شواهد ومشاهد (1)

كان إمام العربية أبو عثمان المازني (بكر بن محمد بن عثمان) البصري النحوي الصرفي، المتوفي سنة 249هـ، أعلم أهل النحو بعد سيبويه، وهو أول من دوَّن علم التصريف، وكان قبل ذاك مندرجًا في علم النحو، وكان المازني في غاية الورع، وقصده يهودي ليقرأ عليه “كتاب سيبويه”، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع.

فقال له المبرِّد (تلميذه): جُعلتُ فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟

فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاث مائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميًّا؛ غَيرةً على كتاب الله وحَمِيَّةً له.

قال المبرد: فاتفق أن غنت جارية بحضرة الخليفة الواثق، بقول العرجي:

أظلوم إن مصابكم رجلًا
أهدى السلام تحية ظلم

فاختلف من في الحضرة في إعراب (رجلًا)، فمنهم من نصبه وجعله اسم (إن)، ومنهم من رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أنه بالنصب، فسألوها ممن سمعتِ البيت، فأخبرتهم أنها سمعته من أبي عثمان المازني، وقد سمعته يقرؤه بالنصب، وبعده:

أقصيته وأراد سلمكم
فليهنه إذ جاءك السلم
وكأن غاليةً تباكرها
تحت الثياب إذا صغا النجم

فأمر الواثق بإشخاصه من البصرة إلى بغداد.

قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه، قال: ممن الرجل؟

قلت: من بني مازن، فقال: أي الموازن: أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة، أم مازن اليمن؟ قلت: من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قومي، وقال: با اسبك؛ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميمًا، فكرهت أن أجيبه على لغة قومي؛ كيلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به وضحك.

ثم قال ما تقول في قول الشاعر: ” أظلوم إن مصابكم رجلًا … “، أترفع رجلًا أم تنصبه؟

فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذاك؟

قلت: إن (مصابكم) مصدر بمعنى إصابتكم، فالرجل مفعول مصابكم وهو منصوب به، والدليل عليه أن الكلام معلق، إلى أن تقول: ظلم، فيتم، فاستحسنه الواثق.

وقد جرت هذه المناظرة في حضرة الخليفة، وهي قصة جميلة ماتعة، وفيها فوائد تاريخية وأدبية ولغوية، ثم إن الخليفة قال: هل لك من ولد؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، بنية لا غير، قال: فما قالت لك حين ودعتها عند مسيرك؟ قلت: أنشدت قول الأعشى:

تقول ابنتي حين جدَّ الرحيل
أرانا سواءً ومن قد يَتِم
أبانا فلا رِمْتَ من عندنا
فإنا بخير إذا لم تَرِم
ويا أبتا لا تَزَل عندنا
فإنا نخاف بأن تُخْتَرم
أرانا إذا أضمرتك البلا
دُ نجفى وتُقطع منا الرحم

وهذه الأبيات من قصيدة بديعة للأعشى ويليها:

أفي الطوف خفت عليَّ الردى
وكم من ردٍ أهله لم يَرِم
وقد طفت للمال آفاقه
عمان فحمص فأوريشلم
أتيت النجاشيَّ في أرضه
وأرض النَّبيط وأرضَ العَجَم
فنجرانَ فالسروَ من حميٍر
فأيَّ مرام له لم أرُم
ومن بعد ذاك إلى حضرموت
فأوفيت همي وحيناً أهم

فقال الواثق: كأني بك وقد قلت لها قول الأعشى أيضًا:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلًا
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نومًا فإن لجنب المرء مضطجعًا

فقلت: صدق أمير المؤمنين، قلت لها ذلك، وزدتها قول جرير لابنته:

ثقي بالله ليس له شريك
ومن عند الخليفة بالنجاح

فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، ثم أمر لي بألف دينار، وردني مكرمًا، قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة، قال لي:

كيف رأيت يا أبا العباس – هذه كنية المبرد – رددنا لله مائة فعوضنا ألفًا”.

قلت: هذه كلمة عجيبة فريدة يوضع تحتها ألف خط، ولا يمكن أن يتفوه بها إلا رجل واثق بعطاء الله وكرمه وغيث رزقه.

ثم انظر إلى هذا المشهد النبيل في هذا الشاهد الجميل، وتأمل في ورع هذا النحوي العالم، وهو يمتنع عن تدريسه كتاب سيبويه هذا الذمي اليهودي؛ ضنًّا بما فيه من آيات قرآنية، رغم شدة فقره وحاجته لهذا المال، وانظر إلى صدقه وقد أكرمه الله تعالى وعوضه بألف دينار، وأغناه مدى الدهر؛ حيث أجرى عليه الخليفة مائة دينار أيضًا شهرية، وجعله مستشارًا له، ومراقبًا على أساتذة النحاة في بغداد، وممتحنًا لهم، ومقيمًا لأدائهم، وما مات حتى أصبح عاليَ المكانة، ظاهر المنزلة، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه[1].

 


[1] لغة البيت وإعرابه:

أظليم: الهمزة للنداء وظُليم: منادى مبني على الضم في محل نصب.

إن: حرف مشبه بالفعل.

مصابكم: اسم إن، وهو مصدر بمعنى إصابتكم، والكاف مضاف إليه.

رجلًا: مفعول به للمصدر الميمي (مصاب).

أهدى: فعل ماض والفاعل هو.

السلام: مفعول به لأهدى، وجملة أهدى صفة لرجل.

تحيةً: مفعول له.

ظلمُ: خبر إن مرفوع.

وظليم أو ظلوم اسم امرأة كان يشبب بها الشاعر، وتحية: مفعول لأجله، وظلم: خبر إنَّ.

أما الشَّاهِدُ فيهِ: قَوْلُهُ: (مُصَابَكُمْ رَجُلًا) حَيثُ أَعْمَلَ الاسْمَ الدَّالَّ علَى المَصْدَرِ عَمَلَ المَصْدَرِ لكَوْنِهِ مِيمِيًّا، وهو قَوْلُهُ: (مُصَابَ) بضَمِّ المِيمِ – فإنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ للفِعْلِ أَصَابَ، وقَدْ أَضَافَهُ إلَى فَاعِلِهِ وهو كَافُ المُخَاطَبِ، ثُمَّ نَصَبَ بهِ مَفْعُولَهُ، وهو قَوْلُهُ: (رَجُلًا) وكأَنَّهُ قدْ قالَ: إِنَّ إِصَابَتَكُمْ رَجُلًا، وخَبَرُ إِنَّ هو قَوْلُهُ: (ظُلْمُ) في آخِرِ البَيْتِ.

المراجع: ابن حجة الحموي، (ثمرات الأوراق)، ص: 4-5، وكذلك (درَّة الغواص) للحريري، ص: 96- 97، وقد ورد البيت في (ديوان العَرجيِّ)، بينما أورده البغدادي في (خزانة الأدب، ج1، ص: 454)، على أنه للحارث بن خالد بن العاص، كما أكَّد نسبة الشعر لخالد كتاب (الاشتقاق) لابن دُرَيد، ص 99، ومرة أخرى ص 151، والبيت من شواهد ابن هشام على أوضح المسالك، والقصة موجودة في معجم الأدباء في ترجمة أبي عثمان المازني، وفي كتاب “شرح أبيات المغني”، روايات متعددة منها (ج: 7/ 158)، وانظر: الشذور، والعيني 2/ 502، والتصريح 2/ 64، والهمع: 2/ 94، والأشموني: 2/ 288.

ترك تعليق