أ. د. عبدالله أحمد جاد الكريم حسن

 

دراسة الأصل والفرع عند ابن جني

الأصل في الجمل والمفردات هو البنية العميقة، والفرع هو البنية السطحية في عرف البنيويين التحويليين، وللعلماء العرب – ومنهم ابن جني – موقف من مسألة الأصل والفرع، قد يتفق في معظمه مع رأي اللغويين المحدثين، فإن الأصل هو ما يوجد ويستمر في جميع فروعه، وهو ما لا يحتاج إلى علامة. وهو بذلك مستغن عن فروعه، وإنه ما يبنى عليه.

 ولقد أولى ابن جني مسألة الأصل والفرع عناية فائقة، ومن ذلك قوله: ومن إصلاح اللفظ قولهم: «كأن زيدًا عمرو» اعلم أن أصل هذا الكلام «زيد كعمرو» ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إن) فقالوا: «إن زيدًا كعمرو» ثم إنهم بالغوا في توكيد التشبيه: فقدموا حرفه إلى أول الكلام، عنايةً به، وإعلامًا أن عقد الكلام عليه، فلما تقدمت الكاف وهي جارة لم يجز أن تباشر (إن)؛ لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل، فوجب لذلك فتحها، فقالوا: « كأن زيدًا عمرو»”[1]؛ على أن (زيدًا) مبتدأ، وأن النصبة حركة اقتضاء. ويرى ابن جني أن (كأن) مركبة من الكاف و(أن)، والدليل على ذلك قوله:” كأن ولعل… وهما مركبتان لأن الكاف زائدة واللام زائدة[2].

 ومن يقرأ كلام ابن جني السابق عن التحويلات والإضافات التي يمكنها أن تلحق الجملة السابقة وأمثالها، يحس بوشائج جلية بين كلامه، وما يذهب إليه البنيويون التحويليون، كما يتوافق مع ما يراه علم السيميائية من دراسة ما يؤثر في الدلالة للكلمة أو الجملة، ويتوافق مع التداولية أيضًا، وعلم لغة النص، والمدرسة الوظيفية، وغير ذلك من المناهج اللغوية الحديثة.

 ويقول في ذلك أيضًا:” كما أن التأنيث لما كان معنى طارئًا على التذكير احتاج إلى زيادة في اللفظ علمًا له؛ كـ(تاء) طلحة وقائمة وألفي بشرى وحمراء وسكرى، وكما أن التعريف لما كان طارئًا على التنكير احتاج إلى زيادة لفظ به؛ كـ(لام التعريف) في الغلام والجارية، ونحوه[3].

 فمما سبق يتأكد لدينا أن ابن جني قد أولى مسألة الأصل والفرع عناية فائقة، وأنه وصف كيفية تحول الجمل أو المفردات من الأصل إلى الفرع؛ وبعبارة أخرى من البنية العميقة إلى البنية السطحية، والأمثلة على ذلك كثيرة في خصائصه. ومن أمثلة ذلك أيضًا قوله: “لأن لهذه اللغة أصولاً وأوائل قد تخفى عنا، وتقصر أسبابها دوننا؛ كما قال سيبويه: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر[4].

 ويؤكد ذلك بقوله:” أفلا ترى إلى الصنعة كيف تحيل لفظًا إلى لفظ، وأصلاً إلى أصل، وهذا ونحوه إنما الغرض فيه الرياضة به، وتدرب الفكر بتجشمه، وإصلاح الطبع لما يعرض في معناه وعلى سمته“.[5] ومثل ذلك الأمر من الصنعة ” قد يكون الأصل واحدًا وفروعه متضعفة ومتصعدة، ألا ترى أن الاشتقاق تجد له أصولاً ثم تجد لها فروعًا، ثم تجد لتلك الفروع فروعًا صاعدة عنها[6]. ويقول:”وأما الاشتقاق الأكبر: فهو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثية، فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنىً واحدًا تجتمع التراكيب الستة، وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن تباعد شيء من ذلك عنه رد بلطف الصنعة والتأويل إليه، كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد…”[7].

 ولكن الحديث عن الأصل والفرع، والتكهن بالأصل فيه لجوء إلى المنهج التاريخي الذي يأباه الوصفيون؛ وخاصة إذا تعلق الأمر بأصل المفردات، ولكن الموقف مغاير تمامًا عند التحويليين التوليديين وخاصة إذا تعلق الأمر بأصل الجمل والتراكيب.

 وليس هذا الأمر على إطلاقه – الأصل والاشتقاق – بل له ضوابطه وشروطه التي يجب أن تراعى، ومن ذلك عند ابن جنيفأما أن يتكلف تقليب الأصل ووضع كل واحد من أحنائه موضع صاحبه؛ فشيء لم يعرض له ولا تضمن عهدته[8]. ويزيد ابن جني هذا الأمر وضوحًا حيث يقول:”العرب إذا غيرت كلمةً عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم[9]. وقد نص النحاة على أن مخالفة الأصل لا تكون إلا لغرض، وخصص ابن جني بابًا لهذه المسألة سماه (إقرار الألفاظ على أوضاعها الأول ما لم يدع داع إلى الترك والتحول[10].

 التحول عن الأصل مقبول لدى النحاة لكنهم لا يفرطون في تأويله بغير داع، ويرفض النحاة التعسف في التأويل؛ من أجل هذا أوصى ابن جني بالملاطفة في التعامل مع الصور المتغيرة عن الأصل حيث يقول:” وذلك أن ترى العرب قد غيرت شيئًا من كلامها من صورة إلى صورة، فيجب حينئذ أن تتأتى لذلك وتلاطفه، لا أن تخبطه وتتعسفه[11].

 ولقد عرض البنيويون التحويليون لمسألة الأصل والفرع في مواضع مختلفة – كما مر – منها أيضًا:” بحثهم للألفاظ ذات العلامة (mark) وتلك التي بلا علامة (un mark)، وقرروا أن الألفاظ غير المعلمة هي الأصل، وهي أكثر دورانًا في الاستعمال، وأكثر تجردًا، ومن ثم أقرب إلى البنية العميقة… فالمفرد غير المعلم (book – boy) والجمع تلحقه (s) (books – boy)، والمفرد أصل، والجمع فرع[12].

 


[1] المرجع السابق (1/ 317).

[2] المرجع السابق (1 / 168).

[3] المرجع السابق (3/ 80).

[4] الخصائص (2/ 164). وينظر: الكتاب (2/ 103).

[5] الخصائص (2/ 92).

[6] المرجع السابق (3/ 242).

[7] المرجع السابق (2/ 134).

[8] المرجع السابق (1/ 12).

[9] المرجع السابق (2/ 66).

[10] المرجع السابق (2/ 459).

[11] المرجع السابق (2/ 472).

[12] عبده الراجحي، النحو العربي والدرس الحديث (ص144).

ترك تعليق