دروسٌ في النقد والبلاغة

الدرس العاشر: الاستفهام

كتبَ محمد المويلحي ذات مرة: “إِنِّي لأعجبُ لقومٍ يعتمِدونَ في أعمالهم على رءوسهم ثم يذهلونَ عَن أبدانهم، وقد علموا أنَّ القريحةَ السليمة لا تسكن إِلَّا الجسم السليم، وكيف يصحُّ البدنُ إذا لم تتعهَّدْه بالنَّظافة وطيب الغذاء وحسن الرياضةِ وقضاء الفروضِ الطبيعية؟

وقد يعرض للرجل المُفكِّر وهو في تجلِّي قريحته أَن يشَمَّ رائحةً كريهةً أو يرى منظرًا رثيثًا؛ فيضيق في الحالِ صدرُه، وينقبض فكره، فكيفَ بمن يَسْري ذلكَ فى نفسهِ ويحسُّ به في جسمهِ؟!

وأحْرِ بمَنْ ينقطع للفنونِ النفيسةِ أن يكونَ نفيسًا في ذاتهِ، لا يعرف عجرفة الطبع ولا شراسة الخُلق بما تُوَلِّده فيه من صفاء الحسِّ ولُطف الشعور، وما تُورثه من حلاوةِ الشِّيم ورِقَّة الطَّبْع.

ومَا فائدة العلوم والمعارف والفنون إذا لم تُكسِب صاحبَها بادئ الأمرِ محاسنَ الأخلاقِ ومكارمَ الصفات ليكون القدوة الحسنة لمن يقتدي بعلمه ويتأدَّب بأدبهِ؟ وإِلَّا فكيف تنبت الزهرة فى السَّبخة ويسطَعُ النورُ من مهجور القبور؟!”.

إِذَا تأمَّلت في هذه القطعة وجدت الكاتب يستعينُ بالاستفهام، (ولم يكن يستفسر عَن شيءٍ في كل مرةٍ عَبَّرَ فيها بهذا الأسلوب؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ إلى شيءٍ آخر)، بدأ يتعجَّب من هؤلاءِ القومِ يشتغلونَ بأعمالِ فنية وعقلية وينسونَ مَا لأبدانهم ومظهرهم من حَقٍّ عليهم؛ لكنه عبَّرَ عَن إهمال الحقوق بطريقتين:

الأولى: ذكر فيها حقيقة حالهم ذِكْرًا صريحًا مباشرًا، فهم يذهلونَ عَن أبدانهم وهم قد علموا مع ذلكَ أنَّ القريحة السليمة لا تسكن إلَّا الجسم السليم.

  1. موضوعات ذات صلة:
  2. دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
  3. دروس في النقد والبلاغة الدرس الأول: الأسلوب

والطريقة الثانية: الاستفهام في قوله: “وكيفَ يصحُّ البدنُ إذا لم تتعهَّدْه بالنظافة؟”.

إِنَّ الكاتب يصف قومًا لا تُشبههم في طبعكَ، ومعَ ذلكَ ترى الاستفهام يتَّجه إليكَ وكأنَّه معنيٌّ بكَ، فالاستفهام يصلك بمن يتحدَّث عنهم.

ثم نجده في الفقرة الثانية يسلك مسلكًا مشابهًا وهو يختتمها بمثل ما اختتم به الفقرة الأولى، جعلَ الاستفهام في كلتيهما ذروة المعنى ونهايته، كذلكَ صنعَ في الفقرة الأخيرة.

وأنتَ تعلم أَنَّه في الاستفهامِ الأوَّل ينكر أن يصح البدن إذا لم يُتعهَّد بالنَّظافةِ وطيب الغذاء وحسن الرياضة.

وفي الاستفهام الأوْسطِ يتعجَّب مغضبًا من مفكر ينفر من القبح ثُمَّ لا يعصم نفسه منه، وفي الاستفهام الثالث ينفي فائدة العلومِ التي لا تُكسِب صاحبَها محاسنَ الأخلاقِ.

ولكننا نرى للاستفهام وظيفةً أهمَّ من أداءِ هذه المعاني، فإذا قرأنا القطعة وتأمَّلنا الاستفهام المتناثر في جوانبها وجدناهُ يعرض لشعورنا ويُغرينا بالتفكيرِ، وهذا هو الذي عنيناه حين ذهبنا إلى أنه يُخاطبنا.

فَبعد أن يمضي من المعنى جانبٌ غير قليل يسعى الاستفهام إلى القارئ، ويُشركه في الرأي والإحساس.

وإذا كانَ الاستفهام في مثل قولنا: “هل حَانَ موعد الصلاة؟” لطلب الفَهْم، فهو في صورته البليغة يستغني عن ذلكَ؛ لأنَّ المساق يكفله ويخرج المعنى من دائرة الإلقاء الإخباري الساذج فيجتذب إليه السامع ويُشرِكه معه في التفكير في المعنى، ويدعوه إلى أَن يُجيبَ عنه فيما بينه وبينَ نفسهِ.

  1. موضوعات ذات صلة:
  2. دروس في النقد والبلاغة الدرس الثاني: تناسق الكلمة
  3. دروس في النقد والبلاغة الدرس الثالث: السجع

وَيُخيَّلُ إليْنَا أَنَّ الكلامَ لو جرى على طريقةِ الخبر دائمًا لكانَ مُملًّا يفرضُ فيه المعبِّر نفسه عَلَى المُخَاطَبِ دائمًا وَلَا يعترف لوجودهِ بنصيب كافٍ، والمحادثة الشائقة تقوم على المشاركة الخصبة التي يُحقِّقُها الاستفهام.

فالاستفهام تلطُّف وتقدير لشخصية مَنْ تتحَدَّث إليه فترغِّبه في أن يتناول معك الموضوع الذي تُعالجه، والسياق يحفل بالمعنى المطلوب.

والاستفهام يبعث الرِّضا في نفس السامع ويُقوِّي الحاجة إلى التفكير وتخيَّل المعنى، وذلكَ يتضح إذا وازنَّا بينَ التعبير بالاستفهام والتعبير بالخبر، فلو قلت: “إِنَّ العلمَ الذي لا يُكسِب صاحبَه مكارمَ الأخْلاقِ لا يفيد” لكان هذا- مع وفائه بالمعنى- أقلَّ إثارة لفكر السامع؛ لأنَّ القائل آثرَ أن يُقرِّر المعنى تقريرًا ساذجًا، فكشف عنه كشفًا تامًّا، ولم يترك للمُخاطَب حاجةً إلى إعمال الذهن والشعور؛ بل هو أقصاه عنه وأنزله منزلة السامعِ المتلقِّي لا الشريكِ المُقاسم في المعضلةِ.

والبليغُ لا يُجري كلامَهُ على نسقٍ واحدٍ؛ وإِنَّما يمزجُ بينَ الخبرِ والإنشاءِ مزجًا يُحدِّده المقام، ففي تقرير المسائل العلمية لا يلجأ الكاتب إلى الاستفهامِ فلا يُقال مثلًا: “إن زاوية (أ) تساوي زاوية (ب) أليسَ كل منهما زاويةً قائمةً؟!”.

وقد يحتاج كل منا أحيانًا إلى أن يقنع سامِعَه ويستميله دونَ أن يظهر التزامه لوجهةٍ معينةٍ، وهنا يكون الاستفهام أداةً تواتي اللَّبِق الخبير بفنون الأساليب، والخطيب الحاذق يدرك هذا المعنى، فإذا أرادَ أن يُلهبَ الإحساس بفقر بعض المواطنين- مثلًا- قالَ: “هل يجد الفقير عندَكَ بعض ما فضل عن حاجتك؟ هل رأيته ينظر إليك مستعطفًا راغبًا في معروفك؟”.

فالاستفهام الأدبي لا يُطلب به الفَهْم؛ وإِنَّمَا يتجاوزُ الأديبُ هذا الغرض الأوَّل إلى إغرْاءِ السَّامِعِ إغراءً يتم بِهِ تصوُّر المعنى ويُضفي عليه من تجاربهِ.

ترك تعليق