دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب

 

الأسلوب هو: الطريقة التي يسلكها الكاتب (أو المتكلم) في تعبيرهِ عَمَّا يريدُ أَن ينقله مِنْ أفكارٍ وشعورٍ إِلى قارئيه (أو سامعيهِ).

ولا شك أننا قد مرَّ بِنا في دراستنا وقراءتنا صور متعددة ونماذج مختلفة لأساليب الكتاب والشعراء، ولا بُدَّ أَننا تأثرنَا بها بدرجاتٍ متفاوتةٍ، فمنها مَا أعجبنا ومنها ما تقبلنَاهُ بفتورٍ، ومنها مَا قد نكون قد سئمناهُ وكرهناه، وليسَ الأمر في كُلِّ ذلكَ راجع إلى الكاتب وحده، فقد يكون هو المسؤول عَمَّا في أسلوبِهِ مِن جمالٍ أو قبحٍ أو فتورٍ، وقد يكون السبب في ذلكَ طبيعة الموضوع بالنسبة إلينَا، فقد نحب موضوعًا أكثر من غيرهِ فيميل بنا حبنا للموضوعِ إلى الإعجابِ بما كتب عنه، وقد ننفرُ مِنْ موضوعٍ فيزهدنَا نفورنا فيما كتب فيه، (وقد نكون نحن غير مستكملين للثقافة التي تمكننا من تذوقِ الأساليب والوقوف على مَا فيها من جمالٍ أو قبحٍ أو تقصيرٍ).

وَلَا شكَّ أَنَّ لكلِّ كاتبٍ شخصيته الخَاصَّة في الإحساسِ بحوادثِ الحياة، وإدراك الأمور التي تمر به، والتعبير عَن ذَلِكَ بطريقةٍ تبدو فيها هذه الشخصيَّة وَمَا فيها مِن تفاؤل يُضفي على الكتابَةِ بهجةً وسرورًا أو تشاؤم يقبضُ النفس ويوحشها، أو حب للمبالغةِ (يقيم مِنَ الحبة قبة)، أو نزوع إلى الإيجاز (فقد يجعل مِنَ الصعبِ فهم المراد)، … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصفاتِ المميزة التي نسميها الأسلوب، ولكن هناك قدرًا لا بُدَّ من تحققه في كل أسلوب هو: المحافظة على جوهرِ الموضوع بحيث يتسنّى للنَّاسِ عامة – أو على الأقل للمثقفينَ منهم – أَنْ يفهموه وسط مَا يُحيطُ به مِنْ زخرف التعبير أَو المبالغة أو الإيجاز، وهذا القدر هو الذي نعتمدُ عليه في حياتنا في دوامِ التفاهم بيننا، ولنا بعدَ ذلكَ أَن نضفي من شخصيتنا ومن ذوقنا الأدبي مَا نراهُ مناسبًا في كلِّ حالةٍ، فنشبه الشيء بغيرهِ، أو نلجأ إلى المجازِ الذي يستعمل اللفظ في غيرِ معناه اللغويّ، ونقدّم بعضَ أجزاء الكلام تارة، ونؤخرها تارة أخرى لنحقق بذلكَ أغراضًا تتمثل في نفوسنَا ونرغب في نقلها إلى سامعينا.

وهذه الصفات التي تتمثل في شخصية كل كاتبٍ وتظهر في أسلوبهِ تكون في أساسها طبيعية فيه. غيرَ أَنَّ التربية الأدبية والبلاغية لها أثرٌ في تهذيبها وتشكيلها، وهذا هو الذي نقصده من دراستنا للنقد والبلاغة، بحيث نصبح إلى جانب تذوقنَا للأساليب المختلفة قادرينَ على تكوين أسلوبنا الخاص في كتاباتنا، فيتسنى لَنَا أن ندركَ في عبارتين مِن إِنْشَائِنَا – كلتاهما صحيحة مِنَ الوجهةِ النحويَّةِ وتؤديان معنًى واحدًا – أيتهما أفضل مِنَ الأخرى، أفضل مِن حيث مناسبتها للمقام، أفضل مِن حيثُ موسيقاها ووقعها على أذن السامع، أفضل مِن حيثُ السمو والارتفاع عن المستوى العادي للكلام، ومجرد الشعور بأَنَّ إحدى العبارتين تفضل الأخرى يدل على تربية ذوقنا الأدبي وإدراكنا لقدرٍ مِنْ معنى الأسلوب، (وبدون هذا التمييز لا يتمتع القارئ بقراءتهِ ولا يتمتع الكاتب بكتابتهِ).

عَلَى أَننا لا نستطيعُ أَنْ نضع قواعد محددة للأسلوبِ، فهو في جوهرهِ يعتمدُ على الذوقِ السليم، ولكننا نستطيع أَن نتحدَّث عَن ضوابط تهدي الناشيء في تهذيب هذا الذوق وترقية الأسلوب.

وأَوَّل مَا يخطر بذهننا عندَ الحديثِ عَن الأسلوب هو: الكلمات التي تتألَّف منها العبارة أو الجملة.

ولا شك أَنَّ الكلمة عنصر مهم في الأسلوبِ، ولكنه ليسَ للكلمةِ عادة قيمة ذاتية بمفردها؛ فَإِنَّه لا حياةَ لَهَا إِلَّا باشتراكها وتفاعلها مَعَ كلماتٍ أخرى يتألف من العلاقاتِ التي تنشأ بينها جميعًا المعنى الذي نريده، فَأنْتَ إِذَا نظرتَ إلى حائطٍ أمكنك أَن تصفه بأَنَّه مجموعة من الحجارة (أو الآجر والملاط)، أَمَّا الجملة المعبرة فليست مجموعة من الألفاظِ رصفت بعضها إلى جانبِ بعضٍ.

ومهما يكن اختلاف الأثر الذي يحدث من تغيير وضع الآجر في بناءِ الحائطِ، فَإِنَّ اختلاف وضع الألفاظِ في بناءِ الجملةِ يؤدِّي إلى مغايرة أعظم في تأديةِ هذه الجملة للمعاني التي تنشأ عَن هذا الاختلاف.

ولننظر إلى كمية رياضيَّة كالآتية:

5 + 6 + 7 = 18

فمعنى هذه الكمية أو المعادلة وقيمتها لا يختلف إذا تغير وضعها كالآتي:

6 + 5 + 7 = 18

أو:

7 + 5 + 6 = 18

وليسَ الأمر كذلكَ فيما يتعلق بالتعبير الأدبي؛ لأَنّه يستمد قوته من علاقة الألفاظ بعضها ببعضٍ.

وبعض الألفاظ لها معان محددة لا تتأثَّر أو تكاد لا تتأثَّر بالأوْضاع التي تقع فيها، ولكن هذه الكلمات قليلة جدًّا، فكلمة (رطل) و(تسعة) و(مثلث) و(مربع)، تؤدِّي معنًى محددًّا في أي سياقٍ تقع فيه، بخلاف كلمة مثل (ذراع) و(ألْف) و(عين)، فإِنَّ استعمالها ليسَ استعمالًا مطلقًا لا يتأثَّر بالوضع الذي تقع فيه في الجملةِ، بل يتغير معناها من سياقٍ إلى سياقٍ، ووظيفتها التي تؤدِّيها في اللغةِ هي هذا التغير بتغير السياق، ولولا ذلكَ لكانت اللغة ضيقة مسئمة، فذراع الرجل غير ذراع القياسِ، و(ألف) لها معني في: “دفعت له ألف جنيه”، ومعنى آخر في: “قلت لك ألف مرة لا تفعل هذا”، وعين الإنسان غير عين الماء … إلخ.

وانظر في المجموعتين الآتيتين مِنَ الألفاظِ لتدرك الفرق بينَهما:

أ‌- سكين، مثلث، دائرة، مربع، أرنب، رعد، برق، مطر.

ب‌- طاقة، جهد، استعمار، استغلال، إذاعة، ليونة، انساق، جمال، تأثير.

فالمجموعة الأولى تشتمل على ألفاظ تحافظ على معنى واحد في كل سياقٍ تُذكر فيه، أو على الأقل مِن شأنها أن تفعل ذلكَ.

ومع ذلكَ فَإِنَّ هذا التحديد للمعنى الواحد للفظ الواحد ليسَ مُطلقًا، بل هو نسبي، فالتحديد الذي في معنى كلمة (سكين) غيره في معنى كلمة (شوكة)، مع أن كلًّا منهما اسم ذات، ومع أنهما كلمتين لشيئين نستعملهما كل يومٍ في تناول طعامنا.

أَمَّا المجموعة الثانية فتشتمل على أسماء تدل على معانٍ لا على ذواتٍ، وهي بطبيعتها لا يتحدَّد معناها إِلَّا في سياقٍ، وهي كذلكَ تختلف في درجةِ تغير معناها بتغير السياق، وتبلغ أقصاها في بعضِ الصور الشعريَّة التي يُضفي فيها السياق معانيَ جديدة أو ظلالًا مِنَ المعاني على الألفاظِ.

ولنأخذ مثلاً كلمة (كتاب) فمع أَنَّها اسم ذات، ومع أننا لا نصادف في العادَةِ صعوبة في فهم مدلولها، تتأثَّر أحيانًا بالتفاعل معَ غيرها مِنَ الألفاظِ في الجملةِ، فنحن نجد بعض النَّاسِ يُسمونَ (المجلة) كتابًا، وقد يُسمونَ (المخطوطاتِ) كُتبًا، ومعنى ذلكَ أَنَّ مدلول لفظ (كتاب) ليسَ مُحددًا تحديدًا مستقلًّا عَن غيرهِ مِنَ الألْفاظِ التي تقع معه في الجملةِ، أي إِننا إذا قلْنَا (كتاب) لم نكن واثقين أَن المعنى هو كتاب مخطوط أو كتاب مطبوع أو مجلة … ولا يتبين هذا إِلَّا في سياق تتفاعل فيه الكلمة معَ غيرها تفاعلًا يكشفُ عَن معناها المحدد.

وانظر في الأمثلة الآتية لتتبين مبلغ اختلاف معنى الكلمة باختلاف تفاعلها معَ غيرها:

قرأتُ كتبا البلاغة والنقد.

جُلِّدَ الكتاب.

أنَا أؤلف كتابًا في علم الاقتصاد.

ما زال الكتاب في المطبعةِ.

هو طالب لا يُفارق كتابه.

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2].

﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19].

﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46].

﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ [النمل: 28].

وكذلكَ كلمة (فصل) بمعنى مجموعة مِنَ التلاميذ في فصلٍ مدرسي، وبمعني جزء مِنْ كتاب، وبمعنى موسم مِنَ السنةِ، وبمعنى الحكم في قَوْلِهِ تعالي: ﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾[ص: 20]، وبمعنى يوم القيامة في قِولِهِ تَعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾[الصافات: 21].

وَنحنُ نُدركُ هذا التفاعل بينَ كلمة (كتاب) وجاراتها في الجملةِ، وبين كلمة (فصل) وجاراتها كذلكَ؛ لأننا نعرف هذا التفاعل عَن طريق الاستعمال الأدبي المتعارف بيننا، غيرَ أَنَّ الصعوبةَ في إدراكِ هذا التفاعل تكون أشد حينًا حينما تأتي أسماء المعاني، فكلمة (عهد) تتفاعل تفاعلًا وَاسع المدى مَعَ الألْفاظِ التي تجاورها في الجملةِ، ففي قوله تعالى: ﴿ فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾[التوبة: 4] معناها الأمان، وفى قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ﴾[النحل: 91] معناهَا اليمين، وَفِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ﴾ [آل عمران: 183]، معناها الوصية، وَفي قَوْلِهِ تعالى: ﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ﴾ [طه: 86] معناها الزمن، وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «حُسن العهدِ من الإيمان» معناها الحفظ.

يتبين لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الأسلوب الأدبي لا يتحدَّد في نطاقِ الألفاظ المفردة، فنحن لا نستطيع أَن نحكم على لفظٍ مفرد بِأَنَّه صواب أو خطأ، أو بِأَنَّه جميل أو قبيح، بليغ أو غير بليغ؛ لأَنَّ الألفاظَ يُحيي بعضها بعضًا، ويجمل بعضها بعضًا، ويقبح بعضها بعضًا، بتبادلِ التأثير في معانيها، على أَنَّ هناك عددًا قليلًا من الألفاظِ نستطيع لأوَّلِ وهلةٍ أَن نحكم بأن فيه خشونة وجفوة وقبحًا في علاقةِ أصواتهِ المؤلفةِ له، أي قبحًا في جرْسِهِ الموسيقا، فمثلًا كلمة (قمين) بمعنى (جديد) ثقيلة الظل أينما وضعت، وكذلك كلمة (تَنْوفَة) بمعنى (صحراء)، وكلمة (مستشزرات) بمعنى مرتفعات.

وانظر في المجموعة الآتية من الألفاظِ، فسيتبين لَكَ بذوقكَ أيها أحب إليك وأيها أثقل على السمعِ وأبعد من القبول:

الكلمة

المعني

الدَّقْم

الغَمُّ

اقْرَنْشَعَ

تَنَشَّطَ

الطِّحْرِف

السحاب الرقيق

عام مُدَغْفِقٌ

عام مخصب

ادْرَنْفقَ

أسرع

العَفَنْقَسُ

اللئيم

كذلكَ هناكَ ألفاظ صوتيه تدل بجرسها وموسيقاها على معناها، مثلَ: حرير، وصفير، وزفير، وشهيق، وصهيل، وتذبذب، ودب، ورحَّ، وهزَّ .. وهذه الألفاظ تشتمل على جمالٍ ذاتيٍّ لقوَّةِ دلالتها على معناها بما فيها من محاكاة الطبيعة.

فإِذا نحنُ استثنينا الألفاظ التي لا شك في جمالها، والألفاظ التي لا شك في قبحها – وكلاهما محدود في اللغَةِ – كانت الكلمة المفردة كالعضلة في اليدِ، لا تستطيع أَن تؤدِّي وظيفتها إِلَّا وهي معتمدة على عضلات أخرى، وعلاقات بين هذه العضلات بعضها ببعضٍ، أو هي كاللون في لوحَةٍ فنية مؤلفة من ألوان عدة، لا قيمة لأي لونٍ منها في حَدِّ ذاتهِ إِذا لم نربطه بالألوان التي تجاوره، فَإِنَّه إِنما يكتسب قيمته من علاقتهِ بالألوان الأخرى، وما يؤديه لها وما تؤديهِ له من تناسقٍ وانسجامٍ.

وبعبارَةٍ أُخرى: الكلمة المفردة كنغمة الموسيقا في مجموعة مِنَ النغماتِ المؤلفة لوحدة موسيقيَّة، ليسَ لَهَا كذلكَ قيمة في حَدِّ ذاتها، فَلاَ هي معبرة ولا هي مطربة إِلَّا بانضمامها إلى أخواتها النغمات الأخرى لتؤثِّر كل منها في جارتها وتتفاعل بعضها مع بعضٍ ذلكَ التفاعل الذي يخرج منها لحنًا معبرًا مؤثرًا أثره الفني في النفوسِ.

الأساليب المختلفة:

وسأعرض عليكَ الآن عبارات تصف أشياء متشابهة، ولكن اختلافها في الأسلوب يبين لَكَ تلكَ الفوارق التي تتميز بها بعض الأساليب عَن بعض.

إذا نظرنَا في وصفِ السفينة في تصوير بعض الشعراء والكتاب، سنرى أنَّ كلًّا منهم سَلَكَ سبيلًا في تصويرهِ ينم عَن بيئته ومبلغ خبرته بِمَا يصف.

فهذا “طرفة بن العباد” الشاعر الجاهلي الذي لم تكن له خبرة واسعة بالسفن، لم يطل في وصف السفينة، فلم يزد على بيتين ونصف بيت إِذْ يقولُ مُشبهًا هوادج “المالكية” حبيبته وهي تسير في النواصف المتسعة في الأودية بالسفينة في وسطِ البحر:

كــأن حُـدوج[1] الـمـالـكيــة غُدْوَةً ** خلايا[2] سفين بالنواصف[3] من دَدِ[4]

عَدَوْليَّة[5] أَو مِــن سفين ابن يامن[6] ** يـجور بها[7] الملاح طورًا ويهتدي

يشق حُبابَ[8] الماء حَيْزومُها[9] بها ** كَــــــمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُفايلُ[10] باليدِ

ونلاحِظُ زيادة على قصر الوصف أنَّه وصف مَن يُشاهد السفينة وهو خارجها، فالمعقول أَنَّ “طرفه” لم يكن من رواد البحر، ولكننا مَع ذلكَ نجد دقة في الوصف تتمثل في أمرين: أحدهما: انحراف السفينة أحيانًا عَن مجراها ثُمَّ عودتها إليه، وثانيهما: أنها تشق بصدرها أمواجَ الماءِ كما يفعل المفايل إذ يقسم كومة التراب، ومن البراعَةِ في هذه الصورة التعبيرية أن يربط الشاعر بينَ ثلاثة أشياء تتشابه في حالةٍ من الحالاتِ: فهو يتحَدَّث عَن هوادج حبيبتهِ وهي تشق الصحراء، ويُشبه حركتها بحركة السفينة في الماءِ، ثُمَّ يُشبه حركة السفينة بالمفايلة.

ولنقارن هذا الوصف الموجز بوصف شاعر النيل “حافظ إبراهيم” الذي عَاشَ في القرنِ العشرينَ، وهو وصف لمن ركب السفينة وشعر بحركتها وهو فيها (لا من خارجها كما فعل “طرفة”)، غير أَنَّ “حافظًا” لم يكن كثيرَ الأسفارِ بالبحرِ، ولذلَكَ نراهُ قد هلع عندما اضطربت السفينة هلعًا لا يحدث عادةً لمن تعوَّدَ ركوب البحر:

عاصِفٌ يَرتَمي وَبَحرٌ يُغيرُ
أَنا بِاللَهِ مِنهُما مُستَجيرُ
وَكَأَنَّ الأَمواجَ وَهيَ تَوالى
مُحنَقاتٍ أَشجانُ نَفسٍ تَثورُ
أَزبَدَت ثُمَّ جَرجَرَت ثُمَّ ثارَت
ثُمَّ فارَت كَما تَفورُ القُدورُ
ثُمَّ أَوفَت مِثلَ الجِبالِ عَلى
الفُلكِ وَلِلفُلكِ عَزمَةٌ لا تَخورُ
تَتَرامى بِجُؤجُؤٍ لا يُبالي
أَمِياهٌ تَحوطُهُ أَم صُخورُ
أَزعَجَ البَحرُ جانِبَيها مِنَ الشَدِّ
فَجَنبٌ يَعلو وَجَنبٌ يَغورُ
وَهوَ آناً يَنحَطُّ مِن عَلُ كَالسَيلِ
وَآناً يَحوطُها مِنهُ سورُ
وَهيَ تَزوَرُّ كَالجَوادِ إِذا ما
ساقَهُ لِلطِعانِ نَدبٌ جَسورُ
وَعَلَيها نُفوسُنا خائِراتٌ
جازِعاتٌ كادَت شَعاعاً تَطيرُ
في ثَنايا الأَمواجِ وَالزَبَدِ المَندوفِ
لاحَت أَكفانُنا وَالقُبورُ
مَرَّ يَومٌ وَبَعضُ يَومٍ عَلَينا
وَالمَنايا إِلى النُفوسِ تُشيرُ
ثُمَّ طافَت عِنايَةُ اللَهِ بِالفُلكِ
فَزالَت عَمَّن تُقِلُّ الشُرورُ
مَلَكَت دَفَّةَ النَجاةِ يَدُ
اللَهِ فَسُبحانَ مَن إِلَيهِ المَصيرُ
أَمَرَ البَحرَ فَاِستَكانَ وَأَمسى
مِنهُ ذاكَ العُبابُ وَهوَ حَصيرُ

فهذا الوصف يمثل صدق الأسلوب تمثيلًا واضحًا؛ لأنَّ الأسلوب الجيد هو الذي يحسن نقلَ الصورة التي تمثلها الشاعر (أو الكاتب) نقلًا دقيقًا إلى السامعِ، ونحن هنا نشعر بأنَّ “حافظً” لم يكن خبيرًا بركوب البحرِ، وبأنه أصيب بدوار البحر فخارت قواهُ، وبأنه هلع وخشي الغرق فكانت نفسه تطير شعاعًا، وبأنَّه تمثَّل الموت حَتَّى رأى في بياضِ الزبدِ الذي يعلو الماء كفنًا، وفي الفجواتِ التي ينفرج عنها الماء قبرًا، ثُم نشعرُ بالطمأنينة التي سادت على نفسهِ حينما هدأ البحر فزالت الشرور عمن حملتهم السفينة.

وتجدر الإشارة إلى أَنَّ هناكَ ارْتباطًا وثيقًا بينَ ثقافة الكاتب وخياله في الوصفِ، وقد ينتزع خياله بعضَ الصور المعنويَّة.


[1] مراكب.

[2] جمع خلية، وهي السفينة.

[3] الأماكن التي تتسع من نواحي الأودية.

[4] اسم واد.

[5] نسبة إلي “عدولي” وهي قرية فى البحرين كانت تصنع فيها السفن.

[6] رجل من أهل البحرين كَاَنَ معروفًا بصناعَة السفن.

[7] أي يحيد عَن الطريق.

[8] أمواج.

[9] صدرها.

[10] المفايلة: هي جمع التراب ودفن شيء فيه، ثم يأتي اللاعب فيقسم التراب نصفين ويسأل عَن الدفين فى أيهما هو، فإِن أصابَ ربح، وإِن أخطأ خسر.