هل الأسود الدؤلي وضع النحو؟
كتبه: الشيخ محمد الطنطاوي
المحقق: أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل
فالذي نخاله قريبا إلى الواقع ويرتضيه النظر أن أبا الأسود هو واضع هذا الفن، ونسبة الوضع للفن إنما تعتبر نتيجة لقيام الواضع ببعض الأبواب الأساسية في ذلك الفن، وهذا ما كان من أبي الأسود كما رأيت واختيار الأنباري نسبة الوضع للإمام أول كلامه اعتمادا على تفهيم الإمام أبا الأسود أقسام الكلمة وأقسام الاسم والباقي من النواسخ، إنما يتم لو تظاهر جمهرة العلماء المعنيين بهذا الشأن على الموافقة على هذه الرواية والاعتزاز بها، مع أن الذي قد سبق إليها وهو الزجاجي ساقها على أنها رواية من الروايات فحسب، ونقلها عنه كذلك ياقوت في ترجمة الإمام، أما الباقون فلم يعرضوا لها، وتصريحه آخر كلامه بالاختيار استنادا لرجوع الروايات عن أبي الأسود إلي الإمام في النهاية لا يتم أيضا مع عدم مخالفتها له في رجوع الروايات للإمام، ولا يؤدي ذلك إلى انتماء الوضع له على ما سبق في التقريب بين الاختيارين، ومما يؤيد نسبة الوضع إلى أبي الأسود ما روى بن النديم محمد بن إسحاق في الفهرست أن رجلا بمدينة الحديثة [1] اسمه محمد بن الحسين كان جماعة للكتب، وقد آلت إليه خزانة صديق له كان مشتهرا بجمع الخطوط القديمة، قال ابن إسحاق: “فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا إلا أن الزمان قد أخلقها وعمل فيها عملا أدرسها. ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته وهي أربع أوراق وأحسبها من ورق الصين ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق هذا خط علان النحوي وتحته هذا خط النضر بن شميل”[2].
وقد درج على هذا الرأي متقدمو المؤرخين من أصحاب الطبقات والمعاجم، واحتذى حذوهم المتأخرون عدا الأنباري، فمن الغريب بعدئذ أن يستنكر المستشرقون هذه النسبة المتواطأ عليها قديما وحديثا زعما منهم أن عصر أبي الأسود لا يتواءم وهذه الاصطلاحات الوضعية المرتبة التي بأيدينا، وإنما هي وليدة عصر متأخر عنه، تطور فيه التعليم حتى صار مناسبا لهذه القواعد المرتبة، قالوا: “وليس حقا ما يقال إنه “أبو الأسود” واضع أصول النحو العربي”[3].
وقد اقتفى أثرهم بعض علماء العصر الحاضر، ولهذا تخلص الأستاذ أحمد أمين من الموقف بتأويل بعيد تذرع به إلى التوفيق بين الاعتراف بما هو مستفيض شائع وبين هذا الرأي الجديد، وتلمس وجها لنسبة الوضع إلى أبي الأسود بعد تسليم صحتها لكن على وجه آخر فقال: “ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو، فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب ووضع القواعد له. وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحوا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتا. إنما الذي كان له الفضل الأكبر في ذلك الخليل بن أحمد ذو العقل الجبار المبتكر الذي قل أن يوجد له نظير في علماء ذلك العصر وهو الذي عمل النحو الذي نعرفه إلي اليوم”[4].
نعم، نحن لا ننكر ما للخليل من الفضل لا على النحو بل على كثير من علوم اللغة العربية، وستعرف آثاره في ترجمته إن شاء الله تعالى، لكنا مع ذلك على رأينا الأول.
فليس بغريب على أبي الأسود الذي أوتي العلم الواسع أن يلهم هذا الفن ويضع تعاليمه التي يسار عليها وينسج على منوالها، ولا ندعي أنه قد وفق إليه على غرار ما نراه في كتبنا من تعريفات ومصطلحات وتقاسيم، فإن طبيعة عهده السابق على عصر المقننين تقتضي مجرد اتجاهه إلى أبواب هذا العلم إجمالا حسبما تقتضيه الفطرة العربية على وفق ما ورد في مختلف الروايات الكثيرة التى صرحت بنسبة الوضع إليه فقط دون تعرض إلى التفصيل، وذلك كاف في اعتباره المؤسس له.
نعم، قد تطور بمسايرة الزمن، وأضيف إليه من كل طبقة بعد أخرى ما ضخمه وصيره فنا مستكمل الدعائم، مرتب الأبواب، منظم التقاسيم، مع التعاريف التي امتازت بها الأبواب، والتقاسيم والاصطلاحات العلمية الخاصة، إلا أنه مما لا يختلف فيه اثنان أن النهضة بهذا العلم في تلك النواحي كان عمادها الخليل بن أحمد، فمن عهده انتظم شتاته، والتأم عقده، واتخذ تعليمه دوره الفني كما ستقف على ذلك من أطواره، ومع هذا فإن عناصره الأساسية التي اهتدى إليها أبو الأسود بتعليم الإمام علي وإقراره لم تتغير ولم تتبدل.
ولقد اعترف العلماء متقدمين ومتأخرين على أن أبا الأسود هو الذي ابتكر شكل المصحف، فلعل ذلك كان منه تكميلا لما بدأ به من القيام بما يحفظ على المسلمين كتابهم الكريم ولغتهم الشريفة.
وما لنا ننكر هذه النقول الصريحة وقد وافق عليها الخلف بعد السلف، عصرا بعد آخر تلك الأزمنة المتطاولة ولم نر منهم نكيرا؟
على أننا لو تمثلنا شخصيته ونزعته وعصره الذي كان ينشر فيه علمه بالبصرة، لأيقنا صحة هذه النسبة، فقد كان علوي الرأي يجاهر بتشيعه وهواه فيمدح الإمام بالقصائد الحسان، وعمال البصرة وسواد العراق من قبل معاوية يشقون عليه ويعنتونه حتى بنو قشير الذين جاورهم وصاهرهم بزواجه منهم امرأته أم عوف أجرموا معه، فسبوه ونالوا من علي كرم الله وجهه إيلاما له وقذفوه ليلا بالحجارة قال المبرد: “وكان بنو قشير عثمانية، وكان أبو الأسود نازلا فيهم، فكانوا يرمونه بالليل فإذا أصبح شكا ذلك، فشكا مرة فقالوا: ما نحن نرميك ولكن الله يرميك، فقال: كذبتم والله لو كان الله يرميني لما أخطأني”[5].
أضجر ذلك كله أبا الأسود وأقض مضجعه فانزلق إلى هجاء أمير العراق زياد وابنه عبيد الله، وهما ما هما، وقد توالت خلافة الأموميين زمنا ليس بالقصير، وهم منطوون على نار من الحقد للعلويين وأتباعهم، إذ لم تقم دولتهم إلا بدعوى المطالبة بدم عثمان بعد اتهامهم أمير المؤمنين عليا بالتفريط فيه والتغاضي عن السافكين دمه رضوان الله عليه، فكيف يدعون أمرا خطيرا كهذا يمضي على كر الزمان ويخلد في بطون الأسفار وهم أحرص الناس على الغض من شأن العلويين وشيعتهم، ولا سيما في مثل هذا الشأن ذي البال والأثر الخالد.
نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة
[1] حديثة الفرات: وتعرف بحديثة النورة، وهي على فراسخ من الأنبار وبها قلعة حصينة في وسط الفرات وقد وجد بها عدد كبير من العلماء جيلا بعد جيل.
[2] راجع الفهرست الفن الأول من المقالة الثانية.
[3] راجع دائرة المعارف الإسلامية المجلد الأول العدد الخامس ترجمة أبي الأسود.
[4] ضحى الإسلام ج٢ ص٢٨٦ وما بعدها.
[5] الكامل مع الرغبة ج٧ ص١٣٣.