الوراء الزمني والوراء المكاني
محمد حباش
الوراءُ الزمنيُّ والوراء المكانيُّ
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ورائكم أيامًا يُرفَع فيها العِلْمُ، ويكثُر فيها الْهَرْجُ))[1]، فقوله: من ورائكم؛ أي: بعدكم في الزمن، وعند انقضاء آجالكم.
وعن حذيفة بن اليمان قال: ((قلتُ: يا رسول الله، إنا كنا بشرٍّ، فجاء الله بخيرٍ، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرٌّ؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خيرٌ؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شرٌّ؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهُداي، ولا يستنُّون بسُنَّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوبُ الشياطين في جُثْمانِ إنسٍ، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسْمَعْ وأطِعْ))[2].
فلفظ “الوراء” يُطلَق على الزمن كما يُطلق على المكان، ولا ينحصر دائمًا في المكان، فالتقدير في الحوادث بالوراء إنما هو في الزمن المستقبل، وهذا التعبير في القرآن منه كثير؛ منه:
• قول الله سبحانه: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾ [إبراهيم: 16، 17]؛ أي: من بعد هلاكه سيصلى جهنم، ومن بعد الصديد الذي يتجرعه عذاب غليظ، يزداد مرة بعد مرة.
• وقوله تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [هود: 71]؛ أي: بعد أن يُولَد إسحاقُ ويكبَر ويتزوج، يُولَد له يعقوبُ.
• وقوله تعالى: ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 5]؛ أي: خِفْتُ مَن يتولى على بني إسرائيل بعد موتي.
• وقوله تعالى: ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 66]، فما بين يديها هي الأمم أو القرى المعاصرة، وما خلفها (وراءها)، فهي التي تأتي بعدها.
• وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ ﴾ [البقرة: 91]؛ أي: يكفرون بما بعد التوراة من الكتب المنزَّلة.
أما الوراء المكاني، فكقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إن منكم مُنفِّرين، فأيكم أمَّ الناس، فَلْيُوجِزْ؛ فإن من ورائه الكبيرَ، والضعيفَ، وذا الحاجة))[3]، وهذا التعبير كثير منه أيضًا في القرآن؛ كقوله تعالى: ﴿ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: إلى المكان الذي قُسم فيه النور[4].
• وكقوله سبحانه: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾ [الكهف: 79]؛ أي: كان خلفهم، ولفظ “كان” يأبى الوراء الزمنيَّ.
فتأمَّل هذه المقالةَ؛ فإنها مريحة من شَغْبِ الألفاظ الحاملة للفظ الوراء، حتى قال بعضهم بأن الوراء بمعنى الأمام، ولم يفرِّق بين وراء الزمن، ووراء المكان.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلِّ اللهم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
[1] سنن الترمذي: 2200، وصححه الألباني.
[2] صحيح مسلم: 52 – (1847).
[3] صحيح مسلم: 182 – (466).
[4] ولا يستقيم قول من قال: ارجعوا وراءكم؛ أي: إلى الدنيا؛ لمخالفته للتعبير القرآني للوراء، ولأن إمكانية الرجوع إلى الدنيا بيد الخالق وحده؛ قال الله: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 12]، ولِما صحَّ عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: “يقول المنافق للذين آمنوا: ﴿ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ﴾ [الحديد: 13]، وهي الخدعة التي خُدِع بها المنافق؛ قال الله عز وجل: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142]، فيرجعون إلى المكان الذي قُسِم فيه النور، فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَلِهِ العذاب، ينادونهم ألم نكن معكم؟ نصلي بصلاتكم ونغزو بمغازيكم؟ ﴿ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]”؛ [المستدرك (3511)، قال الذهبي في التلخيص: صحيح].