الجواب عن هذا السّؤال مِن شأنه أن يساعدَ على تجلية مراد اللّه تعالى، ومراد رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لكثير من نصوص[1] الوحيين الشّريفين، كتابًا وسنّةً. وهو شيءٌ يلزم كلَّ مسلم إدراكُه؛ لِتَعلُّقِهِ بالتَّكليفِ المنوطِ به من قبل اللّه جلّ جلالُه.
الفرق بين الفقير والمسكين

 

هل بينهما فرقٌ، أم أنّهما لفظان لِمُسمًّى واحد؟

الجواب عن هذا السّؤال مِن شأنه أن يساعدَ على تجلية مراد اللّه تعالى، ومراد رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لكثير من نصوص[1] الوحيين الشّريفين، كتابًا وسنّةً. وهو شيءٌ يلزم كلَّ مسلم إدراكُه؛ لِتَعلُّقِهِ بالتَّكليفِ المنوطِ به من قبل اللّه جلّ جلالُه.

قال ابن قتيبة[2]: (وممّا يضعُه النّاسُ في غير موضعِه: (الفقير والمسكين)، لا يكاد النّاسُ يَفرُقُون بينهما، وقد فَرَقَ اللّهُ تعالى بينهما في آية الصّدقات [ولم يجمعهما باسمٍ واحدٍ] فقال عزّ اسمُه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ- 60 من سورة التّوبة) وجعل لكلّ صنفٍ [منهما] سَهْمًا ..).

وللعلماء في هذه المسألة ثلاثةُ مذاهب يأتي استعراضُها؛ وسببُ اختلافهم يعود إلى ما ذكره أبو هلال العسكريّ في كتابه الفروق[3]، قال – رحمه اللّه -: (الفرقُ بين الفقير والمسكين: لا خلافَ في اشتراكهما في وصفٍ عدميٍّ، هو عدمُ وفاءِ الكسبِ بالكُلِّيَّة، والمالِ لمؤنته، ومؤونةِ عِياله. وإنّما الخلافُ في أيِّهما أسوأُ حالاً. ومنشأُ هذا الخِلاف اختلافُ أهلِ اللُّغة في ذلك).

ولعلّ في هذا التّحرير ما يكشف عن الفارق بينهما من عدمه، وعن أيِّهما أصلح حالاً. فإلى بيان ذلك:

تعريف الفقير: الفَقْرُ، بالفتح ويُضَمُّ لغة[4]، ضِدُّ الغِنَى، وأَصلُ الفَقْرِ: الحاجةُ، والفقيرُ: المحتاجُ. قال ابنُ عرفة: (الفَقِيرُ عند العرب المحتاجُ؛ قال اللهُ تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[5]؛ أَي المحتاجون إِليه).

أمّا عن حقيقته؛ فقد قيل فيه أقوال يُمكِنُ إجمالُها في قولين:

1- الفَقيرُ: هو مَنْ يَجِدُ القُوتَ، وله بُلْغَةٌ من العيشِ تُقيمُه وعِيالَه. كالسُّؤَّالِ، وأَهلِ الحِرْفةِ الضّعيفة الذين لَا يَقْدِرُون عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعْ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِم.

2- الفقير: هو القاعدُ في بيتِهِ لا يسأَلُ، ولا يُشْعَرُ به فيُعْطَى؛ فلا شيءَ له البتَّةَ؛ لِزَمانة به، مع حاجةٍ شديدةٍ؛ تَمنَعُهُ الزَّمانةُ من التَّقَلُّبِ في الكسب على نفسِهِ وأهلِهِ أمثال: الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ (الْعُمْيَانُ) الضِّعاف.

تعريف المسكين: المِسْكينُ[6]، بكسر الميم، وأَصلُه في اللّغة: الخاضعُ الذّليلُ الْمَقْهُورُ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، والمسكنَةُ هي الذُّلُّ والخضوعُ وتَواضُعُ الحالِ؛ قال اللّهُ تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ[7] أي الذُّلُّ والهوانُ؛ فالمسكينُ بهذا الاعتبارِ قد يكونُ فقيرًا، وغنيًا. قيل: سُمِّيَ بذلك لِسُكُونِهِ إلَى النَّاسِ، أو لأنّه مِن قِلَّةِ المالِ سَكَنتْ حركاتُه؛ ولذا قال تعالى: ﴿ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ أي لاصِقٌ بالتّراب، وقد تَقعُ المَسْكَنة على الضَّعف؛ ومنه حديثُ قَيْلَة[8] قال لها صلّى اللّه عليه وسلّم: (صَدَقَتِ المِسْكِينةُ)؛ أَرادَ الضَّعفَ، ولم يُرِدِ الفقرَ. ويمكنُ أَن يكونَ مِن هذا قولُه سبحانه حكايةً عن الخِضْرِ عليه السّلام: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِِ[9]، فسمّاهُم مساكينَ لِخُضوعِهِم وذُلِّهِم مِن جَوْرِ الملِك الّذي يأْخذُ كلَّ سفينةٍ وجدَها في البحر غَصْباً؛ قال سيبويه: المِسْكينُ من الأَلفاظ المُتَرَحَّمِ بها، تَقولُ مررتُ به المِسْكينَ.

وعليه؛ فإِذا كانَ هذا المسكينُ إِنّما مَسْكَنَتُه من جهة الفَقْرِ؛ حَلَّتْ له الصّدقة، وإِذا كان مسكيناً قد أَذلَّهُ سوى الفَقْرِ؛ فالصّدقةُ لا تَحِلُّ له، إِذْ كان شائعاً في اللّغة أَن يُقالَ: ضُرِبَ فلانٌ المسكينُ، وظُلِمَ المسكينُ، وهو من أَهل الثَّرْوَةِ واليَسار، وإِنّما لَحِقَهُ اسمُ المسكينِ مِن جهةِ الذِّلَّةِ، فمَن لم تَكُنْ مَسكنتُه من جهةِ الفقر، أعني: عُدم المال؛ فالصّدقةُ عليه حرامٌ.

أمّا عن حقيقته فقد قيل فيه أقوال يُمكِنُ إجمالُها في قولين:

أ‌- الصّحيحُ المحتاجُ، مِمَّن له البُلْغَةُ من العيش؛ لا تَكفيهِ وعِيالَهُ. أمثال: السُّؤّال الطَوَّافين على الأَبواب، وكلُّ مَن له حِرفةٌ لا تَفي بمُؤنَتِهِ.

ب‌- الذَّليلُ، الضّعيفُ، الّذي أَسْكَنَهُ الفقرُ وأذلَّهُ؛ فقَلَّلَ حَركتَه؛ ولا شيءَ له، ولا يقدرُ على السّؤال.

الفرق بين المِسْكين والفقير: وممّا يدلُّ على افتراقِهما في الجملة ما رُويَ عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ” اللّهمَّ أحيِني مِسكينًا، وأمِتني مسكينًا، واحشُرني في زمرة المساكين”[10] مع ما عُلِمَ مِن تَعَوُّذِهِ مِن الفَقْرِ.

1. من قال إنّ المسكينَ أحسنُ حالاً مِن الفقير، وأنّ الفقيرَ أسوأُ حالاً مِن المسكين: رُوِيَ ذلك عن الشَّافِعِيُّ، والأَصمعيّ، وابن السِّكِّيت، وعليُّ بن حمزة الأَصبهانيّ اللُّغويّ، وأَحمدُ بن عُبَيْد. قال في الفتح (4 / 107): ” وهذا قول الشّافعيّ وجمهور أهل الحديث والفقه “. وقد استدلُّوا لمذهبهم بما يلي:

أ‌- قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ [11]، فأَخبر أَنّهم مساكين، وأثبتَ لهم ملكيّة السّفينةً، حين نسبَها إليهم، وهي تُساوي مقدارا من المال. وأنّهم يعملون عليها في البحر؛ وكلام اللّهِ عزَّوجلَّ أولى ما يُحتجُّ به.

ب‌- وقال تعالى فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ: ﴿ لِلْفُقَرَِاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً … [12]. فهذه الحال الّتي أَخبر بها عن الفقراء هي دون الحال الّتي أَخبر بها عن المساكين.

ت‌- رُوِيَ أنّ عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنّه قرأ الآية: ” أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَّاكِينَ”[13] بتشديد السّين، أي لِمَلاَّحِينَ. قال ابن خالويه: سمعت ابن مجاهد يقول ذلك ويزعمُ أنّ قطربًا قرأ بذلك؛ فأفادتْ أنّهم أصحابُ مَهْنَة.

ث‌- وبُديءَ في آية الصّدقات بِالْفُقَرَاءِ، وهي قولُه عزّ اسمُه: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ…[14]؛ وذلك للاهتمام بشأنهم؛ لشدّة حاجتهم وفاقَتِهم؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ، وَإِنَّمَا يُبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. قال عليُّ بن حمزة[15]: (وأَنتَ إذا تأَمّلتَ قولَه تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمََسَاكِينِ ﴾، وجدتَه سبحانه قد رتَّبَهُم فجعل الثاني أَصلح حالاً من الأَوّل، والثالث أَصلح حالاً من الثاني، وكذلك الرّابع والخامس والسّادس والسّابع والثامن).

ج‌- وقال أيضًا[16]: (وممّا يدُلُّكَ على أَنّ المسكينَ أَصلحُ حالاً من الفقير أَنّ العربَ قد تسمَّتْ به، ولم تَتَسَمَّ بفقير؛ لِتناهي الفَقر في سُوء الحال، أَلا ترى أَنّهم قالوا: تَمَسْكَن الرّجلُ فَبَنَوْا منه فِعْلاً على معنى التّشبيه بالمسكين في زِيِّه، ولم يفعلوا ذلك في الفقير؛ إذ كانت حالُه لا يَتَزَيّا بها أَحدٌ؟. قال: ولهذا رَغِبَ الأَعرابيُّ الذي سأَله يونس عن اسم: (الفقير). لتَناهِيهِ في سوء الحال، فآثرَ التَّسمية بالمَسْكَنة.

ح‌- وفي الحديث[17]: ” لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ. قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا “.

وفي رواية[18]: ” إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾.

فالمسكينُ هو السّائل الطَّوَّافُ؛ لأنّه بمسألته تأتيهِ الكفاية، وتأتيه الزيادة عليها؛ فيزولُ عنه اسم المسكنة. والفقير لا يسأَلُ، ولا يُشْعَرُ به فيُعْطَى؛ لِلُزومه بيته، أَو لامتناع سؤاله، فهو يَتَقَنَّع بأَيْسَرِ شيءِ، كالّذي يتقوَّتُ في يومه بالتَّمرة والتَّمرتين، ونحو ذلك، ولا يسأَل محافظةً على ماء وجهه من إراقتِه عند السُّؤال؛ فحالُه إذاً أَشدُّ من حال المسكين الّذي لا يَعْدِمُ من يُعطيه.

فإذا ثبتَ أََنّ الفقيرَ هو الّذي لا يسأَلُ، وأَنّ المسكينَ هو السّائلُ؛ فالمسكينُ إذاً أَصلحُ حالاً من الفقير، والفقيرُُ أَشدُّ منه فاقةً وضرّاً، إلاَّ أنّ الفقيرَ أَشرفُ نفساً من المسكين؛ لِعَدم الخُضوع الّذي في المسكين؛ لأَنّ المسكينَ قد جمع فقراً ومسكنة، فحالُه في هذا أَسوأُ حالاً من الفقير، ولهذا قال صلّى اللّه عليه وسلّم: ” ليس المسكينُ ” (الحديث)؛ فأَبانَ أَنّ لفظةَ المسكين في استعمال النّاس أَشدُّ قُبحاً من لفظة الفقير.

خ‌- وقد استعاذ رسولُ الله صلّى اللّه عليه وسلّم من الفقر، وسألَ المسكنة، حيث قال: ” اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر ” وقال: ” اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ “[19]. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شِدَّةَ الْحَاجَةِ، وَيَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ هي أَصْلَح مِنْهَا!.

د‌- قال[20] الرّاجز:

هَلْ لَكَ في أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ 
 

             تُغِيثُ مِسْكيناً قليلاً عَسْكَرُهْ 

عَشْرُ شِياهٍ سَمْعُه وبَصَرُه 
 
            قد حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ 
 
 

فأَثبتَ أَنّ له عشرَ شياهٍ، وأَراد بقوله عَسْكَرُه غَنَمُه، وأَنّها قليلة.

ذ‌- وَلِأَنَّ الْفَقْرَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ فقير بمعنى مَفْقُور، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ. قَالَ لَبيد[21]:

لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورَ تَطَايَرَتْ 

             رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ 

 

أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَانَ، كَاَلَّذِي انْقَطَعَ صُلْبُهُ. وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنْ السُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْ السَّاكِنِ.

2- مَنْ قالَ إنّ الفقيرَ أحسنُ حالاً مِن المسكين، وإنّ المسكينَ أسوأُ حالاً مِن الفَقير: قاله الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، ورواه ابن الأَنباريّ عن يونس، وهو قول أَبي حنيفة. وقد استدلُّوا لمذهبهم بما يلي:

أ‌- عن يعقوب بن السِّكِّيت قال: قال يونس قلت لأعرابيّ: أفقيرٌ أنت أم مسكين؟. فقال: لا، بل مسكينٌ؛ فأَعلمَ أَنه أَسوأُ حالاً من الفقير.

والجواب: هذا محتملٌ، ويُحتمل كذلك أنّه أراد: بل أنا أَحسن حالاً من الفقير، فكأنّه رَغِبَ عن اسم الفقير؛ لتَناهِيهِ في سوء الحال، فآثر التَّسمية بالمَسْكَنة.

ب‌- قال الرّاعي يمدح عبدَ الملك بن مَرْوان ويشكو إِليه سُعاتَه: (البسيط)
أَمّا الفَقِيرُ الّذي كانتْ حَلُوبَتُهُ[22] 

           وَفْقَ العِيالِ[23]، فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ[24] 
 

الشّاهد: أنّه أَثبتَ للفقيرِ حَلوبةً، وجعلَها وَفْقاً لِعيالِه.

والجواب: إنّ الشّاعر لم يُثْبِتْ أَنّ للفقير حَلوبة؛ لأنّه قال: (الّذي كانت حَلوبتُه)، ولم يقل الذي حَلوبَتُه، فأَعلَمَك أَنّه كانت له حَلوبةٌ فِيمَا مَضَى تَقُوتُ عِياله، ومَن كانت هذه حالُه؛ فليس بفقيرٍ، ولكن مسكين، ثمّ أَعلمَك بقوله: (فلم يُترَكْ له سَبَدٌ) أَنّ الحَلوبة أُخِذَتْ منه؛ فصارَ إذ ذاك فقيراً. ونظيرُ هذا قولُك: أَمّا الفقيرُ الّذي كان له مالٌ وثرْوةٌ؛ فإِنّه لم يُترَكْ له سَبَدٌ؛ فلم تُثْبِتْ بهذا أَنّ للفقيرِ مالاً وثرْوَةً؛ لأَنّه لايكونُ فقيراً مع ثروته وماله، وإنّما أَثبَتَّ سُوءَ حالِه الذي به صار فقيراً، بعد أَن كان ذا مالٍ وثروة؛ وكذلك يكون المعنى في قول الرّاعي.

فحصلَ بهذا أَنّ الفقيرَ في البيت هو الّذي لم يُترَكْ له سَبَدٌ بأَخذِ حَلُوبَتِه، وكان قبل أَخذ حَلوبته مسكيناً؛ لأَنَ مَن كانت له حَلوبةٌ فليس بفقير، وإذا لم يكن فقيراً فهو إمّا غنيٌّ، وإمّا مسكينٌ، ومَن له حَلوبةٌ واحدةٌ فليس بغنيٍّ، وإذا لم يكن غنيّاً لم يبق إلاّ أَن يكونَ فقيراً أَو مسكيناً، ولا يصحُّ أَن يكون فقيراً على ما تقدّم ذكره، فلم يبقَ أَن يكون إلاّ مسكيناً، فثبتَ بهذا أَنّ المسكينَ أَصلحُ حالاً مِن الفقير.

ت‌- قوله تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ [25]، فإنّه جعلهم مساكينَ بعد ذهاب السّفينة، أو لأنّ سفينَتَهم غير مُعْتَدٍّ بها في جَنبِ ما كان لهم من المسكنة؛ فإنّه روي بأَنَّ السَّفِينَةَ لم تَكُنْ مِلْكاً لهم؛ لأنّهم كانوا يَعْمَلُون فيها بالأُجْرَة. ويَشْهَدُ لذلك قِرَاءَةُ من قَرَأَ بالتَّشْدِيد (لِمَسَّاكِينَ).

والجوابُ أن يقال: إنّ الخروج بالنّص إلى ضرب من التّأويل، بحاجة إلى قرينة صارفة لمدلول ظاهر النّص، أو بيّنة من خارجه. والقول بأنّه جعلهم مساكين بعد ذهاب السّفينة لا يستقيم. لأنّ اللّام في قوله (لمساكين) تفيد التّمليك. والقول بأنّ سفينتَهم غير معتدٍّ بها؛ فهذا مجرّد تَخمين لا قيمة له. والقول بأنّهم كانوا أجراء كذلك؛ لأنّ القراءة صرّحت بكونهم أصحاب مهنة (ملاّحين).

ث‌- وصف اللهُ تعالى المسكينَ بالفقرِ؛ لمّا أَرادَ أَن يُعْلِمَ أَنّ خُضوعَه لِفَقرٍ، لا لأَمرٍ غيرِه بقوله عزّ وجلّ: ﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ[26]؛ والمَتْرَبةُ: الفقر، وهو الّذي لَصِقَ بالتُّراب، لشدَّة حاجته.

جوابُه أن يقال: إنّ اللّهَ عزَّ وجلَّ أَكدَّ سُوءَ حاله بصفة الفقر؛ ولا يُؤكَّدُ الشّيءُ إلاّ بما هو أَوكدُ منه.

ج‌- قالوا: المسكينُ أسوأ حالاً؛ لأنّه يؤكَّدُ به. يقال: فقيرٌ مسكينٌ، ولا يقال العكس. والتأكيد إنّما يكون بالأقوى.

جوابُه: إنّ الفقيرَ قد يخلو من مذلّة السّؤال كما وصفَ الله الفقراء بقوله: ﴿ تَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾؛ فهم لا يسألون النّاسَ، فإذا اضطرُّوا لسؤالهم عرّضوا أنفسَهم لمذلّة السّؤال؛ فيُقال لأحدهم حينئذٍ: فقيرٌ مسكينٌ.

ح‌- ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَِاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً …[27]، فوصفَهم بالفقر، وأخبرَ مع ذلك عنهم بالتَّعَفُّفِ حتّى يحسبهم الجاهلُ بحالهم أغنياءَ مِن التَّعَفُّفِ، ولا يحسبُهم أغنياءَ إلاّ ولهم ظاهرٌ جميلٌ وعليهم بزَّةٌ حسنةٌ.

جوابُه: قوله (أغنياء): استحقّوا هذا الوصفَ لاستغنائهم عن النّاس، وليس لجمال مظهرهم، وحسن بزّتهم. ثمّ إنّ الحال الّتي أَخبرَ بها المولى عزّوجلّ عن الفقراء هي دون الحال التي أَخبر بها عن المساكين؛ فتأمّل.

خ‌- ثبتَ في الصّحيحين[28] وغيرِهما مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (ليس المسكينُ الذي يطوفُ على النّاسِ تَردُّه اللُّقمةُ واللُّقمتانِ والتَّمرةُ والتَّمرتانِ، ولكنِ المسكينُ الّذي لا يجدُ غِنًى يُغنيهِ، ولا يُفطَنُ به فيُتَصَدَّقُ عليهِ، ولا يقومُ فيسألُ النّاسَ). وفي لفظٍ في الصّحيحين[29] مِن حديثه: ” ليس المسكينُ الّذي تردُّه التّمرةُ، والتّمرتانِ، ولا اللُّقمةُ، ولا اللُّقمتانِ، إنّما المسكينُ الذي يَتَعفّفُ، واقرؤُوا إنْ شِئتُم يعني قولَه تعالى: (لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).

فأفادَ هذا الحديثُ أنّ المسكينَ فقيرٌ لقوله: ” لا يجدُ غنًى يُغنِيهِ” مع زيادة كونه مُتعفِّفًا لا يقومُ فيسأل النّاسَ ولا يُفطَنُ له فيُتصدّق عليه. فالمسكينُ فقيرٌ متعفِّفٌ؛ وبهذا القيد يظهر الفرقُ بينهما، ويندفع قولُ مَن قالَ: إنّهما مستويان، وقولُ مَن قالَ: إنّ المسكينَ فوق الفقيرِ، وأعلى حالاً منه؛ لما هو معلومٌ مِن أنّ تَعَفُّفَه عن السّؤالِ، وعدم التّفطُّن لكونه فقيرًا؛ زيادة حاجة وعظم ضرورة.

والجواب: قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: (لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ). هَذَا تَجَوُّزٌ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ حَقِيقَةً، مُبَالَغَةٌ فِي إثْبَاتِهَا فِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)[30]. وَقَالَ: (مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟. قَال: قلنا الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ. قَالَ: لَيس ذاك بالرَّقُوبِ ولكنّه الرّجلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا)[31]. قَالَ: (فمَا تَعُدُّونَ الْمُفْلِسَ فِيكُمْ؟. قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ. قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، وَيَأْتِي وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا، وَلَطَمَ هَذَا، وَأَخَذَ مِنْ عِرْضِ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاته، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إذَا نَفِدَتْ حَسَنَاتُهُ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَصُكُّ لَهُ صَكٌّ إلَى النَّارِ)[32].

قال النّوويُّ في شرحه على مسلم (4 / 7 / 129): (قَوْله صلّى اللّه عليه وسلّم: “لَيْسَ الْمِسْكِين هَذَا الطَّوَّاف” إِلَى قَوْله صلّى اللّه عليه وسلّم فِي الْمِسْكَيْنِ: “الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيه” إِلَى آخِره، مَعْنَاهُ: الْمِسْكِين الْكَامِل الْمَسْكَنَة الَّذِي هُوَ أَحَقّ بِالصَّدَقَةِ وَأَحْوَج إِلَيْهَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الطَّوَّاف، بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَجِد غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ، وَلَا يَسْأَل النَّاسَ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَ أَصْلِ الْمَسْكَنَة عَنْ الطَّوَاف، بَلْ مَعْنَاهُ نَفْي كَمَال الْمَسْكَنَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ إِلَى آخِر الْآيَة).

3- مَن سوّى[33]بينهما: رواه الجوهريُّ عن ابن الأَعرابيّ. قال في الفتح (4 / 107): “وقال آخرون: هما سواء، وهذا قول ابن القاسم، وأصحاب مالك.

وليس يخفى ضعف هذا المذهب، وأمّا على سبيل التَّجَوُّز؛ فنعم. ثمّ إنّ القول به، يلزم منه الإقرار بمسألة التّرادف في اللّغة، وهو – في رأيي – مذهب محجوج بكثير من الأدلة، ليس هذا أوان بسطها.

وينظر:

1. أدب الكاتب (ص29 كتاب المعرفة – باب معرفة ما يضعه النّاس في غير موضعه).

2. إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم (ص92 سورة البلد) و(ص205 – 206 سورة الماعون).

3. الإفصاح في فقه اللّغة (ص692 ع2).

4. تاج العروس (13 /334 – 336 ف ق ر) و(35 /200 – 201 س ك ن).

5. التّوقيف على مهمّات التّعاريف (1 /656).

6. الزّاهر في غريب ألفاظ الشّافعيّ (1 /290 – 292).

7. السَّيل الجرّار (2 /53).

8. شرح النّوويّ على مسلم (4 /7 /129).

9. الصّحاح في اللغة (2 /782 فقر) و(5 /2137 سكن).

10. العين (1 /397).

11. غريب الحديث لابن قتيبة (1 /28).

12. الفائق في غريب الحديث والأثر (1 /127، 187).

13. فتح الباريّ (4 /106).

14. الفروق اللّغوية (1 /409 – 412 رقم 1645، 1646 حرف الفاء).

15. فقه اللّغة (ص43).

16. القاموس المحيط (ص457 – 458 الفقر) و(ص1206 سكن).

17. لسان العرب (5 /60 – 61 فقر) و(13 /214، 216 – 217 سكن).

18. مختار الصِّحاح (ص307 ع2) و(ص508 ع2).

19. المصباح المنير (ص171 ع1 س ك ن) و(ص284 ع2 ف ق ر).

20. المعجم الوسيط (ص440 ع3) و(ص697 ع2).

21. المغرب (3 /69) و(4 /192).

22. المغني (7 /313 – 315) و(11 /250 – 251).

23. مفردات الرّاغب (ص237 سكن) و(ص383 فقر).

24. النّهاية في غريب الأثر (3 /899).


[1] عددها حسب ما جاء في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لصاحبه محمد فؤاد عبد الباقي هو = 38 نصًّا. وبيانها كالتّالي:

أ- المسكين وما اشتقّ منه = 25 نصًّا. ب- الفقير وما اشتقّ منه = 13 نصًّا.

[2] أدب الكاتب (ص29 كتاب المعرفة).

[3] الفروق اللّغوية (1 / 409 رقم 1645 حرف الفاء).

[4] قال اللَّيْثُ: والفُقْرُ بالضَّمّ: لُغَةٌ رَدِيئَة. وقال الزّبيديّ: وقد قالُوهُ بضمَّتَيْن أَيضاً، وبفَتْحَتَيْنِ، نَقَلهما شَيخُنا.

[5] فاطر/ 15.

[6] مِفْعِيلٌ من السُّكون مثل المِنْطيق مِن النُّطْق، وأمّا المَسْكِينُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فلُغَةِ نادرة، لبَنِي أَسَدٍ؛ لأَنّه ليس في الكلام مَفْعيل.

[7] البقرة/ 61.

[8] اللّسان (13 / 217)، والفائق (1 / 338 الفاء مع الراء)، والنّهاية (2 / 971 السّين مع الكاف)، وغريب الحديث لأبي عبيد (3 / 52). وخرّجه في: المعجم الكبير (18 / 184 – 187 رقم 20525)، والسّنن الكبرى (6 / 150)، وسنن أبي داود (8 / 308 – 309 رقم 2667 – 2668).

[9] الكهف/ 79.

[10] اللّسان (13 / 216)، وانظره في: سنن التّرمذي (8 / 354 رقم 2275)، وابن ماجه (12 / 154 رقم 4116)، والمستدرك على الصّحيحين (4 / 466 رقم 7992)، والسّنن الكبرى (7 / 12)، وشعب الإيمان (21 / 437 رقم 10116).

[11] الكهف/ 79.

[12] البقرة/ 273.

[13] الكهف/ 79. وانظر: البحر المحيط (7 / 482)، وروح المعاني (11 / 361)، وغيرهما من كتب التّفسير.

[14] التّوبة/ 60.

[15] اللِّسان (13 / 215).

[16] أعني: عليَّ بن حمزة كما في اللِّسان (13 / 216).

[17] صحيح مسلم (4 / 7 / 129 نوويّ).

[18] صحيح مسلم (4 / 7 / 129 نوويّ).

[19] سبق تخريجه (ص؟ هامش5).

[20] اللّسان (13 / 215).

[21] اللّسان (5 / 62).

[22] الْحَلُوبَةُ: النَّاقَةُ الَّتِي تُحْلَب.

[23] وَفْقَ الْعِيَالِ: أَيْ أنّ لَبَنَهَا يَكْفِيهِمْ وحدَهم.

[24] وَالسَّبَدُ فِي الْأَصْل الشَّعْرُ، وَاللَّبَدُ: الصُّوفُ. وقَوْلُهُ: (لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدٌ)، مِنْ مَثَلِ الْعَرَبِ فِي النَّفْيِ الْعَامِّ؛ فإذا قالوا: ماله سَبَدٌ ولا لَبَدٌ، أي ليس له شَيْءٌ، لاجَملٌ ولا شاةٌ.

[25] الكهف/ 79.

[26] البلد/ 16.

[27] البقرة/ 273.

[28] مسلم (4 / 7 / 129 رقم 101 نوويّ)، والبخاريّ (4 / 104 رقم 1479 فتح)، واللّفظ له.

[29] مسلم (4 / 7 / 129 رقم 102 نوويّ)، والبخاريّ (9 / 63 رقم 4539 فتح)، واللّفظ له.

[30] أخرجه البخاريّ (12 / 148 رقم 6114 فتح)، ومسلم (8 / 16 / 162 نوويّ).

[31] أخرجه مسلم (8 / 16 / 161 نوويّ).

[32] المغني (7 / 315)، وهو في صحيح مسلم (8 / 16 / 135 – 136 نوويّ).

[33] الصّحاح (2 / 782 فقر) و(5 / 2137 سكن)، واللّسان (5 / 60 – 61) و(13 / 217)، وتاج العروس (13/ 336).

ترك تعليق