أهميَّةُ دراسةِ علمِ النَّحوِ

عصام الدين بن إبراهيم النقيلي

أهميَّةُ دراسةِ علمِ النَّحوِ

اعلمْ أيُّهَا المباركُ أنَّ منْ أهمِّ العلومِ الَّتِي يجبُ علَى طالبِ العلمِ أنْ يهتمَّ بهَا هوَ علوم اللغة العربية، فقدأنزل اللهُ عزَّ وجَلَّ القُرآنَ الكريمَ تلك المُعجِزةَ الخالِدةَ، فجَعَلَها باللُّغةِ العَرَبيَّةِ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وقال تعالى: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]، فاقتضى ذلك أن تكونَ اللُّغةُ العَرَبيَّةُ أداتَه الموصِلَةَ إلى فَهْمِه وتدَبُّرِه وتَعَقُّلِه.

ولهذا كان السَّلَفُ يأمُرونَ بتعَلُّمِ العَرَبيَّةِ، وجعَلوا تعَلُّمَها من الدِّينِ، فقدْ كتب عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إلى أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما فقال: “أَمَّا بَعْدُ؛ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، وَتَمَعْدَدُوا[1]؛ فَإِنَّكُمْ مَعَدِّيُّونَ”[2].

وقال أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ”[3].

وكان ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما يَضرِبان أولادَهما على اللَّحْنِ[4].

قال ابنُ عَطِيَّةَ: “إعرابُ القُرآنِ أصلٌ في الشَّريعةِ؛ لأنَّ بذلك تقومُ معانيه التي هي الشَّرعُ”[5].

وقال عامرٌ الشَّعبيُّ: “النَّحْوُ فِي الْعِلْمِ كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ”[6].

ولهذا كان المُحَدِّثون والقُرَّاءُ يَبْدؤون بالنَّحوِ والعَرَبيَّةِ قَبلَ القُرآنِ والحديثِ؛ قال وكيعُ بنُ الجَرَّاحِ: “أَتَيْتُ الْأَعْمَشَ أَسْمَعُ مِنْهُ الْحَدِيثَ، وَكُنْتُ رُبَّمَا لَحَنْتُ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا سُفْيَانَ، تَرَكْتَ مَا هُوَ أَوْلَى بِكَ مِنَ الْحَدِيثِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَوْلَى مِنَ الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: النَّحْوُ، فَأَمْلَى عَلَيَّ الْأَعْمَشُ النَّحْوَ، ثُمَّ أَمْلَى عَلَيَّ الْحَدِيثَ”[7].

وجَلَس سِيبويهِ يَطلُبُ الحديثَ عندَ حَمَّادِ بنِ سَلَمةَ، فلحَن في حديثٍ، فقال حمَّادٌ: لحنتَ يا سِيبويهِ! فقال سِيبويهِ: لا جَرَمَ لأطلُبَنَّ عِلْمًا لا تُلَحِّنُني فيه أبدًا، فلَزِمَ الخليلَ بنَ أحمدَ، فبَرَع في النَّحوِ[8].

وكان شُعبةُ بنُ الحَجَّاجِ يَنهى عن الابتداءِ بالرِّوايةِ قبل النَّحوِ، فيقولُ: “مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يُبْصِرِ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ وَلَيْسَ لَهُ رَأْسٌ[9].

قال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: “معلومٌ أنَّ تعلُّمَ العَرَبيَّةِ وتعليمَ العَرَبيَّةِ فَرْضٌ على الكِفايةِ، وكان السَّلَفُ يُؤَدِّبُون أولادَهم على اللَّحْنِ، فنحن مأمورونَ أمْرَ إيجابٍ – أو أمرَ استِحبابٍ – أن نحفَظَ القانونَ العَرَبيَّ، ونُصلِحَ الألسُنَ المائلةَ عنه، فيَحفَظَ لنا طريقةَ فَهمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، والاقتِداء بالعَرَبِ في خِطَابِها؛ فلو تُرِكَ النَّاسُ على لَحْنِهِم كان نَقْصًا وعَيبًا[10].

وقالَ مجاهدٌ بنُ جبرٍ: لَا يحلُّ لأحدٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ أنْ يتكلَّمَ فِي كتابِ اللهِ تعالَى إذَا لَمْ يكنْ عالِمًا بلغاتِ العربِ[11].

وقالَ الإمامُ مالكٍ رحمهُ اللهُ تعالَى: لَا أُوتِيَ برجلٍ يتكلَّمُ فِي كتابِ اللهِ تعالَى غيرَ عالمٍ بلغةِ العربِ إلَّا جعلتهُ نكالًا[12].

وقالَ ابنُ الصَّلاحِ رحمهُ اللهُ تعالَى: حقٌّ علَى طالبِ الحديثِ أنْ يتعلَّمَ منَ النَّحوِ واللُّغةِ مَا يتخلَّصُ بهِ منْ شينِ اللَّحنِ والتَّحريفِ ومعرَّتهمَا[13].

وصدق ابن صلاح، فإنَّ غير المختص مطالب بتعلُّم من علوم العربية ما يُعينه على فَهْم الكتاب والسنة، وما يتخلَّص به من اللحن في الخطاب والكتاب، وليس مطالبًا بالتبحر ومعرفة الخلافات وغيره، بل هذا من شأن المختص، فمن اختصَّ في العربية كعلم جامعٍ لعدة علوم، وجَب عليه أن يتبحَّر فيها ويحفَظ ما فيها، فلكلِّ مقامٍ مقالٌ، ولكل فنٍّ رجالٌ.

ولولَا أهميَّةُ علم اللغة العربية كلها وعلم النحو خاصة، مَا تكلَّم فيهِ العلماءُ كلَّ هذَا الكلام، ومَا قدَّمتهُ هوَ غيضٌ منْ فيضٍ منْ كلام الرِّجالِ فِي مدحِ هذَا العلم.

المصدر: الالوكة

_________________________

[1] تمعددوا: من تمعدد، تقول: تَمَعْدَدَ المهزولُ: أَخذ في السِّمَن، وتَمَعْدَدَ الصبيُّ: صَلُبَ وذهبت عنه طراوةُ الصِّبا، وجاء في غذاء الألباب للسفاريني 2/ 342، (تمعدد)؛ أي اتَّبع سنة معد بن عدنان في التقشف، وقوله: فإنكم معدِّيون؛ أي من نسل معد بن عدنان.

[2] أخرجه ابن أبي شيبة (30534).

[3] أخرجه ابن أبي شيبة (30535).

[4] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1558)، والخطيب في الجامع (1082).

[5] تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية (1/ 40).

[6] يُنظَر: ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (2/ 28).

[7] يُنظَر: ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (2/ 26).

[8] يُنظَر: ((أخبار النحويين البصريين)) للسيرافي (ص: 35)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتنوخي (ص: 93).

[9] يُنظَر: ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (2/ 26).

[10] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/ 252).

[11] الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 4/ 213.

[12] البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 292.

[13] مقدمة ابن صلاح 400.

ترك تعليق