أقسام الكلام
فأول ما نذكر من ذلك إجماع النحويين على أن الكلام اسم وفعل وحرف وحقق القول بذلك وسطره في كتاب سيبويه، والناس بعده غير منكرين عليه ذلك.
نبدأ بما يسأل عنه أصحاب سيبويه وما يحتج به له. يقال لأصحابه وستئر من اعتقد هذا المذهب: من أين لكم أن كلام العرب كله اسم وفعل وحرف؟ وكيف حكمتم بذلك وشهدتم بصحته من غير دليل ولا برهان وإنما ذكره سيبويه في أول كتابه حين قال: “الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى” فقال قائلون: إنما قصد/ الكلام العربي دون غيره. وقال آخرون بل أراد الكلم العربي كله والعجمي. وفي ذلك احتجاج ونظر لم نقصد له في هذا الكتاب لأنا قد شرحناه في كتاب شرح الرسالة بجميع ما فيه، ولسنا نخاطبكم إلا على أنه قصد الكلم العربي دون سائر اللغات، لأن الجواب عن ذلك أسهل عليكم وأقرب. ثم مثل سيبويه كل صنف من ذلك ولم يقرنه بدليل قاطع ولا حجة فيدل على أن الكلام ثلاثة أقسام كما ذكروا، وأنه لا رابع لهذه الأقسام ولا خامس ولا أكثر من ذلك. فإن كنتم قبلتم ذلك عنه تقليداً من غير برهان ولا حجة، فأنتم في عمياء وشبهة فما دعاكم إلى قبول ذلك منه وقد علمتم أن النحو علم قياسي ومسيار لأكثر العلوم لا يقبل إلا ببراهين وحجج. ما خلا ما لزم قبوله من علوم الشريعة بعد وضوح الدلائل وإقامة البراهين والدلائل العقلية الحقيقية على لزوم الحجة، وأنتم جعلتم أول قبولكم من صباحكم ما أدعاه من غير برهان ولا بيان وما نؤمنكم من أن يعارضه معارض يقول لكم: كلام العرب: أكثر من هذه الأقسام. فبأي شيء تصلون إلى بطلان دعواه وتصحيح دعوى صاحبكم؟
الجواب أن يقال له: إن من الأشياء أشياء تعرف ببديهة العقل بغير برهان ولا دليل بها يُستدل على المشكل الملبس والغامض الخفي؟ كما أنا نعلم بديهة بغير دليل أن وجود جسمٍ في حال واحدة ساكناً متحركاً محال … إلا في حال خلق الله عز وجل كما علم ذلك استدلالاً؛ وكما أنا نعلم أن وجود جسم واحد في مكانين في حال واحدة ووقت واحد محال؛ كما أن وجوده لا في مكان محال؛ ومن الأشياء ما يُعرف بالدلائل الواضحة القريبة المنفق عليها التي لا تشكل على أحد حتى تقوم مقام ما يعرف بديهة بغير استدلال.
ونحن نعلم أن الله عز وجل إنما جعل الكلام ليعبر به العباد عما هجس في نفوسهم، وخاطب به بعضهم بعضاً بما في ضمائرهم مما لا يوقف عليه/ بإشارة ولا إيماء ولا رمز بحاجب ولا حيلة من الحيل، فإذا كان هذا معقولاً ظاهراً غير مدفوع فيبين أن المخَاطب والمخاطِب والمخبَّر عنه والمخبر (به) أجسام وأعراض تنوب في العبارة عنها أسماؤها، أو ما يعتوره معنى يدخله تحت هذا القسم من أمر أو نهي أو نداء أو نعت أو ما أشبه ذلك مما تختص به الأسماء، لأن الأمر والنهى إنما يقعان على الاسم النائب عن المسمى، فالخبر إذاً هو غير المخبر والمخبر عنه وهما داخلان تحت قسم الاسم، والخبر هو الفعل وما اشتق منه أو تضمن معناه وهو الحديث للذي ذكرناه ولابد من رباط بينهما وهو الحرف، ولن يوجد إلى معنى رابع سبيل فيكون للكلام قسم رابع، وهذا معنى قول سيبويه الكلم اسم وفعل وحرف، وقد رُوي لنا أن أول من قال ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه؛ أعني قوله الكلام اسم وفعل وحرف؛ ثم قال له: قد دللنا على صحة مذهب صاحبنا وأريناك أن اعتقادنا ليس تقليداً بل ببحث ونظر. والمدعى أن للكلام قسماً رابعاً أو أكثر منه مُخمن أو شاك؛ فإن كان متيقناً فليوجد لنا في جميع كلام العرب قسماً خارجاً عن أحد هذه الأقسام ليكون ذلك ناقضاً لقول سيبويه؛ ولن يجد إليه سبيلاً؛ وليس يجب علينا ترك ما قد تيقناه وعرفناه حقيقة وصح في العقول لشك من شك بغير دليل ولا برهان؛ لأن الشكوك لا تدفع الحقائق وبالله التوفيق؛
سؤال آخر على أصحاب سيبويه. يقال لهم:
أعني قولهم رجل وزيد؛ وقام يقوم؛ ومن وإلى وما أشبه ذلك، وقد علمتم أنها كلها أفعال المتكلم لأنها كلام ونطق، والكلام يفعله المتكلم ويوجده بعد أن لم يكن، فهو فعل من أفعاله، ولستم ممن يقول إن الاسم هو المسمى لفساد ذلك عندكم/ فزيد إذاً غير من هو دال عليه. وقام في قولك قام زيد، ليست هذه اللفظة بفعل زيد إنما هي فعل المتكلم، وفعل زيد حركته وهذه عبارة عنها، وكذلك سائر هذه الأشياء إنما هي أفعال المتكلمين فلم رتبها النحويون هذه المراتب وسموها بغير استحقاقها؟
الجواب أن يقال: إن هذه الأشياء وإن كانت كما ذكرتم أفعالاً للمتكلمين الناطقين بها، فهي مختلفة المعاني متباينة المجاري في طريق الإعراب. وكل واحد منها له نحو في كلامهم ليس للآخر، ووجه ينفرد به، فلما كان ذلك كذلك وجب الفرق بينهما وأن يوسم كل جنس منها بأشكل الأشياء به، فجمع بذلك أشياء، منها الفرق بين يعضها وبعض أنها وإن كانت قد جمعها أنها أفعال فهي أنواع. كما أن من أفعال العباد القيام والقعود والحركة والسكون وما أشبه ذلك ولكل نوع منها سمة ينفرد بها، وهي كلها أفعال. ومنها أن نعرف مجاريها في الإعراب، ومنها أن يسهل على متعلم العربية التوصل إليها إذا قسمت هذه الأشياء وفصلت وحصل لكل نوع منا ما ينفرد به وما يشركه فيه غيره، فلما لم يكن من ذلك بدٌ كان أولى الأشياء باللفظة الموضوعة على المسمى الدالة عليه، أن يقال لها اسم وإن كانت فعلاً لغيره، وهي دالة على المسمى بها وسمة له، فكان أولى الأشياء من هذه الأقسام الثلاثة المسمى فعلاً، ما كان عبارة عن فعل زيد وهي فعل للمتكلم فاعتورتها الفعلية من جهتين، فسميت لذلك فعلاً دون الاسم والحرف.
وسمي القسم الثالث حرفاً لأنه حد ما بين هذين القسمين ورباط لهما، والحرف حد الشيء، فكأنه لوصله بين هذين كالحروف التي تلي ما هو متصل بها، وهذا بيّن واضح. وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يقول “أجيز أن أسميها كلها أسماء” يذهب في ذلك/ إلى أن قولنا “زيد” كلمة دالة على مسمى، وقولنا “قام” كلمة دالة على حدث في زمان، وقولنا “إن ومن ولم” وما أشبه ذلك كلمة دالة على معنى، وكل واحد منها اسم لما دل عليه. وقال: “ويجوز أن اسميها كلها حروفاً. وكأنها قطع الكلام متفرقة. ويجوز أن اسميها أفعالاً” على غير طريقة أوضاع النحو بل على الحقيقة التي قدمنا ذكرها.
وأما الاحتجاج للأولين الذين زعموا أن الكلام كله اسم وفعل وحرف.
فجعلوا العربي وغيره في ذلك سواء، فهو بعينه الاحتجاج الذي تقدم ذكره لمذهب سيبويه، لأن الكلام إذا كان مقصوداً به الإبانة عن الضمائر ومحتاجاً إليه للخطاب والمحاورات فكل فريق يخاطب بلغته كخطاب من تأتيه في لغته. وإن كان تقدم في ذلك للعرب حسن بيان، وفضل نظم وحكمة، لما حباها الله عز وجل بذلك تخصيصاً منه وتكرمة، فإذا كان كذلك، كان مرجع ذلك كله إلى أصل واحد، وهذا غير مشكل، وقد اعتبرنا ذلك في عدة لغات عرفناها سوى العربية فوجدناه كذلك، لا ينفك كلامهم كله من اسم وفعل وحرف، ولا يكاد يوجد فيه معنى رابع ولا أكثر منه؛ وإن كان ليس له ترتيب العربي ونظمه وحسن تأليفه؛ فأما القول فيما قاله سيبويه في كتابه هذا باب علم ما الكلم من العربية، وما في ذلك من الألفاظ والوجوه؛ فقد ذكرته أجمع في كتاب أفردته لتفسير رسالة كتاب سيبويه، فكرهت تطويل هذا الكتاب.