حالات الوحي
كان جبريل عليه السلام يأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حالات متنوعة:
1 – فتارة يظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ﴿ لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ﴾ [النجم: 18] قال: رأى جبريل في صورته، له ستمائة جناح [1].
2 – وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الصحابة ويستمعون إليه، كما في حديث عمر رضي الله عنه الذي رواه البخاري: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر … »
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر الحديث: «إنّه جبريل جاء يعلّمكم دينكم» [2]
. وكان كثيرا ما يأتي في صورة (دحية الكلبيّ) الصحابي الجليل، وكان دحية من أجمل الصحابة.
3 – وتارة يهبط الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خفية فلا يرى، ولكن يظهر أثر التّغيّر والانفعال على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيغطّ غطيط [3] النائم، ويثقل ثقلا شديدا حتى قد يتصبّب جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد.
وقد يكون وقع الوحي على رسول الله كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه، وذلك أشدّ أنواعه، وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه دويّ النحل، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل[4]. لكنهم لا يفهمون كلاما، أما هو فإنه يسمع ويعي ما يوحى إليه، ويعلم علما ضروريا أن هذا هو وحي الله دون لبس ولا خفاء، فإذا انجلى عنه الوحي وجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته، منقوشا في حافظته كأنما كتب في قلبه الشريف كتابة.
روى البخاري في صحيحه: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس- وهو أشدّه علي- فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول» [5] قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
4 – شبه الجاحدين والمنكرين للوحي:
وقد حرص هؤلاء الجاحدون قديما وحديثا أن يفسّروا حادثة الوحي بنظريات غامضة ومنحرفة، وتهدف في النهاية إلى إنكار رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فنجدهم يفسّرون ظاهرة الوحي بالإلهام النفسي تارة، وبالإشراق الروحي تارة أخرى، ويعميهم الحقد فيتجرّءون على القول بأنه ضرب من الصّرع والجنون كان ينتابه، وواضح أنّها شبه واهية لا تثبت أمام الوقائع النّيّرة والمنطق السليم والحكم العادل النزيه.
والذي يهمنا أن نرد عليه هنا ونكشف زيفه هو ما يسمّيه الملحدون في هذا العصر ب (الوحي النفسي):
1- إن حالة الإلهام النفسي، أو الإشراق الروحي، لا تستدعي الخوف والرعب وتغيّر اللون، لأن الصفاء النفسي والتدرّج في التفكير والتأمل لا ينسجم مع حالة الخوف والاضطراب، بل هما حالتان متناقضتان تماما، وخوف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثابت في حديث بدء الوحي وفيه: «فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي [6]» [7].
وقد ذكرنا في حالات الوحي ما كان يعتري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تغير واضطراب وتصبّب العرق من جبينه وهو على مرأى من أهله وأصحابه.
2- واقتضت حكمة الله تعالى أن يحتجب الملك عن رسول الله «1» مدة بعد رؤيته له في غار حراء، فاستبدّ به القلق، وخاف أن يكون الله تعالى قد قلاه لسوء صدر منه، وراحت نفسه تحدّثه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها …
إلى أن رأى جبريل وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض يناديه، ويقول: يا محمد أنت رسول الله حقّا وأنا جبريل [8].
وهذا الانقطاع الذي حصل في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجعل القول بأن الوحي إلهام نفسيّ كلاما باطلا وضربا من الجنون.
3- إن جانبا عظيما من القرآن الكريم احتوى على أنباء من سبق من الأمم والجماعات، وقصص الأنبياء، وذكر الأحداث التاريخية بوقائعها الصحيحة الدقيقة.
وهذه الأخبار لا يمكن أن يقول عاقل بأنها إلهام نفسي أو إشراق روحي، لأنها لا تعتمد إلا على التلقي والتعليم؛ قال تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3] وقال سبحانه:﴿ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44].
4- واحتوى القرآن كذلك على حقائق علمية، ونظريات طبيعية وفلكية تثبت الأيام بعد تقدّم العلم صحتها وأسبقيتها، قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
وتضمّن القرآن في بيان العقائد أمورا تفصيلية عن بدء الخلق ونهايته وعن الحياة الآخرة وما فيها من الموقف والحساب والجنة والنار، ويضاف إلى ذلك كله ما تضمّنه القرآن من أحكام قاطعة عن أخبار المستقبل، وما يجري من أحداث تقع وفق سنن الله الاجتماعية في القوة والضعف والعزة والذلة. والذي ينطق بهذا رجل أميّ لم يعرف الكتابة ولم يقرأ في كتاب، ومع ذلك يتحدّى بما جاء به جميع الناس في كل أرض وفي كل زمان[9].
إن التفسير المنصف لما جاء به هو الإيمان بهذا الاتصال الذي حدث بين الأرض والسماء عن طريق الوحي لتبليغ هداية الله؛ قال تعالى: ﴿ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ﴾ [النجم: 3 – 4].
يقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم):
هذا الرأي هو الذي يروّجه الملحدون اليوم باسم (الوحي النفسي) زاعمين أنهم بهذه التسمية قد جاءونا برأي علمي جديد، وما هو بجديد، وإنما هو الرأي الجاهلي القديم، لا يختلف عنه في جملته ولا في تفصيله، فقد صوّروا النبيّ عليه الصلاة والسلام رجلا ذا خيال واسع وإحساس عميق فهو إذا شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرا على حواسه حتى يخيّل إليه أنه يرى ويسمع شخصا يكلّمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته فهو إذا الجنون أو أضغاث الأحلام، على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة (الوحي النفسي) حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقّفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذا قد علّمه بشر. فأيّ جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثا معادا يضاهون به قول جهّال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة متّسخة، بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه القلوب المتحضّرة في العصر الحديث مستمدّا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجّرة في عصور الجاهلية الأولى، قال تعالى:﴿ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [البقرة:118].
وبعد هذه العجالة في بيان معنى الوحي، وردّ شبه الجاحدين له، نعود إلى شرح عناصر التعريف للقرآن الكريم.
ج- المتعبّد بتلاوته:
وهذا يعني أن قراءة آيات القرآن الكريم عبادة، يتقرّب بها المؤمن من خالقه، ويكتب له بها الأجر الجزيل والثواب العظيم، كما سيأتي عند الكلام عن فضل قراءة القرآن.
ومما يدلّ على أهمية التلاوة في مجال العبادة: أنّ الصّلاة لا تصحّ إلا بقراءة آيات من القرآن، ولا يغني عنه شيء من الأذكار والدعاء، قال الله تعالى: ﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [10].
د- المنقول بالتواتر:
ومعنى التواتر هو نقل الجمع عن الجمع بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، ومن المسلّم به تاريخيا: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلقّوا القرآن مشافهة من فم رسول الله وحفظه أكثرهم، ونقلوه إلى جيل التابعين، وهكذا بقي القرآن ينتقل من جيل إلى جيل آخر حتى وصلنا، وهذا يجعلنا نجزم بأن القرآن نقل إلينا بالتواتر، نقلته جموع المسلمين عن جموعهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بحيث قطع بصدق وضبط كل طبقة منهم واستحالة اتّفاقهم على الكذب، وفي أبحاثنا القادمة سندرس بالتفصيل كيف نقلت الأجيال المسلمة هذا القرآن بالحفظ في الصدور والكتابة في السطور، مما يثلج صدر المسلم ويزيده يقينا بقوله تعالى:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
وهذه العناصر الأربعة من عناصر تعريف القرآن، تحدّد حقيقة القرآن، وتميّزه عن غيره من الحديث النبوي، أو الحديث القدسي، أو القراءات الشاذة، أو الترجمة الحرفية، أو غير الحرفية للقرآن، لأن الحديث ليس بمعجز، والقراءات الشاذة غير متواترة، والترجمة ليست هي اللفظ المنزل.
[1] رواه أبو نعيم في الحلية (10/ 27) بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة (4/ 304) وفي إسناده رجل مجهول.
[2] رواه البخاري في التفسير (4575) ومسلم في الإيمان (174).
[3] رواه مسلم في أول كتاب الإيمان (8) وانظر شرحه في كتابنا «الوافي في شرح الأربعين النووية».
[4] هو تردد نفس النائم حتى يسمعه من حوله.
[5] رواه أحمد (1/ 24).
[6] رواه البخاري في بدء الوحي (2).
[7] رواه البخاري في بدء الوحي (3).
[8] انظر فترة الوحي في كتاب التعبير من صحيح البخاري (باب أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي) رقم (6581) وفتح الباري (12/ 359 – 361).
[9] رواه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في فتح الباري (12/ 360).
[10] رواه البخاري في صفة الصلاة (723) ومسلم في الصلاة (394) وأبو داود في الصلاة (822) والترمذي في الصلاة (247) والنسائي في الافتتاح (2/ 137 – 138).