مصطلحات:  التخريج
(تأصيل وتحرير)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه دراسة موجزة لمصطلحات التخريج والأصول والفروع والقواعد عند الأصوليين والفقهاء والمحدِّثين والنحاة، وهي كالآتي:

المصطلح الأول: التخريج:

أولًا: التخريج لغةً:

يقول ابن فارس (ت 395هـ): “الخاء والراء والجيم أصلان، وقد يُمكن الجمع بينهما، إلا أنا سلَكنا الطريق الواضح، فالأول: النفاذ عن الشيء، والثاني: اختلاف لونين”[1].

والمطالع معاجمَ اللغة يدرك أن التخريج في أصل اللغة يأتي لمعنيين أساسَيْن:

المعنى الأول: اجتماع أمرين متضادين في شيء واحد، ومن ذلك قول ابن منظور (ت 711هـ): “تخريج الأرض أن يكون نَبتُها في مكان دون مكانٍ، فترى بياضَ الأرض في خُضرة النبات، وعام فيه تخريج؛ أي: خِصْب وجَدْب”[2].

يقول الزَّبيدي (ت 1205هـ): “خرَّج الغلام اللوحَ تخريجًا: إذا كتَب بعضًا وترَك بعضًا… خرَّج العمل تخريجًا: إذا جعَله ضروبًا وألوانًا يُخالف بعضُه بعضًا”[3].

وقد اجتمَع في كل ما سبق ضدان في شيء واحد، فالنبتُ وعدمه اجتمَعَا في الأرض، والخِصْب والجَدْبُ اجتمعا في العام، وكتابة الغلام وعدمها اجتمعا في اللوح، والضروب والألوان التي يخالف بعضها بعضًا اجتمَعت في العمل الواحد.

المعنى الثاني: أن التخريج مصدر الفعل (خرَّج) – فعَّل تفعيلًا – وهو مُضعَّف الخروج، ويفيد معانيَ؛ منها:

التعدِية: ذلك أن الخروج لا يكون ذاتيًّا، بل من مُخرِّج، ومنه: الاستخراج والاختراج بمعنى الاستنباط… واخترَجه واستخرجه: طلب إليه أو منه أن يخرُج[4].

التكثير: فصيغة (فعَّل تفعيلًا) تفيد تَكرار وقوع الفعل، وقد ذكر ابن جني (ت 392هـ) أن هناك ارتباطًا بين التشديد ودلالة الصيغة على التَّكرار والتكثير[5].

والأصل العام أن التخريج والإخراج بمعنى واحدٍ، ويُستعمل كلٌّ منهما في الأعيان والمعاني، فأما الأعيان فقولك: خرَّجه من الدار؛ أي: أخرَجه منها، فالدار عَينٌ من الأعيان، ويقال: خرَّجه في أصول الفقه؛ أي: علَّمه ودرَّبه حتى صار أُصوليًّا، فكأنه أخرَجه من محيط الجهل إلى العلم، والعلم والجهل معانٍ وليسا أعيانًا، وقد ذكر الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) أن الإخراج أكثر ما يقال في الأعيان؛ نحو: ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ﴾ [الأنفال: 5]… ويقال في التكوين الذي هو مِن فِعْل الله تعالى؛ نحو: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ﴾ [النحل: 78]… والتخريج أكثر ما يُقال في العلوم والصناعات[6].

ثانيًا: التخريج اصطلاحًا:

ورَد مصطلح التخريج في طائفةٍ من العلوم؛ مثل: الفقه وأصوله، والحديث، والنحو، وقد حمَل مصطلح التخريج في كل علمٍ من هذه العلوم معنًى خاصًّا، فمعناه في الفقه يَختلف عن معناه في الحديث والنحو.

1- التخريج عند الفقهاء والأصوليين:

يقول الدكتور يعقوب بن عبدالوهاب: “إذا تأملنا استعمالات الفقهاء والأصوليين، وجدنا التخريج يدور في أكثر من نطاق، وأنهم لم يَستعملوه بمعنى واحدٍ، وإن كان بين هذه المعاني تقارُبٌ وتلاحُمٌ، ومن تلك الاستعمالات: إطلاق التخريج على التوصل إلى أصول الأئمة وقواعدهم التي بَنَوْا عليها ما توصَّلوا إليه من أحكام في المسائل الفقهية المنقولة عنهم، واستقرائها استقراءً شاملًا، يجعل المخرِّج يَطمئن إلى ما توصَّل إليه، فيَحكُم بنسبة الأصل إلى ذلك الإمام”[7].

ويُطلَق التخريج أيضًا على إرجاع وَرَدِّ الخلافات الفقهية إلى القواعد الأصولية؛ كما هو الحال في كتاب (تخريج الفروع على الأصول) للزنجاني (ت 656هـ)، و(القواعد والفوائد الأصولية) لابن اللحام (ت 803هـ).

ويأتي التخريج عند الفقهاء بمعنى الاستنباط المقيَّد؛ أي: بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يَرِد عنه فيها نصٌّ، عن طريق إلحاقها بما يُشبهها من المسائل المرويَّة عنه، أو بإدخالها تحت قاعدة من قواعده، والتخريج بهذا المعنى هو ما تكلَّم عنه الفقهاء والأصوليون في مباحث الاجتهاد والتقليد، وفي الكتب المتعلقة بأحكام الفتوى.

ويأتي التخريج أيضًا عندهم بمعنى التعليل وتوجيه الآراء المنقولة عن الأئمة، وبيان مآخذهم فيها، عن طريق استنباط العلة وإضافة الحكم، ومن هذا المنطلق يُمكن القول: إن التخريج يتنوع إلى الآتي:

أ‌- تخريج الأصول من الفروع.

ب‌- تخريج الفروع على الأصول.

ت‌- تخريج الفروع من الفروع[8].

2- التخريج عند المحدثين:

يُستعمل لفظ التخريج عند المحدثين في عدة مواضع؛ منها:

أ‌- أن يذكر المحَدِّثُ الحديثَ بإسناده في كتابه.

ب‌- عَزو الحديث إلى مصدره، أو مصادره الأصيلة التي أخرجته بسنده، وبيان درجته قوةً وضَعفًا.

ت‌- الإشارة إلى كتابة الساقط من المتن في حواشي الكتاب، وهو المسمى بـ(اللَّحْق)[9].

ث‌- إيراد الحديث من طريق أو طرق مختلفة تَشهَد بصحته، ولا بدَّ من موافقتها له لفظًا ومعنى[10].

يقول الدكتور يعقوب بن عبدالوهاب: “وعلى هذا فالتخريج لا يَقتصر على ذِكر الأسانيد، بل لا بد من بيان أمر رجال الحديث، وبيان درجته قوةً وضَعفًا، وبيان صحته أو عدمها”[11].

3- التخريج عند النحاة:

يَستعمل النحاة هذا اللفظ في التبرير والتعليل، وإيجاد الوجوه المناسبة في المسائل الخلافية خاصةً، فيقال مثلًا: وخرَّجها النحوي؛ أي: أوجَد لها مخرجًا يُخرجها من إشكالها، ويقال كذلك: وفي المسألة تخريجات عديدة؛ أي: وجوه وتعليلات تُخرجها مما فيها من إشكالات، ومن أمثلة ذلك: قرأ جماعةٌ قولَه تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة ﴾ [الأنفال: 25] – (لتُصيبنَّ)، وقد خرَّجها ابن جني على حذف الألف من (لا) تخفيفًا[12]، فهو هنا قد أوجَد لهذه القراءة تخريجًا يُخرجها من إشكالِها.


[1] مقاييس اللغة؛ اعتنى به محمد عوض مرعب، والأستاذة فاطمة محمد أصلان، الناشر: دار إحياء التراث، بيروت، ط 1، 1412هـ – 2001م، 2/ 175.

[2] لسان العرب؛ اعتنى بتصحيحه الأستاذ أمين محمد عبدالوهاب، والأستاذ محمد الصادق العبيدي، الناشر: دار إحياء التراث، بيروت، ط3، 1419 هـ – 1999م، 4/ 55.

[3] تاج العروس؛ تحقيق مصطفى حجازي، ومراجعة عبد الستار أحمد فراج، الناشر: وزارة الإرشاد – الكويت، 1389هـ – 1969م، 5/ 516.

[4] السابق نفسه، 5/ 515.

[5] الخصائص؛ تحقيق محمد علي البجاوي، الناشر: المكتبة العلمية، د. ت، 2/ 155.

[6] المفردات في غريب القرآن؛ تحقيق صفوان عدنان الداودي، الناشر: دار القلم، الدار الشامية، دمشق، بيروت، ط1، 1412هـ، ص145.

[7] التخريج عند الفقهاء والأصوليين، الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، 1414هـ، ص 11، 12.

[8] السابق نفسه، ص 12.

[9] تخريج الفروع على الأصول عند الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ؛ رسالة ماجستير لسليمان بن سليمان بن عبدالله، قسم أصول الفقه، كلية الشريعة بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العام الجامعي 1429 – 1430هـ، ص 24.

[10] القاموس الفقهي لغة واصطلاحًا؛ لسعد بن أبي حبيب، الناشر: دار الفكر، دمشق، ط2، 1988م، ص 114.

[11] التخريج عند الفقهاء والأصوليين، ص 10.

[12] معجم المصطلحات النحوية؛ للدكتور محمد سمير نجيب اللبدي، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405هـ – 1985م، ص 73، وهذه القراءة: قراءةُ علي، وزيد بن ثابت، وأبي جعفر محمد بن علي، والربيع بن أنس، وأبي العالية، وابن جماز؛ انظر: المحتسب لابن جني؛ تحقيق علي النجدي ناصف، والدكتور عبدالحليم النجار، والدكتور عبدالفتاح إسماعيل شلبي، الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة ط1، 1415هـ – 1994م، 1/ 277.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة

اضغط على ايقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق