من أقسام واضح الدلالة: المجمل

من أقسام خفي الدلالة

المجمل

 

المجمل لغة: الذي اختلط فيه المرادُ بغير المراد، فسمي مجمَلاً، واصطلاحًا: ما ينطوي في معناه على عدة أحوالٍ وأحكام قد جمعت فيه، ولا يمكن معرفتها إلا بمبيِّن، ويكون البيان ممَّن أجمَلَ الخطاب؛ أي: المشرِّع؛ قال البزدوي: هو (ما ازدحمت فيه المعاني، واشتبه المراد اشتباهًا لا يُدرَك بالعبارة نفسها، بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب والتأمل)[1].

 

 ومن خلال التعريف تظهَرُ المفارَقة بين (المجمل) و(المشكل)، فإذا كان كلٌّ منهما قد ثبت الغموضُ فيه من الصيغة نفسِها، فإن ما يميز المجمَلَ عن المشكل هو أن طريق إدراك المراد من المجمَل، لا يكونُ إلا من جهة المجمِل؛ إذ هو وحده الذي يستطيع أن يبيِّنَ صوره وجزئياته المتشعبةَ، في حين ثبت طريقُ درك المشكل بالقرائن الخارجة، التي قد تكون نصًّا منفصلاً أو قياسًا أو عملاً[2].

 

 وينقسم المجمَل إلى ثلاثة أنواع:

الأول: ما كان غيرَ مفهوم قطعًا قبل التفسير؛ لغرابة لفظِه؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ [المعارج: 19]؛ إذ لولا التفسيرُ الذي لحق بلفظ (الهلوع) مباشرة، وهو قوله تعالى: ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 20، 21]، لتعذَّرَ فهمُ المراد منه، ومثله قوله تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ [القارعة: 1 – 6]، كذلك قوله تعالى: ﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 1، 2].

 

الثاني: مفهوم المعنى لغةً، لكن ذلك المعنى ليس هو المراد شرعًا؛ كالربا والصلاة والزكاة، وغيرها من المصطلحات الشرعيةِ، التي نقَلها الشارع من معانٍ لغوية مألوفة إلى معانٍ شرعية غريبة، ومن هنا لم يعرف السامعُ المرادَ منها إلا عن طريق السماع من المصدر الناقل لها نفسِه؛ لأن (مطلق الزيادة التي يدل عليها لفظُ الربا، وكذلك الدُّعاء والنَّماء اللذان يدل عليهما لفظُ الصلاة والزكاة، لم يبقيَا مرادينِ بيقين، ونقلت هذه الألفاظ إلى معانٍ أخرى شرعية)[3].

 

الثالث: مفهوم معناه لغة، لكن الإجمال فيه حصل من تعدُّد المعنى، الذي يدل اللفظُ عليه، وتوارده على ذهن السامع بالتساوي دون مرجِّح، وذلك هو المشترك عندما تنعدمُ الأدلةُ والقرائن التي تحدِّدُ المعنى المراد منه[4].

 

• واختلف الأصوليُّون في اللفظ الوارد في الشرع مترددًا بين معنى شرعي ومعنى لغوي؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الطوافُ بالبيت صلاةٌ))[5]، فعدَّ الغزالي لفظ (الصلاة) هنا من المجمَل، أو يحتمل أن يكون المراد الافتقار إلى الطهارة كالصلاة، ويحتمل اشتماله على الدعاءِ، ويحتمل أن يسمى صلاةً شرعًا وإن لم يُسَمَّ صلاة في اللغة، فهذا مجمَلٌ من هذه الجهات[6].

 

وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الاثنانِ فما فوقهما جماعة))[7].

 

فلفظُ (جماعة) عده الغزالي مجمَلاً؛ لتردُّدِه بين المعنى اللغوي، وهو الجماعة الحقيقية، وبين المعنى الشرعي، وهو انعقادُ الجماعة وحصولُ فضيلتها، فلم يترجَّحْ حملُه على أيهما أو على غيرهما مما يُمكِن في إرادةِ الشارع.

 

 كما اختلفوا في وقوع الإجمال في الحروف؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ ﴾ [المائدة: 6]؛ فالباء رددتِ اللفظ بين معنيين: مسح جميع الرأس، ومسحِ بعضه، ولا مرجِّحَ لأحدهما، وإليه ذهَب الحنفية.

 

أما المالكية، فذهبوا إلى أن الوضعَ اللُّغوي ظاهرٌ في مسح الرأس كله؛ لأن اسمَ الرأس يشمله كله حقيقةً.

 

وفي كل الأحوال، فإن البيانَ اللاحق بالمجمَلِ يجعله من أنواع واضحِ الدلالة إن كان البيان شافيًا، أو يجعَلُه في الأقل في رتبة المشكل من خفي الدلالة إن لم يكن البيان بذلك الوصف؛ لأنه حينئذٍ يتاح للاجتهاد لحل الإشكال[8].



[1] أصول البزدوي (1 /54).

[2] مفتاح الوصول ص (66).

[3] كشف الأسرار (1 /55)، أصول السرخسي (1 /168).

[4] كشف الأسرار (1 /54 – 55).

[5] أخرجه النسائي في الحج، حديث رقم (3944).

[6] المستصفى؛ للغزالي (3 /273).

[7] أخرجه البخاري (1 /167).

[8] الخطاب الشرعي ص (136 – 137).

ترك تعليق