دروس في النقد والبلاغة
الدرس الثاني عشر: النهي
يقولُ الشرطي لسائِقِ السيارَةِ: “لَا تترك السيارة فِي هذا المكان”، وتقولُ لصديقك: “لا تُغادِر هذا المكان قبلَ أن أُلِمَّ بِكَ“.
في هذين النموذجين استعملَ النهي ولم يقصد به- فيما يظهر- إِلَّا طلب الكفِّ عَن فعل؛ لكن النهي كالأمر، يكثر استعماله، وتكثر القرائن التي تحفُّ بِهِ، وتُضفي عليه قوَّة، وتُمكِّنه مِنْ أَدَاءِ أَغْرَاضٍ أدبيَّةٍ.
فقولُ أبي العلاء:
لَا تحلِفَنَّ عَلَى صدقٍ وَلا كَذِبٍ= فَمَا يُفيدك إِلَّا المأثمَ الحلِفُ
تجاوز طلب الترك (الساذج) إِلى إِرْشادِ الناصح المبيِّن لحكمة النهي حَتَّى يستقيمَ النصح ويستقرَّ في ذهن السامعِ.
وقول الله تبارك وتعالى: ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 66] قَطَعَ عَلَى الكافرين كلَّ سبيلٍ للاعتذارِ، وملأ نفوسهم يأْسًا مِنَ النجاةِ.
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثالث: السجع
ولننظر أَيْضًا في قول الخنساء:
أعينيَّ جُودا ولا تَجْمُدا=أَلَا تبكيانِ لِصَخْرِ النَّدَى
أحسَّتِ الخنساءُ بالحزنِ الثقيلِ الذي ينقطع معه الدمع، وضاقت بهذا الجمود، وتصوَّرت عينيها عاجزتين عن الوفاءِ بحقِّ الحزن على هذا الشهم الكريم أخيها صخر، وهذا الصراع الذي تتوهَّمه بينها وبين عينيها البخيلتين يُشعِل الحُزن، وهو منشأ قوَّة التعبير بالنهي في البيتِ.
وقول المتنبي:
فلا تُبلغاه مَا أقول فَإِنَّهُ=شجاعٌ متى يُذْكَرْ لَه الطَّعْنُ يَشْتَقِ
يلتمس مِن رفيقينِ يتخيلهما على عادة الشعراء أَن يكتما عن سيف الدولة مَا سمعاهُ مِن وصفِ شجاعتهِ، وَإِذا وقفنا في فَهْم النهي الأدبي عِنْدَ حَدِّ الالتماس كان هيِّنًا ضئيلًا، فلنرجع إلى السياقِ:
هَوَادٍ لأمْلاكِ الجُيُوشِ كأنَّهَا = تَخَيَّرُ أرْوَاحَ الكُمَاةِ وتَنْتَقي
تَقُدُّ عَلَيْهِمْ كلَّ دِرْعٍ وَجَوْشَنٍ = وَتَفْري إليهِمْ كُلَّ سُورٍ وَخَنْدَقِ
يُغِيرُ بهَا بَينَ اللُّقَانِ وَوَاسِطٍ = وَيَرْكُزُهَا بَينَ الفُراتِ وَجِلَّقِ
وَيُرْجِعُهَا حُمْرًا كأنَّ صَحِيحَها = يُبَكِّي دَمًا مِنْ رَحمَةِ المُتَدَقِّقِ
فَلا تُبْلِغَاهُ ما أقُولُ فإنَّهُ = شُجاعٌ متى يُذكَرْ لهُ الطَّعْنُ يَشْتَقِ
ضَرُوبٌ بأطرافِ السُّيُوفِ بَنانُهُ = لَعُوبٌ بأطْرافِ الكَلامِ المُشَقَّقِ
والمعنى: أَنَّ الرماح القواتل تهدي أَصحابها إلى أرواحِ الملوكِ فتهبها، وكأنَّها تتخيَّر الأبطال، فلا تصيب إِلَّا خيارهم وأكابرهم، تقطع دروعهم وخنادقهم، ويُغير بها سيفُ الدولةِ غارات واسعة، يزحف إليهم مِنَ العراقِ فتنتشر جيوشه من واسط- بالعراق- إلى اللَّقان- بلد بالروم- ثُمَّ يعودُ عنهم فتملأ جنودُه الشام مِن دمشق إلى الفراتِ.
وقد أخذت الرِّماحُ تقطر دمًا كَأنَّ الصحيح منها يبكي عَلَى الذي تكسَّر في دروع الأعداء من شِدَّةِ الطعن، ثُمَّ اتجه إلى صاحبَيه يسألهما ألَّا يذكرا له وصف القتال.
- موضوعات ذات صلة:
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
- دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب
وبعد فَإِنَّ سيف الدولة كان يستمعُ إلى القصيدة؛ ولكن الشاعر خَيَّل إلينا أَنَّه يحكي لصاحبين بمبعدة عنه، فصورة النهي هنا صورة بليغة مكَّنت المتنبي مِن معاودة المديحِ دونَ فتورٍ ولا إملالٍ، وعبرَ على هذا النهي إلى معانٍ أخرى بعضها مُكرَّر هو الشجاعة؛ لكنَّ القارئ لا يفطن إلى التكرارِ؛ لأنَّ الشاعرَ مهَّدَ له بهذا النهي القوي الذي يؤدي إلى التحامِ أجزاء القصيدة، ويجعل العناصر التالية مستقرةً مُتمكِّنةً، ولانفعال الشاعر الذي يُشبه البحر الهائج أثرٌ قويٌّ في هذا الاستقرار والتلاحم، والسياقُ يفصح عَن معدن جمال النهي في النموذج التالي أيْضًا:
أَلهى المَمالِكَ عَن فَخْرٍ قَفَلتَ بِهِ= شُربُ المُدامَةِ وَالأَوتارُ وَالنَّغَمُ
مُقَلَّدًا فَوقَ شُكرِ اللهِ ذا شُطَبٍ= لا تُستَدامُ بِأَمضى مِنهُما النِّعَمُ
أَلقَت إِلَيكَ دِماءُ الرومِ طاعَتَها= فَلَو دَعَوتَ بِلا ضَرْبٍ أَجابَ دَمُ
يُسابِقُ القَتْلُ فيهِم كُلَّ حادِثَةٍ= فَما يُصيبُهُمُ مَوتٌ وَلا هَرَمُ
نَفَت رُقادَ عَلِيٍّ عَن مَحاجِرِهِ= نَفسٌ يُفَرِّجُ نَفسًا غَيرَها الحُلُمُ
القائِمُ المَلِكُ الهادي الَّذي شَهِدَت= قِيامَهُ وَهُداهُ العُربُ وَالعَجَمُ
ابنُ المُعَفِّرِ في نَجدٍ فَوارِسَها= بِسَيفِهِ وَلَهُ كوفانُ وَالحَرَمُ
لا تَطلُبَنَّ كَريمًا بَعدَ رُؤيَتِهِ= إِنَّ الكِرامَ بِأَسخاهُم يَدًا خُتِموا
وَلا تُبالِ بِشِعرٍ بَعدَ شاعِرِهِ= قَد أُفسِدَ القَولُ حَتَّى أُحمِدَ الصَّمَمُ
قَالَ المتنبي مُخاطبًا سيف الدولةِ: إِنَّ الملوكَ شُغِلوا بشرب الخمرِ وسماع الغناءِ عَن مثل هذا الفخر العظيم الذي رجعت به مقلدًا شكر الله والسيف، ولا شيءَ أفعل مِن هذين في استدامة النِّعَم.
صارت دماءُ الأعداء لكثرة مَا تَقْتُل منهم لا تمتنع عليكَ كلما شئت سفكها، ولو دعوتهم للقتالِ ولم تضربهم لسالت دماؤهم قبلَ الضرب إجابةً لَكَ.
هؤلاءِ أعداؤك لا يموتن حتفَ أنوفهمـ ولا يهرمونَ لكبر السِّنِّ؛ وإِنَّمَا تتقدَّم إليهم فتقتلهم شبانًا أصِحَّاء الأبدانِ.
نفى الرقادَ عن عيني سيف الدولة، نفسٌ كبيرةٌ لا تفرح بما تراهُ في الأحلامِ، فهو لا يأوي إلى دَعة مِنَ النومِ، ولا يغترُّ بما تزينه له الرؤى من بلوغ الآمال فينصرف عَن مزاولة الأمور الجِسام.
هذا سيف الدولة يقومُ بأمور الملك أحسن قيامٍ، شهدت له بحُسْن التدبير العرب والعجم، وهو ابن الذي قتل فرسان نجد، وتركهم يتمرَّغونَ في الترابِ وملك الكوفة والحرم.
أفاضَ المتنبي في وصف شجاعة سيف الدولة، وأرادَ أن يضمَّ إليها مناقب الكرم، وآثرَ أن يجعل ذلكَ في أسلوب النهي الذي أغْنَاه عن الإطالة، وأكسب معنى الكرم إيجازًا شاملًا يعدل الإطناب السابق في وصفِ معارض الشجاعة، ثُمَّ انتفعَ بأثر هذا النهي في الإشادَةِ بشاعريتهِ هو فألْحقه بنهيٍّ آخر، وقعَ مَوْقِعًا حسنًا مستظلًّا بالأوَّلِ، وكأَنَّه يعيشُ فِي كنفهِ .