الفرق بين الأهداب والأشفار

إنّهم، ومنذ زمنٍ بعيدٍ لا يكادُ أكثرُ النّاس يَفْرُقُون بينهما من حيث الدّلالةُ الوضعيّةُ الصّحيحةُ؛ فتراهم يلفظون كلمة (الأشفار) وهم يريدون (الأهداب)!؛ اعتقادًا منهم أنّ كلمة (الأشفار) هي الشَّعَر النّابتُ على جَفْنِ العين!

وذا من الأخطاء القديمة الّتي درجت عليها العامّةُ، وبعضُ الخاصّة؛ لا يُحسِنون تَوظيفَها وَفقَ الوَضع العربيّ الصَّحيح الفصيح.

ولا يُعترض بمقالة ابن قتيبة – رحمه اللّه – في أدب الكاتب (ص17)[1]: (فإن كان أحدُ الفصحاء سَمَّى الشَّعْرَ شُفْرًا؛ فإنّما سمّاه بمَنبتِه؛ والعربُ تُسمِّي الشَّيءَ باسم الشّيءِ إذا كان مجاورًا له، أو كان منه بسبب؛ على ما بيّنتُ لك في باب تسميةِ الشّيءِ باسمِ غيرِه).

فيقال: قولُه: (فإن كان أحدُ الفصحاء) قَيْدٌ مُهِمٌّ في تَسْويغِ ذاك الاستعمال؛ فَمَنْ لي بـ(أحدُ الفصحاء) في هذا الزّمان، الّذي خربتْ فيه الألسنة بركاكة التّراكيب، ومُيوعة الأساليب، وزاد الطِينَة بِلَّةً أنّ تِلْكُم الألسنة الخَرِبَة كَثُرَ ما تَستجدي[2] رَطانة الأعاجم؛ طلبًا لِتَزْويقِ الكلام، وتَحسينه زعموا. وبَلِيَّةُ هؤلاء مَرَدُّها إلى فقر قاموسِهم اللُّغويّ؛ لأنّهم أهملوا لغتَهم، فلم يرفعوا لها رأسًا؛ فكانت النّتيجة ما نسمعُ، ونقرأ مِن سَقَط الكَلِم، وفَجاجَة العبارت؛ فلِلَّه المُشتكى من غُربة العربيّة في عُقر دارها، وبين أبنائها العَقَقَة!.

على أنّك إن ظفرت في هذا الزمان بـ(أحدُ الفصحاء) فهو الكبريت الأحمر. وإنّي – على قلّة التّجربة، وطرح عصا التّسيار – لا أكادُ أظفر به إلاّ في كتاب، أو تحت التّراب.

وبعدُ، فلنُجلِّي الفرق بينهما، حذرًا من مَعَرَّة الخطأ في لفظهما، وقُبْحِ عدم التّمييز بين دلالة كُلٍّ منهما؛ فإنّه لَعمري وبالٌ عظيم، وشَرٌ مستطير؛ لمَن كان له من لُغته شيءٌ من الحَمِيَّة والغَيرة[3]!

قال في أدب الكاتب (ص17): (باب معرفة ما يضعُه النّاسُ في غير موضعه، مِن ذلك أشفارُ العَيْن، يذهبُ النّاسُ إلى أنّها الشَّعَر النّابتُ على حروفِ العين وذلك غلطٌ؛ إنّما الأشفارُ حروفُ العَيْن الّتي يَنبتُ عليها الشَّعَر. والشَّعْرُ والشَّعَر هو الهُدْبُ. وشُفْرُ كلِّ شيءٍ: حرفُه وكذلك شَفيرُه، ومنه يقال: شَفيرُ الوادي وشُفْرُ الرَّحِم. فإن كان أحدُ الفصحاء سَمَّى الشَّعْر شُفْرًا فإنّما سمّاهُ بمَنبتِه؛ والعربُ تُسمِّي الشّيءَ باسم الشّيء إذا كان مُجاورًا له، أو كان منه بسبب على ما بيّنتُ لك في باب تسمية الشّيء باسم غيره).

نعم، إنّ العامةَ، وبعض الخاصّة تجعلُ الشُّفْر الشَّعَر النّابتَ على حروفِ العين، وهو غلط؛ فليس الشُّفْر مِن الشَّعَر في شيءٍ. لكن يقال إنّ:

1. الأشفار: جمع (الشُّفْرُ) بالضمّ، وقد يُفتَح: شُفْرُ العين، وفي الّلغةً: حرفُ كلِّ شيءٍ، وناحيتُه، ومنه شَفِيرُ الوَادِي ونَحْوِه، تقولُ: قعدوا على شَفيرِ النّهر، والبئرِ، والقبرِ. وشَفيرُ جهنّم، وشُفْرُ الرَّحِم وشافِرُها حروفُها، وشَفْرَةُ السَّيْفِ حَدُّهُ.

قال الجوهريّ[4]: (وهي حروفُ الأَجْفانِ الّتي يَنبُتُ عليها الشَّعَر، وهو الهُدْب[5])، أو قُلْ: هي مَنابتُ الهُدْب على الجُفون، والّتي تَلْتَقِي عند التَّغميضِ. تقولُ: قَرِحَتْ أشفارُ عَيْنَيْهِ مِن البكاء.

وفي مجمع الأَمثال (1 /324): (مَا تَرَكَ اللهُ له شُفْراً ولا ظُفْراً، ولا أَقذًا ولا مَرِيشاً. أي ما تركَ له شيئاً)، وفي حديث[6]سعد بن الرَّبيع أنّه قال: (لا عُذْرَ لَكُمْ إِن وُصِلَ إِلى رسولِ الله صلّى اللّه عليه وسلّم وفيكُم شُفْرٌ يَطْرِفُ).

2. الأهداب: الهُدْبُ، بالضَّمِّ على المشهور، وبضّمَّتَيْنِ لُغَةٌ فيه: الشَّعْر النّابتُ على أشفارِ العين. ومنه قولُهم: هَدِبَتِ العيْنُ هَدَباً: طالَ هُدْبُها، وهو أهدبُ الأشفار، يعني طويلَ الأهداب، وطال هُدْبُ الثَّوْبِ وهُدَّابُه. ورجلٌ أَهْدَبُ: سابغُ الهُدْب كثيرُه. وامرأةٌ هَدْباء: طويلةُ أهدابِ العَينين. وفي صفتِهِ[7] صلّى اللّه عليه وسلّم: (كان أَهْدَبَ الأَشْفار)، وفي رواية: (هَدِبَ الأَشفار) أَي: طَويلَ شَعَر الأَجْفان.

ويراجع:

1) أساس البلاغة (1 /244، 498).

2) الإفصاح في فقه اللّغة (ص27 ع1).

3) تاج العروس (4 /379، 385 – 386) و(12 / 207 – 208).

4) تحرير ألفاظ التنبيه (ص298، 307).

5) التّوقيف على مهمّات التّعاريف (1 /432).

6) الزّاهر في غريب ألفاظ الشافعيّ (1 /368).

7) الصِّحاح في اللّغة (1 /237 هدب) و(2 /701 شفر).

8) العين (4/29 باب الهاء والدال والباء معهما) و(6/253).

9) غريب الحديث لابن الجوزيّ (1 /549 باب الشّين مع الفاء).

10) غريب الحديث لأبي عبيد (3 /28).

11) فقه اللّغة (ص65).

12) القاموس المحيط (ص143 الهُدْب – ص418 الشُّفْر).

13) لسان العرب (1 /780) و(4 /418 – 419).

14) مختار الصِّحاح (ص341، 691).

15) المصباح المنير (ص190-191، 377، 417 الخاتمة).

16) المطلع على أبواب المقنع (1 /361، 366).

17) المعجم الوسيط (ص486 ع3، ص976 ع1).

18) المغرب (1 /447 الشِّينُ مَعَ الْفَاءِ).

19) النّهاية (2 /484 – 485 باب الشِّين مع الفاء) و(5 /567).


[1] قال ذلك في: (باب معرفة ما يضعه النّاس في غير موضعه).

[2] وذا مرضٌ في النّفوس غائر، قد ابتُلِيَ به كثيرون. وقديمًا قال ابن خلدون في المقدّمة (ص147): (الفصل الثالث والعشرون في أنّ المغلوبَ مُولَعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شِعاره وزِيِّه ونِحْلتِه وسائرِ أحوالِه وعَوائدِه).

[3] لا تقل: الغِيرة بكسر الغين؛ فإنّه مِن لحن العامّة.

[4] الصِّحاح في اللّغة (2 /701 شفر).

[5] يعني: الهُدْب.

[6] الّلسان (4 /418 – 419)، وغريب الحديث لابن الجوزيّ (1 /549 باب الشِّين مع الفاء)، والنّهاية (2 /484 – 485 باب الشِّين مع الفاء).

[7] الّلسان (1 /780)، والنّهاية (5 /567)، وغريب الحديث لأبي عبيد (3 /28)، وتاج العروس (4 /379 هدب)، وهو مخرّج في مسند أحمد (1 /89 رقم 684) و(1 /101 رقم 796) و(1 /151 رقم 1299) ثلاثتها عن عليّ رضي الله عنه بلفظ: (هَدِبَ الأشفار)، وفي (2 /328 رقم 8334) و(2 /448 رقم 9786) كلاهما عن أبي هريرة بلفظ: (أَهْدَبَ أَشفارِ العَينين).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موضوعات مشابهة:

ترك تعليق