المؤلف: محمد عيد

معنى الكلام


لاحظ الأمثلة الآتية:
الغِنى عفَّةُ النَّفس عما في أيدي الناس كلام.
وأبو فراس -في رأي النحاة- لا يحتج بشعره، وإنما جاء البيت للتمثيل به فقط، وموضع التمثيل: أن ابن هشام يرى أن أبا فراس قد استخدم نطق العامة إذ جاء بالفعل “تعالي” مكسور اللام حين إسناده لياء المخاطبة.
والذي أراه أن أبا فراس لم يستخدم لغة العامة، وإنما كسرت اللام في الكلمة الأولى بتحريف الرواية، وفي الكلمة الأخيرة من أجل القافية، إذ إن اللام فيها مكسورة.
هذا. وقد نقل عن أهل الحجاز أنهم ينطقون اللام مكسورة في هذا الفعل حين إسناده لياء المخاطبة.

إذا استغنيت عما في أيدي الناس فأنت أغنى الناس. “كلام”.
إذا تطلعت لما في أيدى الناس….. “كلام”.
ينبغي أن نتذكر مرة أخرى هنا ما قلناه تمهيدًا لمعرفة “الكلمة” عن “اللفظ، القول” من أن “اللفظ” هو النطق المشتمل على بعض الحروف سواء أكان له معنى أم لم يكن، وأن “القول” هو النطق الدال على معنى فقط فلنصطحب مفهوم هاتين الكلمتين ابتداء قبل تحديد المقصود من الكلام.
جاء في ابن عقيل: الكلام المصطلح عليه عند النحاة عبارة عن “اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها” ا. هـ.
وجاء في شذور الذهب “الكلام: قول مفيد” ا. هـ.
ومن البيّن أن هذين التعريفين متساويان تمامًا، فإن “اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها” في الأول تساوي تمامًا “القول المفيد” في الثاني وتوضيح الأمر في ذلك أن “الكلام” في عرف النحاة هو ما توافرت له الصفات الآتية مجتمعة:
1- النطق: لأن النطق هو أساس دراسة النحو، فلا شأن للنحو إذن بالكلام النفسي الذى يدور في خواطر الإنسان دون أن تنطقه الشفاه فعلا كما قال الأخطل:

إن الكلامَ لَفِي الفؤاد وإنَّما … جُعِل اللِّسان على الفؤاد دليلًا[1]

فالنحو لا شأن له بكلام الفؤاد، وإنما يوجه همَّه لما نطقه اللسان فقط ولا شأن للنحو بكلام النفس، وإنما شأنه بما نطق به اللسان.

كما أنه لا شأن للنحو بالكلام الذي يفهم من الخط وحده دون أن ينطق وهو ما يفهم من النظر بالعين دون نطق اللسان، كقول العرب “القلمُ أحدُ اللِّسانين” وتسميتنا ما في المصحف “كلام الله”.
كما أنه لا شأن للنحو أيضًا بالكلام الذي يفهم من الإشارة، أي بحركات العين أو اليدين أو الرأس أو غيرهما من أجزاء الجسم، وكذلك إضاءة علامات المرور باللون الأحمر أو الأخضر، فكل ذلك وإن كان يشير إلى كلام يفهم منه، كما قال عمر بن أبي ربيعة:

أشارتْ بطرْف العينِ خيفةَ أهلها … إشارةَ محزونٍ ولمْ تَتَكَلَّمِ[2]
فأيقنتُ أن الطَّرْفَ قد قال مرحبًا … وأهلا وسهلًا بالحبيبِ المُتَيَّم

لكنه كلام غير منطوق، ولذلك لا يدخل في الكلام الذي يعترف به النحو.
كما أنه لا شأن للنحو بالكلام الذي تدل عليه الحال، وفي الدلالة التي تفهم من المشهد دون نطق، كأن تنظر إلى مستشفى فتعرف أن “هنا مرضى” أو أن تمر على الجامعة، فتدلك على أن “حضارة الأمة تصنع هنا” وكما قال نصيب بن رباح يمدح سليمان بن عبد الملك:

فعاجُوا فأثْنَوا بالذي أنت أهلُه … ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائب[3]

“فثناء الحقائب” دلالة حال، لكنه ليس نطقا، فهو خارج عن مصطلح النحو في الكلام.
2- أن يكون لهذا المنطوق معنى يفهم منه، فلا شأن لنا بالهراء اللغوي الذي لا معنى له.
3- أن يكون هذا المنطوق مفيدا فائدة يحسن السكوت عليها، وذلك أن يتم بها معنى متكامل يتكون منه ومن أمثاله الفكرة أو الموضوع الذي يريد المتكلم نقله إلى السامع.
وبهذه الصفة الأخيرة يفرق بين الكلام وما يسمى “الكلم” -بفتح الكاف وكسر اللام- فإن هذا الأخير يطلق على ما تكون من ثلاث كلمات فأكثر، أفاد أم لم يفد، فلنتأمل الآتي:
– قولنا “الصحافةُ لسانُ الأمة” كلام، وهو في الوقت نفسه كلم.
– قولنا “الصحافة رسالة” كلام، لكن ليس كلمًا، لنقصه عن ثلاث كلمات.
– قولنا “إذا تحررت الصحافة” كلم، لكنه غير كلام لأنه غير مفيد، ولا شأن للنحو بدراسة “الكلم” وإنما شأنه أن يدرس “الكلام” سواء صح أن يطلق عليه أنه “كلم” أم لا.
صور الكلام:
ورد في بعض كتب النحو تقسيم الكلام إلى “خبر، إنشاء” فالأول مثل قولنا “صدرت الصحفُ اليومَ وهي تحملُ أنباء مثيرة” والثاني مثل “هل نشرت الصحف الخبر اليوم؟! “.

والحق أن هذا التقسيم بلاغي لا شأن للنحو به، وإنما هو من اهتمام دارسي الأدب، أما الصور التي يتكون منها الكلام -كما فهم فيما سبق- فإنها تنحصر في أمرين:
الجملة الاسمية: وهي ما تكونت من اسمين أسند أحدهما للآخر لإفادة المعنى، مثل “العلمُ حضارةٌ، والجهلُ تخلفٌ”.
الجملة الفعلية: وهي ما تكونت من فعل واسم بحيث يتم بهما المعنى مثل “يصنعُ العلماءُ حضارة الأمة ويُعَوِّقُ الجُهَّالُ تقدمها”.
هذا، ويتفرع على هذين الركنين الأساسيين للكلام صور كثيرة بدخول الحروف معهما، وكذلك في اختلاف الأسماء بين الجامدة والمشتقة وأيضا في اختلاف صور الأفعال بين الماضي والمضارع والأمر، وأيضا في وجود الفضلات -كالمفعول به وأمثاله- مع هذه الجمل، وأيضا دخول حروف الشرط -الجازمة وغير الجازمة- عليهما.
ومن أجل ذلك كله يمكن أن يتصور أن صور الكلام الذي تنطق به العربية لا يكاد يحيط به الحصر، وإن كان الأمر كله يرجع إلى الجملتين الاسمية والفعلية.
وخلاصة هذا الموضوع كله ونتيجته تتلخصان في الآتي:
أ- وحدة الجملة العربية هي “الكلمة” بمفهومها السابق تحديده.
ب- وحدة اللغة العربية هي “الكلام” بمفهومه السابق تحديده أو بعبارة أقرب: الجملتان الاسمية والفعلية.
ج- موضوع دراسة النحو العربي هو الجملتان الاسمية والفعلية وما يتعلق بكلتا الجملتين.

المصدر: النحو المصفى

 


[1] تضمن بيت الأخطل إطلاق الكلام على ما يتصوره الإنسان في نفسه من المعاني، وأن اللسان ترجمان النفس.

[2] تضمن البيتان إشارة بطرف العين دون نطق، وقد فهم من هذه الإشارة -كما قال ابن أبي ربيعة- مرحبا وأهلا وسهلا. لكن هذا الفهم من الإشارة لا يعتد به في الكلام المصطلح عليه لدى النحاة لأنه ليس نطقا.

[3] عاجوا: انعطفوا ومالوا، أثنوا: الثناء: ذكر الخير.

اضغط على أيقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق