مفهوم السياق في الدلالة
مفهوم السياق في الدلالة
السياق لغة: مِن سوق، وأصله سِوَاق، فقُلبت الواو ياءً؛ لكسرة السين[1].
قال ابن فارس: (السين والواو والقاف: أصل واحد، وهو حَدْوُ الشَّيء، يقال: ساقه يسوقه سَوقًا)[2].
وقيل: انساقَت وتَساوَقَت الإبلُ تَساوُقًا: إذا تتابعت، والمُساوَقة: المُتابعة، كأنَّ بعضَها يسُوق بعضًا)[3].
ولعل ملاحظةَ هذا المعنى اللغوي حمَلت بعضَ الأصوليين على اعتبار السياق ما يكون في آخرِ الكلام من القرائن، ويقابله السِّباق، وهو ما يكونُ في أول الكلام من قرائنَ.
وعند النظر إلى لفظ السياق نجدُ أنه مستعمَل عند الأصوليين كثيرًا، دون أن يُعْنَوْا بتعريفه، فيقولون مثلاً: سياق الكلام، وسياق النَّظم، واللفظ الواضح فيما سِيق له، وما كان الكلام مَسُوقًا لأجله، وما أوجبه نفسُ الكلام وسياقُه، والنكرة في سياق الشرط، والفعل في سياق الشرط، إلى غير ذلك من استعمالات الأصوليين لكلمة السِّياق[4].
ويمكن القول بِناءً على استعمالات السياق – على النحو المتقدم -: إن السياقَ هو: (القرائنُ الدالة على المقصودِ في الخطاب الشرعي).
وللسِّياق ألفاظٌ مرادفة تؤدِّي معناه نفسه؛ كألفاظ المقام، ومقتضى الحال، والقرينة، وغيرها.
وقد تزايَد الاهتمام بأثر السياق على الدلالة مع التطور الأصولي، رغم قِدَم الفكرة وعراقتها؛ فاستعمال الإمام الشافعي لدلالة السِّياق في كتابه “الرسالة” هو أوضحُ برهان على عراقتها في الدرس الأصولي، ومن ثَم لم ينقطع نسَبُها بعِلْمِ الأصول، بل حظِيَت – كما حظِي غيرُها من المسائل الأصولية – باهتمام الأصوليين، وإن كان أثرُ السِّياق – كغيره من مباحث الأصول – لم ينتقِلْ من الإجمال إلى التفصيلِ إلا بمرور الزمن، وتناوُلِ الأصوليين له.
ولقد فطن الأصوليُّون إلى عناصرِ السياق وأثرها في تحديد المعنى، ولعل أبرزَها دراستُهم للقرائن المخصِّصة للعام، سواء المتصلة التي تمثِّلُ سياقَ المقال، أم المنفصلة التي تمثل سياقَ الحال؛ كالحس، والعقل، والعرف، وغيرها.
كما أن عنايتهم بأسبابِ النزول للآيات، وأسباب الورود للأحاديث، دليلٌ على حِسٍّ لُغَوي رفيعٍ مستوعبٍ لمقتضيات الخطاب التي تستدعي النظرَ في مجموعِ ما يرتبط به.
كما كانت فكرةُ السِّباق واللحاق حاضرةً في أذهان الأصوليين على اختلافِ مَدارسهم؛ مما يكشف عن مدى العناية الأصولية بما قبل الكلام، وبما بعده؛ لأنه لا يخفى أن إجراءَ الكلام على اتِّساق وترابُطٍ بين معانيه السابقِ منها واللاحق، أرسخُ في باب الفصاحةِ والبلاغة من تفريقِ معاني الكلام وتشتيتها؛ قال الطبري[5]: (وَصْلُ معاني الكلام بعضه ببعض أَوْلى، ما وُجِد إليه سبيلٌ)[6].
الالوكة
[1] لسان العرب (3/369)، مادة: (سوق)، والقاموس المحيط، للفيروزآبادي ص (825).
[2] معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (3/117).
[3] لسان لعرب؛ لابن منظور (6/435).
[4] الأدلة الاستئناسية عند الأصوليين؛ أشرف الكناني ص (218).
[5] هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام، صاحبُ التصانيف في الفقه والتفسير، والحديث والتاريخ، وفروع الدين المختلفة، إمام مجتهد، لم يقلِّد أحدًا، بل كان له مذهبٌ وأتباع، وُلِد بطبرستان سنة 224هـ، واستوطَن بغداد، وتوفي بها سنة 310هـ، مِن مصنَّفاته: جامع البيان في تفسير القرآن، وأخبار الرسل والملوك، وغيرها؛ وفَيَات الأعيان (1/456).
[6] تفسير الطبري (9/260).