كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل

علمت إجمالا أن واضعه من رجالات عصر الإسلام على ما تقدم بيانه، لكنهم اختلفوا واضطرب اختيارهم متقدمين ومتأخرين، كابن سلام في طبقات الشعراء، وابن قتيبة في المعارف، والزجاجي في الأمالي، وأبي الطيب اللغوي في مراتب النحويين، والسيرافي في أخبار النحويين البصريين، والزبيدي في الطبقات، وابن النديم في الفهرست، والأنباري في نزهة الألبا، والقفطي في إنباه الرواه، فيمن هو الواضع؟

على أن هذا الاختيار لا يعدو في الواقع أن يكون إما للإمام علي كرم الله وجهه، كما يرى الأنباري والقفطي، أو لأبي الأسود الدؤلي، كما يراه السابقون قبلهما، فأما عزو الوضع إلى نصر بن عاصم الليثي، أو عبد الرحمن بن هرمز فبمعزل عن الاختيار والتأييد، ولا أطيل الحديث بنقل كلام هؤلاء العلماء جميعا مكتفيا بنقل كلام الأنباري لأنه أعناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختاره أولا مع روايتين في سبب وضع علي كرم الله وجهه، ثم ذكر مختار غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسود، ولعلك ذاكر ما “وجهنا” النظر إليه سابقا في سبب الوضع من أن الحق عدم الوقوف في سبب الوضع على أي قول عند سبب خاص، ثم فند القولين الأخيرين، ثم عاد مصرحا برجحان اختياره قال: “اعلم أيدك الله تعالى بالتوفيق وأرشدك إلى سواء الطريق أن أول من وضع علم العربية وأسس قواعده وحد حدوده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي، وسبب وضع علي عليه السلام لهذا العلم ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الأعاجم فأردت أن أضع شيئا يرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة وفيها مكتوب: الكلام اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبئ به والحرف ما أفاد معنى، وقال لي: انح هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم. قال: ثم وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام إلى أن وصلت إلى باب “إن وأخواتها ما خلا لكن ” فلما عرضتها على علي -عليه السلام- أمرني بضم لكن إليها، وكنت كلما وضعت بابا من أبواب النحو عرضته عليه إلى أن حصلت ما فيه الكافية، قال: ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت! فلذلك سمي النحو”.

وروي أن سبب وضع علي -عليه السلام- لهذا العلم أنه سمع أعرابيا يقرأ: ﴿ لا يأكله إلا الخاطئين [1] فوضع النحو.

ويروى أيضا أنه قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فقال: من يقرئني شيئا مما أنزل الله تعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم- فأقرأه رجل سورة براءة فقال: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ[2] بالجر، فقال الأعرابي: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر -رضى الله عنه- مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن فسألت من يقرئني؟ فأقرأني هذا سورة براءة فقال: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ ﴾ فقلت: أوقد برئ الله تعالى من رسوله إن يكن الله تعالى برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال عمر -رضى الله عنه-: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر -رضى الله عنه- أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع النحو.

وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل، قال: فجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنونا، فقال له زياد: توفي أبانا وترك بنونا، ادع لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه، ففعل.

ويروى عنه أيضا أن أبا الأسود قالت له ابنته: ما أحسنُ السماء؟ فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي ما أحسنَ السماء، فحينئذ وضع النحو، وأول ما رسم منه باب التعجب.

وزعم قوم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وزعم آخرون أن أول من وضع النحو نصر بن عاصم، فأما من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز أو نصر بن عاصم فليس بصحيح، والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب -رضى الله عنه- لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي، فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت [3] حدوده من علي بن أبي طالب[4].

ولا ريب أن الاختلاف في المختار من القولين بين الجماعة والأنباري مرجعه إلى الحدس والتخمين، فليس مع أحد المختارين ما يرجحه على الآخر لا من العقل ولا من النقل المتواتر، فما هي إلا روايات يناهض بعضها بعضا غير أن الظنون متفاوتة عند الموازنة بين المتكافئين، ويظهر أن الحق في جانب الجماعة، فإن وضع النحو أمر خطير يتقاضى من القائم به عناية مبذولة إليه خاصة وصدوفا عن مشاغل الحياة عامة، ووقتا طويلا يستنزف في التقصي للكلام العربي، وإعمال الفكر واستخراج القواعد، في حياة كلها هدوء واستقرار، يرفرف عليها جناح الأمن والسلام، وحياة الإمام علي كرم الله وجهه تقضت في النضال العنيف، والشجار المستحر، ملأتها الحوادث المروعة، واكتنفتها أمواج الاضطرابات الشاملة، فبعيد أن الإمام عليا يواتيه الوقت الكافي للنهوض بأعباء هذا العمل الجلل، على أنا لا نأبى أن له اليد الطولى على أبي الأسود في الإرشاد له، والإشراف عليه، وتقريره لما صح في استنتاجه، وقد يكون في ذلك تقريب للجمع بين الاختلاف في المختار فللإمام فضل الهداية إلى الأساس، ولأبي الأسود فضل القيام بوضعه على ضوء هدي الإمام.

المصدر: نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة


[1] من الآية ٣٧ من سورة الحاقة.

[2] من الآية ٣ من سورة التوبة.

[3] لفق بالكسر طفق والشيء أصابه وأخذه وأحاديث ملفقة كمعظمة مزخرفة.

[4] راجع نزهة الألبا، وقد تركنا رواية أخرى عن زياد.

ترك تعليق