إمتاعُ الطَّرْفِ[1]
بشرح الممنوع من الصرف (1)

الحمدُ للهِ وكفى، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ المصطفى وآله المُسْتكمِلينَ الشرفَ؛ وبعدُ:

فهذا إشارةٌ مختصرةٌ إلى شرح بابٍ من أبواب علم النحو؛ ألا وهو: باب “الممنوع من الصرف”؛ علَّها تعين طالبي علم العربيَّة على فهمِ قواعدِ هذا العلم، قَسَّمْتُه قِسمَيْنِ؛ لكثرةِ تفريعاته ومسائلِه، واللهَ أسألُ أن يرزقَنا العلمَ النافع، والعملَ الصالح.

أولاً: ما معنى الصرف عند النحاة؟

ثانيًا: هل المرادُ بالمنع من التنوين كل أنواع التنوين؟

ثالثًا: ما الأبواب التي تندرجُ تحتَ الممنوع من الصرف؟

رابعًا: ما علامةُ جرِّ الممنوع من الصرف؟

خامسًا: ما أسبابُ وعلل المنع من الصرف؟

سادسًا: عودةُ الممنوع من الصرف إلى إعرابه بالكسرة.

سابعًا: جواز صرف الممنوع من الصرف؛ لضرورة شعرية.

أولاً: معنى الصرف عند النحاة؟

الصَّرْفُ معناه: التنوين؛ قال ابن مالك رحمه الله في ألفيَّته:

والصرف تنوينٌ أتى مبيِّنا معنًى به يكون الاسمُ أمكنَا

وقال الشيخ خالدٌ الأزهريُّ رحمه الله: “هو التنوين الدال على معنًى يكون الاسم به أمكنَ”[2].

ومعنى قولهما: “أمكنَ”؛ أي: متمكِّنًا في الاسمية.

ثانيًا: وهل المراد بالمنع من التنوين كل أنواع التنوين؟

الجواب: لا؛ إنما المرادُ المنع من تنوين “التمكين” فقط؛ والدليل تنوين كلمة “غواشٍ” ونحوها في قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [الأعراف: 41]، رغم أنها ممنوعة من الصرف – كما سيأتي إن شاء الله – ولكن التنوين في هذه الكلمة يُسمِّيه النحاة: تنوينَ “العوض عن حرف”، وكذلك التنوين الواقع في كلمة “عرفات” ونحوها في قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ [البقرة: 198] فهذا التنوين يسميه النحاة: تنوين “المقابلة”، وقد أشار إلى ذلك الضابطِ ابنُ مالكٍ في ألفيَّته بقوله:

…………….. معنًى به يكون الاسم أمكنَا

فخرج بذلك باقي أنواع التنوين العشرة[3].

ثالثًا: ما الأبواب التي تندرج تحت باب الممنوع من الصرف من أبواب الإعراب؟

يدخل في باب الممنوع من الصرف من أبواب الإعراب بابان فقط هما:

1- الاسم المفرد.

2- جمع التكسير.

رابعًا: ما علامةُ جرِّ الاسم الممنوع من الصرف؟

الاسم الممنوع من الصرف يُجرُّ بالفتحة، نيابة عن الكسرة، قال ابن مالك في ألفيته:

وجُرَّ بالفتحةِ ما لا ينصرفْ ………………

خامسًا: ما أسباب المنع من الصرف؟

أسباب وعلل المنع من الصرف:

جمَعَ بهاءُ الدِّين بنُ النَّحاس عِللَ المنع من الصرف في بيتين، فقال:

اجمع، وزِنْ، عادلاً، أنِّث بمعرفة رَكِّب، وزِدْ، عُجْمةً، فالوصفُ قد كمَلا[4]

قسم النحاةُ رحمهم الله عِللَ المنعِ من الصرف إلى قسمَيْنِ:

القسم الأول: ما يَكفي لمنعه من الصرف علة واحدة؛ وهو ثلاثة أسباب:

1- صيغة منتهى الجموع.

2- ألف التأنيث المقصورة الزائدة.

3- ألف التأنيث الممدودة الزائدة.

العلة الأولى

صيغة منتهى الجموع[5]

لماذا سميت هذه الصيغة بذلك؟

لأنها تقف عندها الجموع؛ انظر معي إلى هذا الأمثلة:

كلمة: “كلب” تجمع على: أكلب – أكالب.

أصيل: أُصُل – آصال – أصائل.

عربي: عرب – أعراب – أعارب.

قالوا في تعريفها[6]: هي كلُّ جمع تكسير، بعد أَلِفِ جَمْعِه حرفان أو ثلاثة[7] أوسطها ساكن.

وجموع التكسير في اللغة تنقسم من حيث القلَّةُ والكثرة إلى قسمين:

1- جمع قلة، وهو من 3: 10، وله أوزان محصورة ذكرها ابن مالك في ألفيَّته فقال:

أَفْعِلَةٌ، أفَعُلُ، ثم فِعْلَهْ ثُمَّتَ أفعالٌ، جموعُ قِلَّهْ

2- جمع كثرة، وهو من 11: إلى ما لا نهاية، وأوزانه ما كان بخلاف الأوزان المذكورة لجمع القلة.

قال الله تعالى: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ [سبأ: 13]، وقال سبحانه: ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَة ﴾ [يوسف: 20]، وقال تعالى: ﴿ فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ﴾ [النمل: 60]، وقال عزَّ مِن قائل: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]، فانظر – رحمك الله – إلى كلٍّ من الكلمات: “محاريب، تماثيل، دراهم، حدائق، قبائل” تجدها مُنعت من الصرف لإتيانها على وزن صيغة منتهى الجموع.

العلة الثانية

ألف التأنيث الممدودة الزائدة

قالوا في تعريف هذه العلة: أن ينتهي الاسم بألف التأنيث الممدودة الزائدة[8].

ولا يراد بـ “ألف التأنيث” أنها تأتي في الكلمات المؤنثة فقط، ولكنها سواء كانت لمذكر؛ كـ: (شفعاء، أولياء، أصدقاء)، أم لمؤنث؛ كـ: (صحراء، عذراء، خضراء) – منعت الكلمة لأجلها من الصرف.

وقولنا في تعريفها: (الممدودة): أي: المهموزة، وعكسها المقصورة كما سيأتينا.

(الزائدة): بأن تكون رابعةً فصاعدًا، ولا تكون من أصل بنية الكلمة.

قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [هود: 20]، وقال سبحانه: ﴿ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ﴾ [الأعراف: 53]، وقال عز شأنه: ﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ ﴾[البقرة: 69]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولودٍ إلا يُولَدُ على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تحسون فيها من جدعاءَ؟))[9].

ويقول زهيرُ بنُ أبي سُلْمَى:

فآض كأنه رجلٌ سليبٌ على علياءَ ليس له رداءُ[10]

فإذا نظرت إلى الكلمات: “أَوْلِيَاءَ، شُفَعَاءَ، صَفْرَاءُ، رُحَمَاءُ، جمعاء، جدعاءَ، علياءَ” رأيتها منعت من الصرف؛ لانتهائها بألف التأنيث الممدودة.

العلة الثالثة

ألف التأنيث المقصورة الزائدة

اعلم رحمك الله أن الكلمة إذا انتهت بألف التأنيث المقصورة – مُنعت من الصرف: وهي ألف مقصور ما قبلَها[11]، زائدة عن أصل الكلمة، رابعة فصاعدًا؛ كـ: (حبلى، ذكرى، لبنى، وليلى، سكرى).

قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67]، وقال سبحانه:﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [الليل: 4]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31]، وقال الإمام عليٌّ رضي الله عنه في ديوانه (من المتقارب) وهو يصف حال الناس يوم القيامة:

ترى الناسَ سَكْرَى بلا خمرةٍ ولكن ترى العينُ ما هالها

ويقول أبو فِراسٍ الحَمْداني في ديوانه (من الطويل):

تُؤرِّقُني ذِكْرَى له وصبَابَةٌ وتَجْذِبُني شَوْقًا إليه الجَواذِبُ

فانظر – علمني الله وإياك – إلى الكلمات: “أسرى، لشتَّى، ذكرى، سكرى” تجدها منعت من الصرف؛ لانتهائها بألف التأنيث المقصورة.

وبهذا يكون قد انتهى الحديث عن القسم الأول الذي يكفي فيه علة واحدة لمنع الكلمة من الصرف، ونكمل إن شاء الله في مقال آخر الحديث عن القسم الثاني.

والحمد لله رب العالمين

 


[1] والطَّرْف: العين؛ (تاج العروس) (24 / 69).

[2] انظر: “شرح التصريح على التوضيح” أو “التصريح بمضمون التوضيح في النحو”؛ للشيخ خالد الأزهري (2 / 316).

[3] أوصل بعض النحاة أنواع التنوين إلى عشرة أنواع، نظَمها بعضهم فقال:

أقسامُ تنوينهم عشرٌ عليك بها فإن تحصيلَها مِن خير ما حُرِزَا

مَكِّنْ، وعَوِّضْ، وقابِلْ، والمُنكَّرَ، زِدْ رَنِّمْ، أو احكِ، اضطَّرِرْ، غالٍ، وما هُمِزَا

[4] ميمُها مثلثة؛ مختار الصحاح (1 / 273)، تاج العروس (30 / 352)، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5 / 1813).

[5] ويُسمى كذلك: الجمع الأقصى، أو المتناهي.

[6] وفي بعض كتب النحو يقيدون صيغة منتهى الجموع بأوزانٍ معينة كـ: “مفاعل، ومفاعيل”، وهذا التقييد لضرب المثال فقط وليس للحصْر.

[7] بعضهم يقول: ما ليس آخره تاء؛ كـ: “تلامذة، زنادقة، فلاسفة، ملاحدة…”.

[8] فإذا كانت أصلية صُرفت؛ ككلمة “سماء”.

[9] صحيح البخاري (2 / 94)، (جدعاء): مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك؛ أي: إن الناس يفعلون بها ذلك؛ فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة.

[10] هذا البيت من بحر الوافر؛ ديوان زهير بن أبي سُلْمَى، و”آض”: رجع.

[11] حاشية الآجرومية؛ لعبدالرحمن بن قاسم الحنبلي النجدي.

ترك تعليق