كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

‌‌طبقات البصريين السبع (4)

‌‌الطبقة الرابعة:

سيبويه:

هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بني الحارث بن كعب، ولقب بسيبويه “رائحة التفاح” لأن أمه كانت ترقصه بذلك في صغره، ولد بالبيضاء “بلد بفارس” من سلالة فارسية، ونشأ بالبصرة ورغب في تعلم الحديث والفقه، إلى أنه لحقه التأنيب ذات يوم بشأن حديث شريف من شيخه حماد البصري، قال ابن هشام: “وذلك أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملى منه قوله -صلى الله عليه وسلم-: “ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء”، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد: لحنت يا سيبويه إنما هذا استثناء، فقال سيبويه: والله لأطلبن علما لا يلحنني معه أحد، ثم مضى ولزم الخليل وغيره”[1].

فكما أخذ عن الخليل أخذ عن يونس وعيسى بن عمر وغيرهم، وبرع في النحو حتى بز أترابه فيه، فاحتفى به علماء البصرة التي صار إمامها غير مدافع، وأخرج للناس كتابه الذي أكسبه فخار الأبد، فإنه شاهد صدق على علو كعبه في هذا الفن.

كتاب سيبويه:

جمع سيبويه في كتابه ما تفرق من أقوال من تقدمه من العلماء كأبي الخطاب والخليل ويونس وأبي زيد وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم في علمي النحو والصرف، إذ كان النحو في ذلك الحين يطلق عليهما واسمه يعمهما، وأكثرهم نقلا عنه الخليل الذي كان لا يمل لقاءه، وأنابه في رواية الفن عنه، فكان كتاب سيبويه سجلا لآراء الخليل في النحو، ولذا كثيرا ما يقول فيه سألت الخليل “وإذا أضمر، وقال: مثلا -سألته- أو حدثني، أو قال لي، إنما يعني الخليل بن أحمد”، وذلك مستفيض في الكتاب، وسأذكر بعض أمثلة للنقل عن غير الخليل.

روى عن أبي الخطاب فقال: “حدثنا به أبو الخطاب عن شاعره”[2]، وعن يونس فقال: وزعم يونس فقال: “إنه سمع رؤبة يقول: ما جاءت

حاجتك فرفع”[3]، وروى عنهما فقال: “وذلك قولك هذا عبد الله منطلق حدثنا بذلك يونس وأبو الخطاب”[4]، وكثر نقله عن يونس حتى نقل عنه أبوابا برمتها، فقد نقل عن فصلين من التصغير فقال: “وجميع ما ذكرت لك في هذا الباب وما أذكر لك في الباب الذي يليه قول يونس”[5]، لأنه كان يطمئن إليه، فكثيرا ما كان يسأله للتثبت عما سمعه من غيره قال: “وزعم عيسى بن عمر أن ناسا من العرب يقولون “إذن أفعل ذاك” في الجواب، فأخبرت يونس بذلك، فقال “لا تبعدنّ ذا”، ولم يكن ليروي إلا ما سمع”[6]، وروى عن أبي زيد فقال: “حدثني من أثق بعربيته”.

فإذا اختلفت أقوال العلماء فإنه يحكيها ويوازن بينها ثم يحكم بالترجيح، ففي باب تحقير بنات الياء والواو إلخ عند الكلام على تصغير أحوى قال: “وأما عيسى فكان يقول “أُحَيٌّ” ويصرف وهذا خطأ. وأما أبو عمرو فكان يقول “أُحَيٍّ”. وأما يونس فيقول هذا “أُحَيُّ” كما ترى وهو القياس والصواب” وفي باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف وهي الياءات قال: “وسألت الخليل عن القاضي في النداء فقال: أختار “يا قاضي”[7] لأنه ليس بمنون كما أختار هذا القاضي، وأما يونس فقال: يا قاض، وقول يونس أقوى”.

وقد ضم إلى أقوال هؤلاء العلماء ما استخرجه بنفسه من القواعد اعتمادا على سماعه من العرب الخلص قال: “سمعنا العرب الفصحاء يقولون: انطلقت الصيف”، وقال: “وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له: كيف أصبحت؟ فيقول: حمدِ الله وثناءٍ عليه”[8]، وقال: “إن هذا البيت أنشدناه أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه”[9].

كَوَّنَ سيبويه كتابه من أقوال العلماء ومما استنبطه هو بنفسه، فكان جماع الفن، شاملا كل ما يحتاج إليه طالبه مع الترتيب والتبويب، ولكل عصر طبيعته المتسقة معه، فترتيب الكتاب على غير المألوف في كتبنا المتداولة بين أيدينا، والإسراف في عناوين أبوابه جاوز الحد فقد بلغت عشرين وثمانمائة، مع الغموض الذي لا يفصح عن المقصود لأول وهلة ومع التداخل في كثير من الأبواب، فمن ذلك على سبيل المثال باب البدل فقد قال: “هذا باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم تبدل مكان ذلك الاسم إلخ، هذا باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول إلخ، باب المبدل من المبدل منه، باب بدل المعرفة من النكرة إلخ، باب من البدل أيضا”[10]، وبعض عباراته الاصطلاحية حلت بدلها عبارات أخرى عندنا، ونظرة أولية إلى مستهله في ترتيب أبوابه وعناوينها واصطلاحاتها كافية في ذلك، قال: “هذا باب علم ما الكلم من العربية، باب مجاري أواخر الكلم من العربية، باب المسند والمسند إليه، باب للفظ للمعاني، باب ما يكون في اللفظ من الأغراض باب الاستقامة من الكلام والإحالة، باب ما يحتمل الشعر، باب الفاعل إلخ”.

فلم يك سيبويه في كتابه جمَّاعا لآراء السابقين فحسب، بل له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاويا عناصر الفن كلها، وتبويبه واضعا كل شيء وما يتصل به معه، وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب، فكثيرا ما يقول: والقياس كذا، أو: والقياس يأباه، ويقول: “سألت الخليل عن قول العرب: “ما أمَيلِحَهُ” فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء إلخ”[11].

وفي الحرص على الاعتزاز بالشواهد الوثيقة لدعم الأحكام التي قررها.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة

 


[1] راجع المغني الباب الأول مبحث ليس.

[2] راجع جـ١ ص٤٠.

[3] راجع جـ١ ص٢٥.

[4] راجع جـ١ ص٢٥٨.

[5] راجع جـ٢ ص١٠٩.

[6] راجع جـ٢ ص٤١٢.

[7] لأنه مبني، والتنوين ينافي البناء عند بعضهم.

[8] جـ١ ص١٦١.

[9] جـ١ ص٥٢.

[10] في جـ١ على الترتيب ٧٥، ٧٩، ٢١٨، ٢٢٤، ٣٩٣.

[11] جـ٢ ص١٣٥.

ترك تعليق