التضمين وزيادة الحروف وحذفها (2)
ومن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى).
قال ابن يعيش: الباء زائدة: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).
أقول: يعلمِ هنا بمعنى يوقن ويصدق ويؤمن، وهذا يتعدى بالباء، قال تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أما سقوط الباء في قوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) فقياسي إذ يسقط حرف الجر مع المصدر المؤول ولا ريب أن زيادة الحروف تُحدث في العبارة معنى جديدا كما قال ابن السيد: فإمعان النظر عن كنه معانيها يبلغنا تعدد وجوه إفادتها، وإلطاف النظر فيها يكشف عن ما استودعه اللَّه من أسرارها، وطريقة عرضها حين تختلف من تركيب لآخر، يُظهر سر إعجازها ففي قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) يدعي الكوفيون زيادتها ولا يُثبته البصريون لأنه عندهم على حذف الجواب: إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال … طابت نفوسهم بصدقِ وَعد ربِهم.
وقولنا: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) نابت (ما) عن (حقا ويقينا).
و (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) نابت (الباء) عن (الإلصاق والمباشرة) و (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) نابت (مِنْ) عن (البعضية).
و (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) نابت (ما) عن (التوكيد).
فالحروف هذه اختصار لكلمات، فإذا حكمنا عليها بالزيادة فقد أفسدنا المعنى الذي أفادته، فقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ) أي بعضهم فإذا حذفنا (مِنْ) لكونها زائدة فقد صارت الأولاد والأزواج جميعا عدوا لنا. أرأيت كيف فسد المعنى بدعوى الزيادة؟! علينا إذاً أن نتجنب إطلاق لفظ زائدة في كتاب اللَّه فإن الزائد قد يُفهم منه أن لا معنى له وكتاب اللَّه منزه عن ذلك إنما تنكشف البراعة عند معرفةوجه التأويل، وما جاءت هذه الحروف إلا لفوائد ومعانٍ تخصها لتكسب المعنى نبلاً، وتظهر فيه مزية من الجهة التي هي أصح لتأديته، وأخص به وأكشف عنه، وأبهر في صناعته. ومثل هذا يعرفه البياني الذي خالط كلام الفصحاء وعرف مواقع استعمالهم وذاق حلاوة ألفاظهم، وأما النحوي الجافي فعن ذلك بمنقطع الثرى.
التحويليون وهم أصحاب الاتجاه العقلي يرون أن النظر في المعنى ملازم للنظر في الشكل والتركيب، ولا يرتضون الوقوف عند الوصف المحض الذي يراه الوصفيون من علماء اللغة وهم أصحاب الاتجاه النقلي وأن اللغة توقيفية من اللَّه سبحانه، بل يتعداه إلى تفسير الظواهر اللغوية تفسيرا عقليا، يدرسون الصوت والنظم والدلالة بأنواعها، لتتصل اللغة بالفكر مثلما اتصلت سابقا بالمنطق والفقه وعلم الكلام، ويشير هؤلاء إلى أن حروف المعاني تدخل في النظم، ولا تدل على معنى في العمق، إنما تؤدي في التركيب لونا من الزخرف أو إيقاعا في التنغيم الصوتي أو فائدة في التركيب كالتوكيد أو قوة الربط أو الإنابة عما وراءها يقول سيبويه: ليس زيدٌ ببخيل ولا جباناً. الباء دخلت على شيء، لو لم تدخل عليه لم يُخل بالمعنى ولم يُحْتج إليها. ألا تراهم يقولون: حسبك هذا وبحسبك هذا، فلم تغير الباء معنى، وجرى هذا مجراه قبل أن تدخل الباء. أ. هـ أي دخول الباء كخروجها، فدخولها لتوكيد المعنى وقوة الربط.
أقول: إن دخول الباء على بخيل نفت عنه أدنى درجات البخل وعدم دخولها على جبان لاحتمال بعض الجبن فيه أما البخل فمنتف عنه أصلا.
ويقول ابن جني: إذا قلت ليس زيد بقائم فقد نابت الباء عن (حقا)و (ألبتَّةَ) و (غير ذي شك) وإذا قلت: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم فعلنا كذا حقا أو يقينا وإذا قلت: أمسكت بالحبل: فقد نابت الباء عن قولك: أمسكت مباشرا له وملاصقة يدي له. وإذا أكلت من الطعام فقد نابت (مِنْ) عن البعض وكذلك، بقية ما لم نسمه فإذا كانت هذه الحروف نوائب عما هو أكثر منها لم يجز من بعد ذا أن نتخرق عليها فننتهكها ونجحف بها.
وأختم حديثي عن دعوى الزيادة بأن لهذه اللغة أصولا وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال ابن جني وسيبوبه.
فأقول: ما دام الحرف بعض الفعل من حيث كان مُعديا له وموصلاً، فهو جزء منه، أو كالجزء لقوة اتصاله به وشدة امتزاجه، فهو يعتده كالبعض له، فكيف ندعي زيادته؟!
هذه اللغة شهدت بحكمتها العقول، وتناصرت إليها أغراض ذوي التحصيل بوجه يقبله القياس، وتنقاد إليه دواعي النظر والإنصاف، فما خفي عنا فيها فلا نخِفُّ إلى نقضه، مما ثَبتَ اللَّه أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه، بل نتهم نظرنا فيه، ولا نسرع إلى إعطاء اليد بفتح بابه، ونتأتى له ما استطعنا، حتى نبلغ حاجتنا، ويفتح اللَّه لنا مغاليقه، فنفقه الغرض من ذكر هذه الحروف بقوة الباصرة وملاطفة التاول ودوام التأمّل وما ادعى زيادتها إلا مَن حمل هذه اللغة على ظاهرها، وصار إلى احتذاء رسومها، أما من تمكن، فيها وتركح في وجوهها ونواحيها، فقد جعل في هذه الحروف تحصينا لسلامتها، وتزاحما لأغراضها، وإثراء لمعانيها.