مدلول الحروف من خلال السياق

(يفهم مدلول الأداة من واقع الاستعمال) (وإذا كان للسباق دوره الخطير في تحديد مدلول الأداة ومعناها الوظيفي فهو – أي السياق – ينهض بنفسبر تعدد المعنى الوظيفي لكبر من الأدوات النحوية)
سبيرير.
جعل النحاة لكل أداة من أدوات المعاني معنى مخصوصاً لا يفارقها، فـ إلى: لانتهاء الغاية، وفي: للظرفية، وعلى: للاستعلاء … الخ.
وهل تخرج الأداة عن معناها الذي وضع لها أو وضعت له؟ لا يتضح ذلك إلا من خلال السياق اللغوي ووضعها في تركيب معين يتحدد على ضوئه المعنى المقصود لها، مع ملاحظة القرائن والضوابط والمقام.
فالمقام يكون مرجحاً لمعنى دون آخر، وذلك إيضاحا لظاهرة هامة جداً هي: ظاهرة تضافر القرائن لإيضاح المعنى الوظيفي في السياق. ففهم اللفظ معزولاً عن سياقه ضرب من العبث، إذ لا بد من سياق يُبرز دلالته.
فهذه اللام في قوله سبحانه:

{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. نلاحظ أن ما تؤديه اللام
بهذا السياق، له مبلغ الخطر في الكشف عن المعنى المطلوب، فهي ليست بمعنى (في) ولا الغاية، ولا التعليل، ولا … وإنَّمَا أوحى السياق بما يتعدى بها وتستريح إليه، إنه فعل (نصب) المتعدي باللام ووضعُ الموازين يوم القيامة إنما هو تمهيد لنصبها.
وهذه (مِنْ) في قوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}. تضمن قضى معنى طابت نفسه أو بلغ حاجته.
وهذه الباء في قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} تضمن القضاء معنى الحكم.
و (على) في قوله سبحانه: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}. جعلته تضمن قضى معنى: أجهز عليه.
ومثلها في قوله: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}.
و (إلى) في قوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.
نضمن معنى أتم.
و (في) في قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} تضمن قضى معنى فصل. ومن خصائص العربية في أفعالها، وما تميز بها بعضها أنه يتعدى بحرف مخصوص لا يتحول عنه إلى سواه فتقول في سمع: استمعت له أو إليه لاشيء سواه، فإذا أدخلت عليه الباء تلكأ واعتذر إلا بإحراج وخجل، وتحت الخوف والوجَل من أن يُفسَّر الكلام على غير مجاريه، وسنَنِ تعبيره، فتزل به الفُهوم، وتتعثّر في شرحه الأقلام. ففي التنزيل العزيز: {مَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ}. ذهب بعضهم إلى تضمين الباء معنى اللام، وجعلها بعضهم سببية، وآخرون ذهبوا إلى تقدير محذوف (إليك) وأن الاستماع كان من باب الهزء والسخرية.
ويزول الإحراج ويبرد الخجل حين يتقمص السمع شخصية الاهتمام ويتضمن معنى العناية (عني واهتم). ساقتْنا الباء إلى هذا المعنى، فمستمع القرآن من كفار قريش عَنِ بسمو بيانه ومبلغ إعجازه ولكنه يُجاهد فطرته ألا تتأثر وقلبه ألا يرق، واللَّه أعلم كم يشغَل القرآن عليهم اهتمامهم فيُلقون إليه أسماعهم، ولكن غلبتْ عليهم شقوتهم حِرصاً على زعامتهم. فأين الهُزء وأين السخرية؟! لقد فتحت لنا الباء مع فعل السمع بصائر.
وإذا كان هذا هو السر في اختصاص الحروف بأفعالها ومصادرها ومشتقاتها، فالعربي في عصوره الأولى إذا تجاوز في استعماله هذه الروابط فسبب عدوله من حرف إلى حرف هو السياق إذاً، وهو الذي وضع الفعل في معنى معين وخصصه به وعداه بحرف يناسبه ويطلبه ويُزيل الغرابة عنه، فإبدال حرف مكان حرف أو قيام حرف مقام حرف، أو تضمين الحروف كثير الإيهام ولا حقيقة تحته، بل لكل حرف معناه، وما اختير في سياقه إلا لغرض يُؤديه، أما أنه استُعمل في وقت من الزمان بمعنى بديله ثم انصرف عنه فيما بعد،

فخطأٌ لا يثبت عند أهل النظر وسأقف عند بعض الحروف مستعرضاً بعض أسيقتها لتمام الفائدة:
إن المُلك والتمليك ليسا مستفادين من اللام بقدر ما هما مستفادان من الفعل المصاحب لهما: (وهبتُ لزيدِ ديناراً) بدليل لو أنك أسقطتها – وهبت زيداً – لفهمت معنى التمليك من الفعل وهب، وكذلك في قول اللَّه عز وجل: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فالتمليك مستفاد من المصدر المصاحب لهذه اللام. وكذلك الاختصاص في قولنا: (الحمد لله) ليس هو في اللام بقدر ما هو في الحمد الذي اختص اللَّه به ولا يجوز لسواه من خلقه.
ومعنى الاستحقاق في قول الله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}. وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} مستفاد من سياق الإسناد الخبري.
ومن المعاني التي يرشد إليها السياق ولم يذكرها المفسرون لهذه اللام (التسخير) في قوله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} فالريح مسخرة لسيدنا سليمان وليس للتمليك كما قال المفسرون.
ودليل آخر: لو أن مدير شركة ما أصدر أمراً بوضع إحدى سيارات الشركة تحت تصرف المحاسب نقول: هذه السيارة للمحاسب. فهل اللام للتمليك؟ لا، بل هي للتسخير، والمعنى مستفاد من السياق. ووجود النظير عند فقدان الدليل كافٍ لصحة ما أثبتناه. فإن ضامّ الدليلُ النظيرَ – ودليلنا {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} – فلا مذهب لأحد عن ذلك.

ولام الولاية: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
ولام التمهيد والتيسير والتذليل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}. {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} {وًذلَفنَهَالَهُنم فَمِتهَا كوبُهُم}.
ولام التمكين:

{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}.

وعن ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ}

{وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ}.

{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} … الخ، ولم يذكر هذا المعنى المرادي في جناه رغم أنه ذكر لمعانيها ثلاثين معنى.

وكل هذه المعاني إنما يوحي بها السياق ففي قول اللَّه تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}. قال الفقهاء: اللام للتمليك. ولعلها تكون للاستحقاق في بعض الأنصباء وفي ظروف خاصة. والفرق بينهما يُسفر ويَضح مع الاستقراء له والفحص عن كنهه بدليله أو نظيره. لنقف عند أحد الأنصباء: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} يوم كان المجاهد: سلاحه سيف وترس وجعبة من سهام كان يملكها فاللام للتمليك، واليوم نشتري للأفغاني أو الشيشاني أو الفلبيني المصفحة والمدرعة، فهل صار ذلك ملكا له وفي حيازته بلام التمليك، أو أنها لام الاستحقاق لأنه يستحق أن يستخدمها ما دام الجهاد قائما؟ فاللاممؤذنة باستحقاق كل مَن نَفَر في سبيل هذا الجهاد المبارك أن يمارس حقه في استخدامها حسب توجيه قيادته.
وحين قال بعض النحاة: اللام بمعنى (على) في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ} وقوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ}. وقول النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – لعائشة؛ ” اشترطي لهم الولاء “.
قال ابن النحاس: ولا نعرف في العربية (لهم) بمعنى (عليهم). أي اللام بمعنى على.
قال ابن تيمية في مقدمة التفسير: وغلط من جعل بعض الحروف يقوم مقام بعض. هذه الحروف حين تسلطت على أفعال لا تتعدى بها، يمضي الحرف ليأخذ بيدك يُضيء لك ما خفي وراءه من اللطائف والأسرار، مما يحتاج معه إلى تأتٍّ وتأنٍّ وفضل بيان، لتفهم عنه كل موضع، عن مِيزة وعلى بصيرة، ليس استرسالاً ولا ترجيماً. فما جاءت هذه الحروف دخيلة على الفعل بل لتكسب المعنى نبلاً وتظهر فيه مزيةَ. أ. هـ.
فمذهب ابن تيمية هذا الذي ذكرته هو العمل عليه والوصية به إلى أن يرد ما يستنزلني عنه.
ولام التاريخ كما يسميها بعض النحاة في قول الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} بكسر اللام قراءة الجحدري وهي شاذة. وقال المرادي وغيره: اللام بمعنى عند. وفي قول اللَّه عز وجل: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ} اللام ليست للتخصيص كما قال الزركشي. ولكنها في رأيالأحناف للتمليك، والتمليك مستفاد من سياق الآية من فعل وهب، والواهب مالك لهبته فهو يتصرف بها كما شاء، وقد استشهد أبو حنيفة على جواز عقد النكاح للفتاة البالغة الراشدة بلفظ الهبة في هذه الآية، بأن رسول اللَّه صلى عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، ولا دليل هنا على الخصوصية. وقال الشافعي وغيره: لا يصح العقد للفتاة إلا بولي لأن عقد الهبة
هنا مخصوص برسول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – من دون أمته، لأن اللفظ تابع للمعنى، والمدعي للاشتراك في اللفظ يعني أبا حنيفة يحتاج إلى دليل.
وفي قول اللَّه عز وجل: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}. قال الزمخشري والقرطبي وأبو حيان والآلوسي: اللام بمعنى إلى. وضمن مجاهد أوحى معنى أمر وضمنها السدي معنى قال فاللام على أصلها.
وأقول: التضمين في الحرف لا حفل به ولا شأن له، ولعل تضمين أوحى معنى أذن أو سمح أولى في هذا السياق من سواه لأن تحديث الأرض بعد الزلزلة عما فعله العباد على ظهرها من مؤمن وكافر، إنما كان بعد أن أذن اللَّه لها بذلك التحديث وسمح. وتبقى العلاقة قائمة بين المضمن والمضمن فيه من حيث الإذن، والسماح صورة من صور الوحي.
وإذا سمى النحاة لام التاريخ أو الوقت، ولام المآل والصيرورة والعاقبة {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ولامالسبب، والتعجب، والجزاء، ولام الولاية. فإنما أوحت بهذه المعاني الأفعال التي دخلت عليها.
قال الخليل: لام المدح في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} ولام الذم في قوله تعالى: {بِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ْ}.

أقول وباللَّه التوفيق: الوقوف على الحرف والتقيد به دون الالتفات إلى السياق والنظرة الشمولية إليه، يُحدث فجوة ولو نسبية بين الجزء والكل، فالمدح والذم في الآيتين مستفاد من نعم وبئس لا من اللام. كذلك اللام التي في موضع إلى في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} ارجع إلى فعل سقى من كتابنا هذا في الجزء الثاني. ومثله قوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} ارجع إلى فعل نادى في الجزء الثاني. ومثله قوله: (هَدَانَا لِهَذَا).
وحروف المعاني في نُبل قَدرها، ونباوة محلها تكون باعثاً لك على استحضار الخاطر، فإذا طالعك أحدها وتأبى عليك معناه، أو اعتاص فهمه، فسياقه والقرائن التي تَعيج به تُصحِب لك أبيَّه فتُشارف معناه، ويتلوح لك بعضُ قُصوده.أما القول بتعاورها فيُذهب استطابتها ويفسد الإمتاع بها والاستملاح لها.
فالمعنى في اللفظ كالروح في الجسد، يتفرس فيه النطاسيُّ الحقيقةَ بطبعه وحسه، كما يتفرس اللبيبُ صفات الأرواح في الأجساد ينحيزة نفسه.
حرف (لا) والذي يمتد معه الصوت، يؤذن بامتداد المعنى بخلاف (لن) الذي ينقطع معه الصوت ويُؤذِن بانقطاع معناه: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا}.
لليهود حين قيل لهم {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} فدعواهم قاصرة مترددة بزعمهم أنهم أولياء الله. (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا). لليهود بما قدمته أيديهم فدعواهم قاطعة بأن الجنة لهم بصفة الخلوص. فتأمل ذلك فإنه معنى لطيف وغرض شريف يستعمل (لا) عند التردد و (لن) عند القطع.
وشاهد آخر تبطل فيه حجة المعتزلة بالرؤية في قوله تعالى: (لَن تَرَاني) ولم يقل لا تراني، كالذي جاء في قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} منفيا بـ (لا) ولم يقل: لن تدركه الأبصار، والفرق واضح بين الرؤية والإدراك، والحديث صحيح جاء في البخاري: ” إنكم ترون ربكم يوم القيامة “.
وكل ما مر من هذه اللطائف في دلالة الحرف إنما يتحكم فيه المقام ويوجهه السياق ولا يخضع لتعليل ولا يلتزم بقاعدة.

المصدر: التضمين النحوي في القرآن الكريم

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق