القياس بين المذاهب النحوية

القياس بين البصريين والكوفيين

كان البصريون أسبق من الكوفيين إلى دراسة اللغة والنحو استقراءً وتقعيداً وتأليفاً، وقد انماز منهجهم بابتناء قواعده على الأكثر الشائع من كلام العرب، وإذا اصطدم أصل من أصوله بما يخالفه تأوله، أو عدّه لغة، أو رماه بالشذوذ أو القلة أو الندرة أو الخطأ لأنهم أعني البصريين لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يجيزون إلا ما أخذوه من القبائل الستّ تاركين ما عداها.

أمّا الكوفيون على ما يراه خصومهم فإنهم لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلاً وبّوبوا عليه، وأنهم إذا سمعوا لفظاً في شعر أو نادر كلام جعلوه باباً، ومرد ذلك والله أعلم لما ذكره السيوطي عن الكسائي واضع الأسس الأولى للمذهب الكوفي الذي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه، فأفسد بذلك النحو.

(السيوطي في بغية الوعاة: 2/164)

وقد اتجه الباحثون المحدثون إلى اعتبار المذهب البصري مذهب قياس، وعدّوا المذهب الكوفي مذهب سماع، وبلغ التشدد بسعيد الأفغاني أن يقول: إنّ المذهب الكوفي لا مذهب سماع صحيح، ولا مذهب قياس منظم.

(سعيد الأفغاني: من تاريخ النحو: 74)

القياس بين المذهبين البصري والكوفي:‏

يميل كثير من الدارسين المحدثين إلى أن المذهبالكوفي أكثر تشعباً وأوسع رواية، والمذهب البصري أوسع قياساً وأضيق رواية، على أناتساع القياس البصري المبني على العلل العقلية قد يمنع السائغ، ويضيق عن المسموع. وهذا ما دعا المتأخرين من النحاة ألا يجروا على منهاجهم أو يأخذواأخذهم. فقد حكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه رد بعض القراءات القرآنية لخروجها عنقراءة الجمهور، وكذلك فعل المازني أبو عثمان والمبرد أبو العباس والزجاج أبو اسحاق. وقد نزع المتأخرون إلى مخالفتهم فارتضوا القراءات جميعاً واقتاسوا بها، واتخذوامنها موضعاً لاستقرائهم واستنباط أصولهم، شاعت لغتها أم لم تشع ولا ريب أن في صحةالقياس على ما ترد به الآيات الكريمة ثراء لأساليب القول في اللغة فوق ثرائها،وإغناء لمذاهب الكلام فوق اتساعها وتشعبها واستيعابها. وآي القرآن بأي قراءة قرئتمحصنة من نظر الناقد والمعترض، مرتفعة عن مقام المتعقب والمستدرك. أما اعتذارهم بأنالعرب لم تقصد إلى القياس على الشاذ منها بحسب مذهبهم النحوي، فليس بشيء.‏ومادامت القراءات كلها على اختلافها كلام الله فمن قرأ حرفاً من هذه الحروف فقد أصابشاكلة الصواب أياً كان ذلك الحرف، ولا يجوز منع أحد من القراءة بأي حرف، ذلك أنالوجوه التي أنزل الله بها القرآن تنتظم كل وجه قرأ به النبي وأقرأه أصحابه.‏قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (2/363): “والقراءات لا تجيء على ماعلمه البصريون ونقلوه” وقال (4/271): “هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراءة ولا يجوزلهم ذلك” وقال (4/271): “ولسنا متعبدين بأقوال نحاة البصرة وإنما نتبع الدليل”.‏وقال أبو عمرو الداني في جامع البيان: “وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروفالقرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح فيالنقل. والرواية إذا ثبتت لا يردها قياس عربية ولا فشوّ لغة”.‏وقال الشيخ عبدالعظيم الزرقاني في كتابه (مناهل العرفان/ 415): “فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالروايةالمقبولة، كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعَّدوا من قواعد، ووجب أنيرجعوا هم بقواعدهم إليه، لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكِّمهافيه، وإلا كان ذلك عكساً للآية، وإهمالاً للأصل في وجوب الرعاية”.

وهكذا تحللابن مالك وابن هشام فيما اجتهدا فيه، من حدود المذهب البصري في كثير من الأحيان، ولو تهيأللنحو من الأئمة من استنوا بهذه السنة ونهجوا هذا السبيل فتمنعوا على المتابعةوالمشابهة، وفازوا من التعبد بمذهب مخصوص، ونجوا مما لا تحتمله طبيعة اللغة أويأباه خصوصها من الجدل، وعنوا بنحو الكوفية كلما أوغل المذهب البصري في التعليل فتنكبتالجادة، وعولوا على القرآن وآثروا ما جاء فيه على كل مروي، أقول لو تهيأ للنحوأمثال هؤلاء لكان خطة سديدة سوية في التجديد والإحياء.‏

مواضيع ذات صلة:

ويمكن أن ألخص الفرق بين المذهبين المذهب البصري والكوفي بالنسبة لموضوع القياس، فيما يلي[1]:

1- أن البصريين والكوفيين يقيسون، وليس صحيحاً ما قيل عن مذهب البصريين أنه قياسي تماماً، وأن المذهب الكوفي سماعي صرف.

2- أن الدعوى التي تقول إن الكوفيين يبنون قواعدهم على الشاهد الواحد أو الشاهدين حين رأوه فريداً ونجد أن البصريين قد حفلوا الشاهد الواحد والشاهدين أيضاً حين عدوه فريداً، فأسسوا عليه قاعدة.

3- كلا المذهبين خرج عن قواعده إلا أنه في العموم ليس كثيراً.

4- يختلف البصريون في تقويم المسموع عن الكوفيين، فحين تشدد البصريون وخطّؤوا ورفضوا وخالفوا احترم الكوفيون المسموع وتوسعوا فيه إلا أنهم لم يقبلوا النادر والشاذ والقليل.

5- لم يحافظ البصريون والكوفيون المتأخرون على ما أسسه الأوائل من قواعد وأصول وضوابط بل مضوا في تكوين النظرية النحوية معللين الظواهر التي وردت في القليل وإجازة القياس عليه.

القياس قديماً وحديثاً

استقام القياس مصطلحاً ومنهجاً منذ الحضرمي في مواقفه وتوجهاته، وبلغت عناية القدماء في القياس إلى درجة أنهم ألفوا فيه رسائل وكتب كثيرة، من أبرزها القياس في النحو ليونس بن حبيب، والمقاييس في النحو للأخفش الأوسط، والقياس لهشام الضرير والقياس على أصول النحو لابن مردان الكوفي، وللأسف أن هذه الكتب لم تصلنا، وذكرت في مظان المراجع العربية القديمة ومصادرها، فقد وجد النحاة في موضوع القياس موضوعاً يستحق الدراسة والبحث والكتابة فيه. يعد أبو علي الفارسي مؤرخ علم القياس حيث حدد مسائله وأحكامه وحدوده وأقسامه وكل ما يتعلق به. وقام تلميذه الفذ ابن جني باستكمال رحلة شيخه فنقل عنه وأضاف وأبدع في كتابه الخصائص، فكان هو الموسع الحقيقي لعلم القياس وأحكامه وأقسامه. وبهذا يكون أبو علي الفارسي وابن جني قد مهدا الطريق للأنباري الذي تأثر بهما واستكمل بناء علم القياس في كتابيه الإغراب في جدل الإعراب، ولمع الأدلة في أصول النحو، حيث أقام صناعة النحو كلها على أركان ثلاثة، هي: النقل أي السماع والقياس واستصحاب الحال. ويمكن القول بأن كل من جاؤوا بعد هؤلاء كانوا متأثرين بهم وعالة عليهم. ومما يستحق أن يذكر ابن مضاء القرطبي الذي فتح أبواب النظر في التراث اللغوي بعامة والنحوي بخاصة، تلاه السيوطي صاحب الاقتراح في علم أصو النحو.

أمّا في العصر الحديث فقد سار البحث اللغوي في اتجاهات مختلفة متأثرين بمناهج الدرس اللغوي الحديثة، فظهرت في المكتبة العربية كتباً كثيرة ومنها من توقف على موضوع القياس رصداً وتجميعاً وتقييماً وتأليفاً، ومن الذين أسهموا في هذا الموضوع مبكراً الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه القياس في اللغة العربية، تلاه الأستاذ أحمد أمين في بحثه مدرسة القياس في اللغة، وجاء بعده ابن عاشور ووضع كتاب تحرير أفعل التفضيل من ربقة قياس نحوي فاسد، ومنها أيضاً كتاب للدكتور عمر فروخ مراحل القياس في تاريخ اللغة العربية، ولعبد لصبور شاهين كتاب أيضاً في الموضوع اسمه مشكلات القياس في اللغة العربية، وللدكتور صاحب أبو جناح كتاب بعنوان القياس في منهج المبرد، وظهرت كتب أخرى تناولت موضوع القياس منها: إبراهيم مصطفى في أصول النحو، وسعيد الأفغاني أيضاً في أصول النحو، وفؤاد ترزي في أصول اللغة والنحو، والدكتور علي أبو المكارم أصول التفكير النحوي، والدكتور محمد عيد أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء القرطبي، والدكتور تمام حسان في الأصول، فضلاً عن عشرات الكتب التي لا تزال تظهر ترى متناولة موضوع القياس من جوانبه وأبعاده المختلفة.

أتمنى أن أكون قد قدمت بهذا القدر صورةً عن القياس النحوي حده ونشأته وأقسامه وأركانه وأهدافه واختلاف المذهَبَين فيه. والله الموفق.


[1] (انظر: الزبيدي: 76)

اضغط على ايقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق