علم الدلالة واللسانيات

إذا حاولنا تضمين علم الدَّلالة داخل اللسانيات (علم اللغة)، سنفترض أنَّ الدَّلالة عنصر أو مستوى لسانيٌّ مَثَلُهُ مَثَلُ: الفوناتيك (الأصوات)، أو النحو، ولقد قَبِلَ اللغويون على اختلاف انتماءاتِهم أن تحتلَّ الدَّلالة طَرَفًا، ويحتلَّ الفوناتيك (الأصوات) الطَّرَفَ الآخَرَ، أما النحو: فيحتل المركز الوسط، فإذا اعتبرنا اللغة تُشكِّل نظامًا للمعلومات، أو تُشكِّل – بمعنًى أدقَّ – نظامًا للاتصال، فإنَّها ستزوِّد الرسالة (والمقصود بها المعنى هنا) بمجموعة من العلامات؛ (أي أصوات اللغة، أو رموز النص المكتوب)، ولقد أشار “دي سوسير” (ت 1916) إلى هذه الرموز باعتبارها أنها تمثل الدال:Signifier Signifiant، وأشار إلى المعاني باعتبار أنها تمثل Signifie – Signified، واستخدم مصطلح “العلامة”؛ ليشير إلى مجموع الدالِّ والمدلول؛ ولكن بعض أتباعه المتأخرين استخدموا “العلامة”؛ للإشارة إلى الدالِّ فقط.

وإذا مَثَّلْنا لذلك بأنظمة الاتصال – وهي عديدة – فإنها جميعها أسهلُ من اللغة بلا شك، من أمثلة هذه الأنظمة “علامات المرور”، و”الأصوات التي تُصدِرُها قرود الجبون” gibbons، فهي تُصدِر – مَثَلاً – مجموعةً من الأصوات المُحَدَّدة؛ لتُشير إلى اكتشاف الطعام، أو إلى الخطر الذي يتهددها، أو إلى الصداقة، أو إلى الرغبة في الصحبة؛ ولديها صيحة واحدة تفيد أنها تنوي إقامة موقع، وتمنع انتشاره إلى منطقة بعيدة إلى حد كبير.

وبالرغم من تشابُه اللغة مع أنظمة الاتصال الحيوانيّ مثلاً، إلا أنها تختلف عنها؛ فلِلُّغة وظيفةٌ اجتماعية فَضْلاً عن أنَّها وظيفة اتّصاليَّة، أضِف إلى ذلك أنَّ نظام الاتصال اللغويِّ أعقَدُ بِكثير من نظام الاتصال الحيوانيّ، لذا يُؤكِّد الباحثون أنَّ اللّغة الإنسانيَّة تختلف بدرجة أو بأخرى عن سائِرِ أنْظِمة الاتصال الأخرى، ذلك أنَّه من الصعب تحديد المقصود بالرِّسالة اللُّغوية، أمَّا في أنظمة الاتصال الأخرى، فلا نُصادِفُ هذه الصعوبة؛ لأن الرسالة يمكن أن تتحدد في ضوء اللغة المستخدَمة؛ ففي علامات المرور مثلاً يعني اللون الأحمر: قف، فالرسالة التي يحملها هذا اللون هو وجوب الوقوف، أما بالنسبة للرسالة اللغوية فليس لدينا حلٌّ سَهْل، لأننا لا نستطيع تحديد المعنى المقصود من الرسالة بشكل مستقِلٍّ؛ إننا نستطيع فقط أن نذكر معنى مجموعةٍ باستخدام مجموعة أخرى مقابِلَةٍ؛ أي: إننا نشرح اللغة باستخدام اللغة.

إنَّ اعتبار “علم الدَّلالة” جزءًا منَ اللسانيَّات يُشكِّل مُشكِلةً مُهِمَّة، فنحن نعرِف أنَّ اللّسانيَّات: هي الدراسة العلميَّة للُّغة، والدراسة العلميَّة دراسةٌ تجريبيَّةٌ، وتَعْنِي الدراسة التجريبية: إجراء اختبار؛ للتأكُّد من صِحَّة الموادِّ المختبَرَة، إن الدراسة التجريبية يمكن تطبيقها على الأصوات؛ لأنَّنا نستطيع مُلاحظةَ ما يَحدُث، فقد نستطيعُ الإصْغاء لشخْص يتحدث، ونستطيع أن نشرح العمليات التي تقوم بها الأحبال الصوتية، ونستطيع بواسطة الآلات العلمية قِياس السِّماتِ الفيزيقية للأصوات المنتَجة؛ ولكن للأسف الشديد لا نستطيع تطبيق الدراسة التجريبية على الدَّلالة، وتزعم بعض النظريات التي تدرس الدَّلالة بأنها علميَّة؛ ولكنها جميعًا أثْبَتَتْ أنها ليست علمية بقدر كافٍ، وهنا نُواجِه مشكلة عامَّة تتلخص في نقطة واحدة هي: ماذا يقصد الباحثون بالعلمية والتجريبية في سياق الدرس اللساني؟ هذه مسألة موضع نظر.

هناك صعوبة أخرى تتعلق بالدَّلالة، ذلك أن المعنى لا يبدو أنه مستقِرٌّ؛ ولكنه يعتمد على المتكلمينَ، والمستعمِلِينَ، والسياقِ، فلو حتَّى كانتِ اللّسانيَّات عِلْميّة فإنها لا يجب أن تهتم بأمثلة محددة؛ ولكن يجب أن تهتم بالعموميات.

ولهذا السبب يميِّزُ الباحثون بين النظام اللسانيّ، واستخدام المتكلمينَ لهذا النظام؛ ففي النحو مثلاً هُنَاكَ قَوَاعِدُ عامَّةٌ، هذه القواعد تَنْتَمِي إلى النظام اللسانيّ؛ ولكنَّنا عِنْدَما نَسْتَخْدِم اللُّغَة في كلامنا لا نتقيَّد بِهَذِه القواعد، ونرتكب أخطاءً، ومع ذلك لا يُشَكِّل هذا مشكلةً أمام الباحث، ونفس الشيء نلاحظه بالنسبة إلى الشخص الذي يسيطر سيطرة تامة على النظام الصوتيّ للغة، ولكنه يفشل في إجراء تمييز فونولوجي مُهِمٍّ عندما يكون مريضًا مثلاً، لقد تَصَدَّى “دي سوسير” لهذه المشكلة عندما ميَّز بين اللغة “langue“، والكلام “parole”، ولقد أعاد هذا التمييز “تشومسكي” 1956 عندما ميز بين الكفاءة “Competence”، والأداءPerformance”.،إنَّ الغرض من هذا التمييز هو استبعاد ما هو فرديّ، أو عَرَضِيّ؛ سواءٌ أطْلَقْنا عليه كلامًا أو أداءً، واهتمَّ “دي سوسير” و”تشومسكي” بأنَّ الدراسة اللسانية الصَّحيحة تُركّز على دراسة اللغة أو الكفاءة، ذلك أن اللُّغة أو الكفاءة هي النظام المثاليّ، وهذا النظام يخضع بلا شك إلى أساسٍ تجريبيّ واحدٍ.

هنا يجب أن نتساءل: هل تَمْيِيزُ مثل هذا مُفيد للدِّراسة في علم الدَّلالة؟
الحقيقة أننا لا نستطيع أن نهتم بكل ما هو فرديّ أو شخصيّ، ومن ثَمَّ فالمعنى الفرديّ ليس جزءًا من الدراسة العامة في علم الدَّلالة، قد نرى أنه من المفيد أن ندرس مثلاً: لماذا يختلف الأفراد عن النموذج العامّ؟ إن هذا أمرٌ ضروري في دراسة الأدب؛ فالشاعر قد لا يقصد ما تَقْصِدُه أنت، أو ما أقْصِدُه هُنا، وقد تكون دراسة اختلاف الأفراد عن النموذج العامِّ مُهِمَّة في دراسة الطبِّ النفسيِّ، ذلك أن المريض يكون غيرَ قادرٍ على استخدام لُغته بنفس الطريقة التي يستخدمها الآخرون؛ ولكن مِنَ المُهِمّ كذلك أن نُدْرِك أنَّ الدراساتِ الأدبيةَ، ودراساتِ الطب النفسيِّ للعمل الفرديّ لا يمكن أن تكون ممكنة بدون وجود أنماط عامة؛ لكي نُقارن الأعمال الفردية بها.

ومع ذلك: نحن في حاجة إلى التمييز بين ما قد يبدو أنه معنى عاديّ للكلمة أو للجملة، ومعناها الذي تكتسبه في ظروف خاصة مُحَدَّدَة، وهذا بالضَّبْط هو التمييز بين معنى الكلمة المُعْجَمِيِّ في مقابل المعنى الناتج عن الاستخدام، أو هو كما اقترح بعض الفلاسفة واللغويين: هو التمييز بين الدَّلالة والتَّدَاوُلِيَّة “Pragmatics“، وهُناك تمييز آخَرُ أشار إليه “جون لاينز” وهو التمييز بين معنى الجملة الذي يتصل مباشرة بالملامح النحويَّةِ والمعجميَّةِ للجملة، وبين معنى النص (معنى الملفوظ، أو الخطاب “Utterence” الذي يشمل كُلَّ النواحي الثانوية للمعنى، وخاصة تلك المتعلقة بالسياق، هذا تمييز مُهِم؛ لأنه يسمح لنا بأن نقول شيئًا ما، ونعني شيئًا آخر.

ترك تعليق