرفة لأنه لا ينصرف فليس بشيء، لأن أفعل لا ينصرف في النكرة.

قال محمد: أما قصده فمصيب، ولكن الكلام على غير استواء إنما ينبغي أن يقول: ما كان منه غير وصف أو كان مثالا انصرف في النكرة، وما كان وصفا لم ينصرف وإن كان نكرة كما قال:

كأنا على أولاد أحقب لاحها … ورمي السفا أنفاسها بسهام

جنوب ذوت عنها التناهي وأنزلت … بها يوم ذباب السبيب صيام

قال أحمد: أما قوله: إنه كان ينبغي أن يقول: ما كان منه غير وصف أو كان مثالا انصرف في النكرة، فهذا على الحقيقة غير مستو، لأنه لا معنى لذكر المثال في باب بنات أوبر، وإنما يذكر هذا المثال في باب ما ينصرف وما لا ينصرف من الأمثلة، وليس له ها هنا حقيقة موضع، وإنما يذكر في هذا الباب أسماء غير أمثلة، والأمثلة تذكر هناك، والقول المصيب في اللفظ والمعنى ما قال سيبويه، لأن القوم الذين رد عليهم إنما ادعوا أن ابن افعل في هذا الباب على الإطلاق والعموم معرفة لأنه لا ينصرف، فقال سيبويه رادا عليهم: هذا خطأ لأن أفعل قد لا ينصرف وهو نكرة، فجعل استدلالهم على أنه معرفة بترك الصرف خطأ من أجل أن أفعل قد يقع في الكلام نكرة وهو لا ينصرف، يعني إذا كان وصفا، فأي فساد في هذا اللفظ؟

مسألة [٥٢]

ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب [ما] ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده، زعم أنه يقول: هذا قائما رجل، فينصب قائما على الحال لأنه لا يجوز أن يجعل رجلا صفة لقائم، فينصب على جواز هذا رجل قائما، إلا أنه الوجه لما قدمه، وكذلك فيها قائما رجل، وصدق هذا القياس ولكنه أجاز مع هذا أن تقول: هو قائما رجل، وهذا محال،

وقد ناقض فيه، لأنه لا يجوز هو رجل قائما وهو يرد هذا وجميع الناس.

قال أحمد: لم أره جعل بين الرد /٧٠/ وبين كلام صاحبه غير زيادة حرف النفي، وذل أنه قال: لا يجوز، فزاد (ولا) فقط، ولم يبين من أين امتنع ذلك، وأدعى أن سيبويه يرد قول نفسه وجميع الناس كذلك، وليس الأمر كما قال وبيان ذلك أن الكوفيين بأسرهم يجيزون هذا الباب، ولا يفرقونه، وإنما سيبويه حكى عن الخليل في المعارف إذا وقعت بعد المضمرات في مثل قولك: هو زيد منطلق أنه لا يجوز، وليس هذا من ذلك، لأنه ليس كل الناس يعرف زيدا، إنما يعرفه بعض ويجهله بعض، وليس رجل كذلك، وما أشبهه من النكرات، وإنما صار الكلام محالا في زيد ونظائره، لأنك إذا قلت هو زيد [قائما] فإنما تعرف المخاطب في نفسه إذا كان لا يعرفه إذا حل عندك محل من لا يعرفه، ولم ترد تنبيهه على فعل من أفعاله أو وصف من أوصافه، ولم يجز أن تأتي بالحال وأنت تريد هذا المعنى. ولو أتيت بالحال وأنت تريد هذا المعنى لعرفته في نفسه فقلت: هو زيد منطلقا، لكنت كأنك قلت: هو زيد في هذه الحال، فأوهمت أنه ليس زيدا، إذ لم يكن مبهما، فإذا قلت: أخبر أنه زيد وأنه منطلق بالرفع في منطلق إذا أردت ذلك، لأنك جعلته خبرا ثانيا أو مبنيا على مبتدأ محذوف فتقول: هو زيد منطلق، أعلمت أنه زيد وأنه منطلق وهذا جائز، وإذا قلت: هذا زيد منطلقا، فإنما تنبهه على زيد وقد تقدمت معرفة المخاطب به، كأنك قلت: هذا الذي تعرف منطلقا، ولم ترد أن تفيده زيدا، ولو أردت ذلك لكان سبيله في رفع منطلق سبيل المسألة الأولى، وسبيل رجل كسبيل زيد مع هذا إذا قلت: هو رجل يفعل كذا وفاعل كذا، فلم ترد أن تفيده رجلا وإنما أردت أن تفيده فعله، فجاز أن تصف به الأول وأن تجعله حالا، ولا فرق بين قولك: هذا رجل صالح وهو رجل صالح في هذا المعنى الذي ذكرناه لأن الرجل معلوم عند المخاطب في المسألتين وإنما أفدته الصلاح، فإن شئت جعلت صالحا نعتا، وإن شئت حالا، لأن معنى الكلام لا يستحيل كما يستحيل في قولك: هو عمرو منطلقا إذا أردت أن تعرفه عمرا وهو لا يعرفه.

وسألت أبا إسحاق عن هذه المسألة فأجاب بأنها لا تجوز /٧١/ إلا “على” أن تجعل رجلا في معنى الرجلة وفي الشجاعة، وهذا الذي ذهب إليه قد جاء به سيبويه في المعرفة لأنه قال: “إذا قال” الرجل: أنا فلان وهو يريد الافتخار حسنت الحال بعده، وكذلك إذا قال: أنا عبد الله وهو يريد التذلل والتصغير لشأنه قال بعده: آكلا كما يأكل العبيد وهذا التأويل منساغ في المعرفة والنكرة.

مسألة [٥٣]

قال: ومما أصبناه في التاسع من ذلك في باب الابتداء: (واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنى عليه شيئا هو هو أو يكون في زمان أو مكان) وأنت قد تقول: زيد ضربته والفعل خير عنه وليس به ولا هو من الزمان والمكان، وكذلك إذا قلت: زيد عمرو ضارب أباه، وزيد أبوه منطلق، وإنما كان ينبغي أن يقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره، فيجمع هذا أجمع.

قال أحمد: أما اعتراضه بقوله: زيد ضربته وأنه خارج عن هذا، فهو شيء “قد” ابتدأ به في صدر كتابه، واستغنى عن إعادته هنا، وجعله في باب الفاعل والمفعول به لأن الابتداء عارض فيه، ألا ترى أنك، إذا قلت: زيد ضربته، جاز النصب في زيد وإن شغلت عنه الفعل، لأنه في المعنى مفعول به على كل حال وإن كان مبتدأ، ألا ترى أنك لو أتيت بالحروف والمعاني التي هي بالفعل أولى لكان النصب أجود، وذلك في الاستفهام والأمر والنهي والنفي، وإنما تعلق بظاهر كلامه لأنه أجرى الكلام في ظاهره على العموم وهو يريد التخصيص، وذلك أنه قال: إن المبتدأ لابد أن يكون المبني عليه شيئا هو هو، وإنما أراد المبتدأ المحض الذي يكون الخبر عنه شيئا واحدا لا جملة، وليس هذا يعيبه في الكلام، لأنه كثير في كلام العرب، وقد جاء في القرآن العام في موضع الخاص والخاص في موضع العام، ومن العجب أنه رد هذا النوع من الكلام بمثله ودخل فيه، وذلك أنه لما قال: وإنما كان ينبغي أن يقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره فيقال له: فهل يجوز أن تقول: زيد أبوه، لأن فيه ذكره؟ فإذا قال: لا يجوز ذلك، لأن أباه ليست جملة /٧٢/ يتم بها الكلام، قيل له: فقد كان ينبغي أن تزيد هذا في وصف كلامك وتخصصه فتقول: لابد من أن يكون المبني عليه شيئا هو هو أو شيئا فيه ذكره مما يتم كلاما، فإذا قلت هذا فقد بقي عليك بعد ما يصحح الكلام بأن يقال: فنحن نقول: زيد عندك، وليس في عندك ذكر لزيد، فإن قال: هو في المعنى وإن لم يكن ملفوظا به، قيل: فعندك لا تتم وحدها كلاما، فقد صار في عند أحد المعنيين، وهو أن فيها ذكرا وليس فيها المعنى الآخر، وهو أن يكون كلاما [تاما]، فإذا قال أي الوجهين شاء فسد عليه لفظه، وليس بصحيح غير ما قال سيبويه، وقد أتى بمسائل عدة ردها على هذا النحو في العموم والخصوص، وهو ضعيف جدا، فيه تجامل، ويتلو هذه المسألة مسائل ذهب فيها إلى هذا المعنى، ونحن ذاكروها إن شاء الله.

المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد

ترك تعليق