(أن) المضمرة للجحود والنفي في كتاب الله
محمد بن جهاد بن أبو شقرة
(أن) المضمرة للجحود والنفي في كتاب الله
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أشرف ما يشغل المرء به وقته هو قراءة كتاب الله، ثم تفسيره والعمل به، وإن القرآن حوى كل فصاحة العرب، ومن أساليب العرب الإضمار، وهو معنى يفهمه الضليع باللغة من السياق، ولا يفهمه الظاهري الذي يمشي على المعنى حرفيًّا؛ مثاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].
قوله: (أن تحبط) هنا بمعنى ألا تحبط، أو كما يقول أهل البصرة: لئلا، وبإمكانك أن تقول: كي لا، أو مخافة، أو خشية كذا وكذا، المهم أن المعنى هو أن لام الناهية هذه مضمرة ولم تظهر في السياق، ولكي نعرف هذا الإضمار في كتاب الله، فلا بد من تتبُّعها في كتاب الله، وإظهار قول المفسِّرين فيها، وهذا العمل نسأل الله تيسيره وقبوله، وأن يكون نافعًا للمؤمنين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سورة البقرة:
1- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 224].
قوله: (أن تبروا)؛ يعني يقول الله عز وجل: لا تجعلوا حلفكم بالأيمان حجة لكم ألا تفعلوا الخير وتتواصلوا، كمثل رجل يحلف بالله ألا يزور أباه أو قريبه، فهذا الحلف غير مرضي عند الله، ولا يجوز، فيقول الله: لا تحلفوا على عدم عمل البر والإحسان والصلة، وحسن الجوار؛ قال الطبري: (أي لا تعتلُّوا بالله أن يقول أحدكم أنه تألَّى ألا يصل رحمًا، ولا يسعى في صلاح)، ونحو قوله ابن كثير والسعدي ولم يتعرضوا لذكر الإضمار، وفي تفسير القرطبي أشار إلى إضمار النفي في قول، وفي قول آخر نقله عن الطبري والنحاس.
2- قوله تعالى: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: 224].
المقصد أن يكون رجلًا يشهد ومعه امرأتان، فذاكرة المرأة في هذه الأمور ليست كالرجل؛ لأنها لا تمارس المعاملات التجارية بكثرة، فإذا نسيت واحدة أذكرتها الأخرى، فيصبح المعنى مخافة / خشية / أن تنسى إحداهما، فتذكِّرها الأخرى.
لم يذكر المفسرون في ذلك شيئًا سوى الطبري، فإنه ذكر اختلاف القراء في إن هي بالفتح أو الكسر، واختلافهم في حرف الذال في (فتذكر)، فبعضهم شدَّدَه وبعضهم سكَّنه، واعتبر أن حلَّت محل (كي)، فأصبح الإضمار بكَيْ لا بلا النافية.
سورة النساء:
3- قوله تعالى: ﴿ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ﴾ [النساء: 127].
هنا قد تكون إضمارًا بمعنى: لا ترغبون في نكاحهن، وإذا كان معنى ترغبون هو ترك الرغبة، فلا يكون هناك إضمار.
4- قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 135].
قوله: (أن تعدلوا)؛ أي: لا تجعلوا اتباعكم لهواكم دافعًا لكم؛ لكيلا تعدلوا بين الأقربين، وإذا كان المعنى لتعدلوا بمعنى العدل الجورِ، فلا تحتاج لإضمار.
5- قوله تعالى: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176].
يعني ألا تَضِلُّوا، ومن قال بذلك السعدي، ونقل البغوي عن الفراء وأبي عبيدة قولهما: معناها ألَّا تضلوا، وقيل معناه: يبيِّن الله لكم كراهة أن تضلوا، وقال الطبري: يعني لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها.
سورة المائدة:
6- قوله تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾ [المائدة: 19]
قال الطبري: ألا تقولوا، وكي لا تقولوا؛ يعني لكي لا تقولوا ما جاءنا من بشير.
وقال السعدي: لئلا يقولوا، وقال البغوي: كيلا تقولوا، وقال ابن كثير: أي لئلا تحتجوا وتقولوا: يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه، وقال القرطبي: حتى لا يقولوا.
سورة الأنعام:
7- قوله تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [الأنعام: 156].
قال القرطبي: قول الكوفيين: لئلا تقولوا، وقال الطبري: كراهة أن تقولوا.
سورة الأعراف:
8- قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
قوله: (أن تقولوا) يعني كي لا تقولوا، قال الطبري: كيلا تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، قال السعدي: خشية أن تنكروا يوم القيامة، وعند ابن كثير: لئلا يقولوا يوم القيامة.
سورة هود:
9- قوله تعالى: ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46].
قوله: (أعظك أن تكون) قد يكون كيلا تكون من الجاهلين، وإذا كان معنى أعظك أحذِّرُك، فلا يكون هناك إضمار؛ قال القرطبي: معناه أرفعك أن تكون من الجاهلين، وأنهاك عن هذا السؤال لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين.
سورة النحل:
10- قوله تعالى ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [النحل: 15].
قوله: (أن تميد)؛ أي لكيلا تميد بكم؛ أي لا تميل الأرض بل تبقى ثابتة لكم.
قال الطبري والسعدي: يعني ألا تميد بكم، قال البغوي: لئلا تميد بكم، قال ابن كثير: لتقر الأرض ولا تميد؛ أي لا تضطرب بما عليها من الحيوان، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك، قال القرطبي: عند الكوفيين معناها: لئلا تميد بكم، وعند البصريين: كراهية أن تميد.
سورة الأنبياء:
11- قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 31]
قال الطبري: أي لا تتكفأ بهم، أي فثبتناها لئلا تتكفأ بالناس، وليقدروا بالثبات على ظهرها، قال القرطبي: لئلا تميد بهم، قال ابن كثير والسعدي: لئلا تميد، أي لئلا تضطرب.
قوله: (أن تميد)؛ أي لكيلا تميد بكم؛ أي لا تميل الأرض، بل تبقى ثابتة لكم.
سورة لقمان:
12- قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [لقمان: 10].
قوله: (أن تميد)؛ أي لكيلا تميد بكم؛ أي لا تميل الأرض بل تبقى ثابتة لكم.
قال الطبري: ألا تميد بكم؛ أي لا تضطرب بكم ولا تتحرك يَمنة ويَسرة، ولكن لتستقر بكم.
قال القرطبي: هي عند الكوفيين لئلا تميد، وعند البصريين كراهية أن تميد بكم.
سورة فاطر (الملائكة):
13- قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر: 41]
قوله: (أن تزولا)؛ أي لكيلا تزولا ولا تذهبا ولا تسقُطا، وإذا كان معنى يمسك (يمنع)، فلا تحتاج إلى إضمار، والله أعلم.
قال الطبري: لئلا تزولا من أماكنهما، قال البغوي: كيلا تزولا، قال ابن كثير: أن تضطربا عن أماكنهما، قال القرطبي: أن في موضع نصب بمعنى كراهة أن تزولا، أو لئلا تزولا، أو لأن المعنى أن الله يمنع السماوات والأرض أن تزولا، فلا حاجة إلى هذا إلى إضمار.
سورة الحجرات:
14-﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: 2].
قوله: (أن تحبط) بمعنى لكيلا تحبط أعمالكم، أو مخافة أن تحبط أعمالكم، قال الطبري: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لها، ثم ذكر اختلاف الكوفيين والبصريين في ذلك، فهي عند الكوفيين بمعنى لا تحبط أعمالكم، وعند البصريين: مخافة أن تحبط أعمالكم، قال البغوي: لئلا تحبط حسناتكم، وقيل: مخافة أن تحبط حسناتكم، وقال ابن كثير: خشية أن تحبط أعمالكم.
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]
قوله: (أن تصيبوا)؛ أي مخافة أن تصيبوا، لكيلا تصيبوا قومًا، قال الطبري: فتبينوا لئلا تصيبوا قومًا.
هذا والله أعلم بالصواب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فرغ من تبييضه يوم الثلاثاء، الثاني عشر من شهر صفر لعام 1442 من الهجري النبوية الشريفة الموافق التاسع والعشرين من شهر أيلول لسنة 2020.