التشبيه المعكوس
(عكس التشبيه)
جرت العادة على أن يتم تشبيه الأمر بما هو أعرف وأشهر منه في الصفة؛ لكي تتجلَّى حقيقته للناظر ويأنس به، فيشبه الوجه بالبدر في الجمال والنور، وتشبه الحجة بالشمس في الظهور، وتشبه سنن الهدى بالنجوم وهكذا، فهذه أصول يشبه بها، ويعد غيرها فروعًا لها تشبه بها، وتقاس عليها، وتعرف مقاديرها بها؛ بل ويطلب لها الزيادة بهذا التشبيه.
ولكن قد يأتي التشبيه على وجه العكس، وذلك على سبيل الإيهام بأن الشيء أو الأمر هو أتم وأعرف وأشهر مما يشبه به، وهذا النوع من العكس قد يأتي في التشبيه المفرد، وفي التشبيه المركب، أو تشبيه التمثيل.
فمثال العكس في التشبيه المفرد قول الشاعر:
وبدا الصباح كأن غرته *** وجه الخليفة حين يمتدح
قال الإمام الجرجاني في شرح البيت: وقد يقصد الشاعر، على عادة التخييل، أن يوهم في الشيء هو قاصر عن نظيره في الصفة، أنه زائد عليها في استحقاقها، واستيجاب أن يجعل أصلًا فيها، فيصح على موجب دعواه وسَرَفه أن يجعل الفرع أصلًا، وإن كنا إذا رجعنا إلى التحقيق، لم نجد الأمر يستقيم على ظاهر ما يضع اللفظ عليه، ومثاله قول محمد بن وهيب:
وبدا الصَّباحُ كأنَّ غُرَّتَه *** وَجْهُ الخليفةِ حينَ يُمْتَدَحُ
.. وهذا الأسلوب من وجوه الإغراق والمبالغة، فيه شيء من الخلابة والسحر[1].
ومثال العكس في تشبيه التمثيل، تشبيه النجوم بسنن الهدى في قول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها *** سنن لاح بينهن ابتداع
وذلك أن الضلالة والبدعة تجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيء من غيره حتى يتردَّى في مهواة، ويعثر على عدوٍّ قاتل أو آفة مهلكة؛ فلذلك شبهت بالظلام، وقصد الشاعر إلى جعلها أعرق في الظلمة من دجى الليل على وجه التخييل والإيهام، فقاسه عليها وشبَّهَه بها.
ثم لما شاع وتعورف، واشتهر وصف السنة بالبياض والإشراق؛ لأن صاحبها يهتدي إلى الطريق في ظلمة البدع والجهل، فقد نزلها الشاعر في الإشراق فوق النجوم، وجعلها الأصل والنجوم فرع تشبه بها، وذلك على سبيل التخييل[2]؛ فلذلك كان تشبيه الشاعر الدجى والنجوم بالبدع والسنن على وجه العكس مبالغة في تنزيلهما مقام الأصل.
ومن هذا الباب أيضًا قول الشاعر:
ولقد ذكرتُك والظلام كأنه *** يومَ النَّوى وفؤاد من لم يعشق
فقد جعل الشاعر يوم الفراق كأنه أصل في السواد أعرف وأعرق من الظلام، ثم شبه الظلام به، وذلك على سبيل العكس، وإلا فالعادة أن يوم الفراق هو الذي يشبه بالظلام.
قال الإمام الجرجاني في شرح البيت: (لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد؛ فيقال: “أسودَّ النهار في عيني”، و”أظلمتُ الدنيا عليَّ”، جعل يوم النوى كأنه أعرف وأشهر بالسواد من الظلام، فشبه به، ثم عطف عليه “فؤاد مَنْ لم يعشق” تطرفًا وإتمامًا للصنعة)[3].
2 Comment