كلام العرب الفصحاء في الاحتجاج النحوي

إنَّ كلامَ العربِ الفُصحاءِ يُعدُّ مَصدراً مِن مَصادرِ الاحتِجاجِ فقد استَقرأَهُ أهلُ اللغة والنَّحو، وسَعَوا إلَيهِ فِي مَوطنهِ بِالباديةِ عِندَ القبائِلِ العربيَّةِ، أو التقَوا بِأهلِهِ في الحواضِرِ ونقلُوهُ بأمانةٍ وصِدقٍ، وصحَّحُوا الشَّواهِدَ الكثيرةَ مِن هؤلاءِ الأعرابِ.

وكانتِ القبائِلُ التي تعيشُ في وسطِ الجزيرةِ العربيةِ وبوادِيها محطَّ عنايةِ النَّحويينَ واللُّغويينَ لما لها من فصاحةٍ وبيانٍ، ولا سيَّما تميم، وأسد وطيء وقيس، وهُذَيل، وسُليم وغيرها.

وكانوا يَصِدُّونَ عن غسانَ وتغلب وأمثالها ممَّن عاشُوا في أطرافِ العراقِ مجاورينَ للفرسِ وفي الشَّامِ مُجاورينَ للرُّومِ.

وكانَ النَّحويُونَ يُحيطونَ إحاطةً تامَّةً بِما في تِلكَ البيئاتِ المختلفةِ مِن أعرافٍ لُغويَّة، فأهلُ الباديةِ يَتَمسَّكونَ بِلُغاتِهِم، وقلَّما يَدَعُونَها إلى غيرِها، وأهلُ الحاضِرةِ يتأثَّرُونَ بِكلِّ جَديدٍ..

ومِن هنا رأينا ابن جني (ت392هـ) يقولُ ما قالَهُ الأخفش قبله: “ولَيسَ أحدٌ من العربِ الفُصحاءِ إلا يقول: إنَّه يحكِي كلامَ أبيهِ وسَلَفِهِ، يَتَوارثُونَهُ آخراً عن أوَّلَ، وتابِعٍ عن متبوعٍ، وليسَ كذلِكَ أهلُ الحضرِ، لأنَّهُم يتظاهرُونَ بينَهم بِأنَّهُم قد تَرَكُوا وخالَفُوا كَلامَ مَنْ يَنتَسِبُ إلَى اللُّغةِ العربيَّةِ الفَصيحةِ”[1].

 


[1] الخصائص: لأبي الفتح عثمان بن جني (ت392هـ)، تحقيق محمد علي النجار، القاهرة، 1952م، 2 92.