محمود حسن عمر

 

الحذف في مجمهرة عدي بن زيد العبادي

الحذف لغةً واصطلاحًا:

الحذف لغةً: الإسقاط، “يقال: حذف الشيء حذفًا: قطَعه من طرَفِه، ويُقال: حذف الحجَّامُ الشعر: أسقَطه..، وحذف الخطيب الكلامَ: هذَّبه وصفَّاه[1].

 الحذف اصطلاحًا: إسقاط جزءِ الكلام أو كله لدليلٍ[2].

 والحذف ظاهرة كثيرة الذكر في كتب العربية، وقد تناوَلها النحاة والبلاغيُّون والمفسرون؛ فابن جني أعدَّ لها بابًا سمَّاه: “بابٌ في شجاعة العربية” وذكر أن العرب لا تحذف إلا لدليلٍ وبيِّنةٍ وغايةٍ، يقول: “قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة، وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه، وإلا كان فيه ضربٌ من تكليف علم الغيب في معرفته[3].

 وقال عنه عبدالقاهر الجرجاني: “هو بابٌ دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيهٌ بالسحر، فإنك ترى به تركَ الذكر أفصحَ من الذكر، والصمتَ عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدُك أنطقَ ما تكون إذا لم تنطق، وأتَمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِنْ[4].

 

يقول الدكتور سليمان ياقوت: “والنحاة انطلقوا في ظاهرة الحذف من قاعدة أساسها أن التركيب اللغوي لا بد له من طرفين أساسين؛ هما: المسند، والمسند إليه، فإذا استغنى المتكلم عن أحدهما، قُدِّر محذوفًا؛ لتتمَّ به الفائدة أو الجملة….. فهي ظاهرة ترتبط كثيرًا بالمستويات اللغوية؛ كالمستوى التركيبي، والمستوى الدلالي، ولا يمكن إقامة هذين المستويين في الجملة دون تقدير ما هو محذوف ورَدِّه إلى مكانه، على ضوء ما تمَّ وضعه من قواعد وقوانين[5].

 الحذف في المجمهرة:

يقول عدي:

4- وعاذلةٍ هَبَّتْ بليلٍ تَلومني ♦♦♦ فلمَّا غَلَتْ في اللومِ قلتُ لها اقْصِدِي

فـ(عاذلة) الأصل فيها: (ورُبَّ عاذلةٍ)، فحُذِفتْ (رُب) بعد الواو، وحذفُ (رُب) بعد الواو وبقاء عملها كثير كما قال النحاة.

 وجاء الحذف أيضًا في قوله:

15- كفى زاجرًا للمرءِ أيامُ دهرِهِ ♦♦♦ تَروحُ له بالواعظاتِ وتَغتدِي

فالفعل (تغتدي) حُذِف الجارَّان والمجروران المتعلقان به، لدلالة الجارَّيْن والمجرورين السابقين عليهما، فأصل التركيب: تَروح له بالواعظات وتَغتدي له بالواعظات.

 وقوله أيضًا:

26- وسائسِ أمرٍ لم يَسُسْه أبٌ له ♦♦♦ ورائمِ أسبابِ الذي لم يُعوَّدِ

(وسائس أمرٍ): الأصل فيها (ورُبَّ سائس أمرٍ)، فحُذِفتْ (رُبَّ) بعد الواو، وبَقِي عملُها، فجرَّت كلمة (سائس)، وفي الشطر الثاني: (ورائمِ أسبابِ): الأصل فيها (ورُبَّ رائم أسبابِ)، فحُذِفتْ (رُبَّ) بعد الواو، وبَقِي عملُها، فجرَّت كلمة (رائم).

 وقوله:

27- وراجي أمورٍ جمةً لن ينالها ♦♦♦ ستَشْعَبُه عنها شَعُوبٌ لِمُلحدِ

(وراجي أمورٍ): الأصل فيها (ورُبَّ راجي أمورٍ)، فحُذِفتْ (رُبَّ) بعد الواو، وبَقِي عملُها، فجرَّت كلمة (راجي أمورٍ).

 وقوله:

28- ووارثِ مجدٍ لم يَنلْه وماجدٍ ♦♦♦ أصابَ بمجدٍ طارفٍ غيرِ مُتْلَدِ

(ووارثِ مجدٍ): الأصل فيها (ورُبَّ وارثِ مجدٍ)، فحُذِفتْ (رُبَّ) بعد الواو، وبَقِي عملُها، فجرَّت كلمة (وارث مجدٍ)، وكذلك (وماجدٍ) الأصل فيها ورُبَّ ماجدٍ، فحُذِفتْ (رُبَّ) بعد الواو، وبَقِي عملُها، فجرَّت كلمة (ماجدٍ).

 وهناك أبيات جاء فيها حذفٌ واجبٌ، فلا تُعَد من عوارض التركيب، وهي قوله:

18- فنفسَكَ فاحْفَظْها عن الغَيِّ والرَّدى ♦♦♦ متى تُغْوها يَغْو الذي بك يَقتدِي

30- وبالعدلِ فانطِقْ إن نطقتَ ولا تَلُمْ ♦♦♦ وذا الذمِّ فاذْمُمْه وذا الحمدِ فاحْمَدِ

فالكلمات (نفسَك، وذا الذم، وذا الحمد) منصوبات على الاشتغال، وحذف الفعل هنا واجب.

 وقوله:

23- إذا أنت فاكهتَ الرجالَ فلا تَلَعْ ♦♦♦ وقلْ مثلَ ما قالوا ولا تَتزيَّدِ

24- إذا أنت طالَبتَ الرجالَ نَوالَهم ♦♦♦ فعِفَّ ولا تأتي بجهدٍ فَتَنْكَدِ

44- إذا أنت لم تَنفعْ بوُدِّك أهلَه ♦♦♦ ولم تَنكِ بالبُؤسى عَدوَّك فابْعُدِ

فالفعل هنا قد حُذِف وجوبًا بعد (إذا) وأنت فاعل للفعل المحذوف، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، فالسماء فاعل مرفوع بفعل محذوف وجوبًا يُفسِّره المذكور، والتقدير: إذا انشقت السماء انشقت.

 


[1] المعجم الوسيط، ج1، ص 192.

[2] البرهان في علوم القرآن؛ للزركشي، ج3، ص 115.

[3] الخصائص؛ لابن جني، ج 2، ص 360.

[4] دلائل الإعجاز، ج1، ص 146.

[5] قضايا التقدير النحوي بين القدماء والمحدثين؛ للدكتور سليمان ياقوت، ص 209.

ترك تعليق