المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [إعراب الأسماء الستّة]

اختلفوا في الأسماء الستّة وهي أَبوك وأَخوك وحَموك وفُوك وذُو مالٍ على سبعةِ مذاهبٍ:

الأوّلُ: قولُ سيبويهِ وهي أنّ حروفَ المدِّ فيها حروفُ إعرابٍ، والإِعرابُ مقدَّرٌ عليها.

والثَّاني: قولُ أبي الحَسن الأَخفش أنَّ حروفَ المدِّ دوالٌّ على الإِعرابِ فَقط.

والثَّالثُ: قولُ الجَرميّ أنَّ قبلها إِعرابٌ.

والمذهبُ الرابعُ قولُ قُطْربٍ وأبي إسحاق الزِّيادِيّ: أنّ هذه الحُروف إعرابٌ.

والخامس: قولُ المازِنِيِّ: أنّ هذه الحُروف ناشئةٌ عن إشباعِ الحركاتِ، والإعرابُ قبلها.

والسادسُ: قولُ أبي علي وأَصحابهِ: أنَّ هذه الحُروفَ هي حروفُ الإِعرابِ ودَوَالُّ على الإِعرابِ، وليسَ فيها إعراب مُقَدَّرٌ.

والسابعُ قولُ الفرّاء: وهي أنَّها مُعرَبَةٌ من مكانين، حُروف المَدّ وحَركات ما قَبلها.

فنبدأ بمذهبِ سيبويهِ وندلّ عليه بطرقٍ أربعة:
الأوّل: أنَّها أسماءٌ معربةٌ، فكان لها حرفُ إعرابٍ، كسائر الأسماءِ المُعربة، وإنّما قلنا ذلك لأنّ الإِعراب إِمَّا معنى، وإِمَّا حركةٌ، وكلاهُما يَفتقر إلى مَحَلٍّ به كسائرِ الأعراضِ المَعقولة، ومحلّه حرفه كالدّال من زيدٍ ونحوه، يدلّ عليه أنّ المُعتَلَّ مقيسٌ على الصَّحيح كما ذكرناه في مسألة الوقف علَى المقصور وكما أنَّ الاسمَ الصّحيحَ لا يَعْرَى عن حرفِ إعرابٍ كذلك المُعَتلَّ، ولذلك حكمنا على الياء في المَنقوص، والأَلف في المقصورِ، على أنَّهما حرفا إعرابٍ.

والطّريق الثاني: أنّ هذه الأسماء لها حروفُ إعراب قبل الإِضافة، فكان لها حروف إعراب بعد الإِضافة كسائر الأسماء، وبيانه أن، قولَك هذا أبٌ ورأيت أباً ومررتُ بأبٍ حرف إعرابه الباء، وكان يجبُ أن تكونَ حروف المدّ بعدَ الإِضافة، لأنَّها صارت آخرَ الكلمةِ، كما أنَّ الباءَ قبلَ الإضافةِ آخرَ الكلمةِ، والإضافةُ لا تَسلِبُ الكلمةَ حرفَ إعرابِها نحو غلامك وغلامه.

والتَّحرير أنّه لا فارقَ بين حالها مضافةً وغير مضافةٍ إلاّ الإِضافة، ولا أثرَ لها لهذا الفارِقِ في سلب حروفِ الإِعراب، بدليل الصَّحيح والمُعتلّ والمَنقوص والمَقصور.

الطّريقُ الثالثُ: أنّ هذه الأسماء لو خرجت على أصلها كان حرفُ المدِّ فيها حرفَ إِعرابٍ، كذلك لمّا حذفت ثمّ ردّت، وبيانه: أنّها لمّا ردّت عادت إلى كمالها ولكن غُيّرت لمعنى لا يُؤَثِّر في إِزالةِ حرفِ الإِعرابِ.

الرّابع: أنّ هذه الحروفَ موجودةٌ في الإِضافة طرفاً، ولا تَخلو من أن تكون زائدةً أو إِعراباً أو حروفَ إعرابٍ، لا وجه إلى الأوّل، لأنَّ حكمَ الزائدِ أنّه إذا حُذِفَ لم يَخْتَلَّ به معنى، وثُبوت هذه الحروف على اللُّغة المشهورة إذا حُذِفَتْ لم يبقَ معناها ولا وجهَ إلى الثَّاني، لأنَّ الإِعرابَ إمّا حركةً وإمّا مَعنى تَدُلُّ عليه الحَرَكَةُ وكلاهُما إذا حُذِفَتْ لا يَبْطُلُ معنى الكَلِمَةِ، وإنَّما يَبْطُلُ المعنى الذي يدلّ عليه الإِعراب، وإذا بطلَ القسمان ثبتَ كونُها حروفَ إعرابٍ، والدَّلالة على أنّ الإِعرابَ مقدَّرٌ فيها أنّ حرفَ الإِعرابِ في الأسماءِ لا يَعرّى من الإِعرابِ لفظاً أو تقديراً، لأنّه دالٌ على معنى فوجبَ أن يثبتَ لِيَحصلَ مدلولُه، فإذا لم يَكُن في اللَّفظِ ظاهراً كان مُقدّراً كالأسماءِ المقصورةِ، والمانع من ظهورِه قائمٌ.

فإِن قيلَ: لا يستقيمُ هنا تقدير الإِعرابِ وذلك أنّ الواو في حالِ الرّفع ساكنةٌ ولم تُقلب حتّى يقدّر الإِعراب على ما تَنْقَلِبُ إليه، وفي النَّصبِ والجَرِّ تحرَّك الحرفُ بحركةِ الإِعرابِ، فانقلب ألفاً أو ياءً، فالموجبُ للانقلابِ حركةُ الإِعراب، فكيفَ تقدّر بعدَ وجودِ عَمَلِها؟.
فالجوابُ أنّ الحركةَ على أصلِ هذه الحروف حركةٌ مطلقةٌ غيرُ معيّنةٍ، فكان الانقلابُ بكونها مُطلقةً، ولمّا انقلبت قدَّرنا عليه الحركات المُعيّنة، فالمقدَّرُ غير الذي أوجبَ الانقلابَ، وهذا يبيّن لك في المقصور نحو العَصا والرَّحى فإنَّ الانقلاب فيهما كانَ بالحركةِ من حيثُ هي مطلق الحركة لا بكونها ضمَّة وأُختيها، إِلاَّ أنَّها في الرَّفع يقدَّر على الواو السّاكنة ضمّة، كما يقدّر على الواو في ((يعَزو)) وكما يقدّر على الألف في ((العَصَا))؛ لأنَّ المانع من ظُهورِ الضَمَّة ثقلها على الواو، وهذا المعنى مَوجودٌ في قولِكَ: ((هذا أَبوك)) والمانعُ من الألَفِ استحالةُ حركتِها، ومع الياء ثِقلها.
وأمَّا مَذهبُ الأخفش فيُحتجّ له بأنَّ هذه الحُروف يلزمُ منها الحُكُم بالرّفعِ والنَّصبِ والجَرِّ، فيلزم أن تكونَ قائمةً مقام الحَركات الإِعرابيّة، ولا يكون لهذه الكلمات حروفُ إعرابٍ كالأمثلة الخمسة.
والجوابُ عنه من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنّ دِلالةَ الشّيءِ على الإِعرابِ يَحتاج إلى مَحلٍّ فإذا لم يكن له حرفُ إعرابٍ بقي الإِعراب عرضاً قائماً بنفسه، والعَرض لا يقومُ بنفسه.
له حرفُ إعرابٍ بقي الإِعراب عرضاً قائماً بنفسه، والعَرض لا يقومُ بنفسه.
والثّاني: أنَّ الدّليلَ يَفتَقِرُ إلى مَدْلُولٍ عليه، فالمَدلول عليه هُنا الرَّفعُ والنَّصبُ والجَرُّ، فإن كانت هذه المعاني هي المدلول عليها، وهي نَفْسُ هذه الحروف، أفَضى إلى أن يكونَ الدَّليلُ هو المدلول عليه، وإن كان المدلول عليه غيرها احتاج إلى محلّ يقوم به ويعود الكلام الأوّل.
والثالثُ: أنّ ذلك يُفضي إلى مُحالٍ في بعضِ الأَسماء وذلِكَ، أنَّ فُوك وذُو مالٍ إذا كان حرفُ المَدِّ دليل الإِعراب يَبقى الاسمُ على حرفٍ واحدٍ وهو اسمٌ ظاهرٌ معربٌ، وهذا لا نَظيرَ لَهُ.
وأمَّا مذَهبُ الجَرميّ: فحُجّته أن الواوَ في الرّفع هي الأصل فتكون حرفَ الإِعراب والإِعراب مقدّر عليها ولم تظهر لثقلها مع الواو، فأمَّا في النّصبِ والجرِّ فالموجب لقلبها فيهما حركة الإِعراب، فالألف من جنسِ الفتحة، والياءُ من جنسِ الكسرةِ، فقد نابَ الحَرفان عن الحَرَكَتين والنائبُ عن الشيءِ يقوم مقامه.

والجوابُ عنه من ثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنّ الرّفعَ لا انقلاب فيه وهو مُعربٌ، وما ذكره يُفضي إلى أن تكونَ الكلمَةُ الواحدةُ ليس فيها علامةُ إعرابٍ في حالٍ، ولها علامةُ إعرابٍ في حالٍ آخر، وذا نظيرَ له، ولا نظيرَ له، ولا يَقتضيه قياسٌ.
والثاني: أنّ الانقلابَ لو كان إعراباً لكان واحداً، كما في منصوبِ التَّثنية والجَمع وجرّهما، وهنا انقلابان على حَسب الموجبِ للقلبِ وما كان كذلك لا يكونُ إعراباً.
والثالثُ: أنّ الانقلابَ في المقصورِ ليسَ بإعرابٍ، بل الإِعرابُ مقدَّر، والمنقلبُ حرفُ إعرابٍ.
وأمَّا مذهبُ قُطْرُبٍ فشُبهَتُه أنّ الإعرابَ ما يختَلفُ باختلافِ العاملِ، وهذه الحُروف بهذه الصِّيغةِ فكانت إعراباً.
والجَوابُ أنَّ هذه الحروف لم تَحدث عن عاملٍ وإنّما الحَركات المُوجبة لقلبِها هي الإِعراب الحادث عن عاملٍ، وقد دَللنا على ذلك.
وأمّا مذهبُ المَازِنيِّ فشبهتُهُ أنّ الضّمّةَ والفتحةَ والكسرةَ قبلَ حروفِ المدِّ ناشئةٌ عن عاملٍ؛ لأنّها تَخَتلِفُ بحسبِ اختلافه فكانت هي الإِعراب، ولكن لمّا أُريد تمكينها أُشبعت فنَشأت عنها هذه الحروف.
والجوابُ عنه من أربعةِ أوجهٍ:

أحدُها: أنّ حدوثَ الحرفِ عن الإِشباعِ خلافُ القياس وهو شاذٌّ وبابه الشّعر للضّرورة.
والثاني: أن، ما كان من أجل الإِشباع غير لازم، بل إن شاء أتى به وإن شاء لم يأتِ، وها هنا ذكر هذه الحروف لازمٌ، فلم يكن عن الإشباع.
والثالثُ: أنّ ذلك يُفضي في بعض الأَسماء أن يكون الاسمُ الظاهر على حرفٍ واحد وهو فوك وذو مال وهو من أبعد الأشياء.
والرابعُ: أنّها لو كانت للإِشباع لخالَفت بقيّةَ المحذوفات نحو: ((دَمٍ)) و ((يَدٍ)) فإنَّها لا تَختلفُ مع أنّ الحركات موجودةٌ فيها والأصلُ عدمِ الاختلاف.
وأمّا مذهبُ أبي عليّ فهو أقربُ المذاهبِ؛ وذاكَ أنّه وَجَدَ هذه الحروفَ لاماتِ الكلمةِ فمن هاهنا هي حروفُ إعراب، ووجدها دالّة على الإعراب فقضى بها حكماً للدّليل، وغير ممتنع أن يكون الشيء الواحد دالاً على أشياء، أَلا تَرى أنَّ التاءَ أنَّ التاءَ في قولك: ((هي تقومُ)) حرفُ المضارعة ودليلُ التأنيث وفي قولِكَ: ((أنتَ تقومُ)) هي حرفُ المضارعةِ ودَليلُ الخِطابِ.
ولأَصحابِ سِيبويهِ أن يَقولوا إنّه ليس كلُّ مقدّرٍ عليه دَلِيلٌ من اللّفَظِ بدليلِ المَقْصُورِ فإِنَّ الإعرابَ فيه مُقدَّرٌ وليس له لفظٌ يَدُلُّ عليه، كذلك هَاهُنا.

وأمّا مذهبُ الفَرّاء فحجّته أنّه وَجَدَ الحركات قبل هذه الحروف، وهذه الحروف تَختلفُ باختلافِ العاملِ، فكانا جميعاً إعراباً.

وهذا فاسدٌ لثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنّ الإِعرابَ حاصلٌ عن عاملٍ، والعاملُ الواحدُ لا يعملُ عملين في موضع واحدٍ.

والثاني: أن، الإِعرابَ يفرّق بينَ المعاني، والفَرق يحصل بعملٍ واحدٍ، فلا حاجةَ إلى آخر.

والثالثُ: أنّه يُفضي إلى أن تكون الكلمةُ كلُّها علامات الإِعرابِ وهو قولك: ((فُوك)) و ((ذُو مالٍ)) فإِنَّ ضَمَّة الفاء والذَّال والواو بعدهما هو كلّ الكلمة، فإذا كان ذلك إعراباً فأين المعرب؟ ولا يصح قياسه على قولهم هذا أمرؤٌ ورأيت امرأً ومررت بامريءٍ، فإنَّ الرّاء والهمزةَ تختلفُ حركتهما، لأنّا نقول حركة الراء تابعة لحركة الهمزة، وليست إعراباً، كما أنّ الحركةَ قبلَ حروفِ المدِّ تابعةُ لها وليست إعراباً، والله أعلمُ بالصَّوابِ.

ترك تعليق