سامح المصري

إعراب البسملة

س: ما مذاهب أهل العلم في إعراب البسملة (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وما الراجح فيها؟

ج: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فهذا سؤال عظيم لعِظَم ما قد حواه، وإني مُتْحِفُك بكلام أهل العلم، وسأبيِّن لك الراجح منه، وسوف أفصِّل لك هذه المسألة تفصيلًا لن تجده في أي مكان آخر، واللهَ أرجو أن يكون هذا الجواب في ميزان حسناتي، ومن الله وحده أستمد العون والتوفيق، والله أسأل الإخلاص والقبول.

 

أقول مستعينًا بالله: ذهب جَمْعٌ من النحاة إلى أن الباء في البسملة حرف جر أصلي؛ وعليه فإن الجار والمجرور (بسم) لا بد أن يتعلق بمتعلق، بينما ذهبت طائفة من النحاة إلى أن الباء في البسملة حرف جر زائد؛ ومن ثَمَّ فإن الجار والمجرور لا يحتاج إلى متعلق.

 

وقد اختلف الفريق الأول القائل بأصالة حرف الجر في تقدير المتعلق على ثلاثة أقوال:

1-  الجار والمجرور (بسم) متعلق بخبر محذوف لمبتدأ محذوف، وعليه فالمعنى: ابتدائي كائنٌ بسم الله الرحمن الرحيم.

 

2-  الجار والمجرور (بسم) متعلق بفعل مضارع محذوف تقديره (أبتدئ)، وعليه فالمعنى: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم.

 

3-  الجار والمجرور (بسم) متعلق بفعل مضارع محذوف مؤخَّر يُفهم من سياق الكلام الذي وردت فيه البسملة.

 

أقول: القول الأخير هو الراجح إن شاء الله، وعليه طائفة من محققي النحاة.

 

فلا شك أن الأَولَى في مسألة التقدير أن يكون فعلًا؛ لأن الأصل في العمل للأفعال، وأن يكون مؤخرًا لا مقدمًا؛ تيمُّنًا وتبركًا بالبداءة باسم الله تعالى، وكذا من أجل الحصر؛ فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فكأن القائل يقول: باسمك وحدك يا ألله ليس غيرك، وأن يكون خاصًّا مفهومًا من سياق الكلام.

 

فمثلًا: رجل بدأ بالقراءة في كتاب ما فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فحينها يكون الجار والمجرور متعلقًا بفعل مضارع محذوف مؤخر تقديره (أقرأ).

 

ويكون المعنى: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.

 

هنا أمور ثلاث:

1- جعلنا الجار والمجرور متعلقًا بفعل (أقرأ)؛ لأن الأصل في العمل للأفعال.

 

2- أخرنا الفعل عن البسملة فلم نقدمه عليها، فلم نقل: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، بل قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ؛ من أجل أن نبدأ كلامنا باسم الله الكريم؛ من أجل التيمن والتبرك باسمه تعالى، وكذا من أجل الحصر، فالمعنى: باسمك يا ألله وحدك، لا باسم أحد غيرك.

 

3- قدَّرنا الفعل (أقرأ) عن غيره من الأفعال؛ لأننا فهِمنا من السياق الذي وردت فيه البسملة أن الرجل يقرأ؛ فالبسملة واردة في سياق القراءة؛ لذا قدرنا الفعل (أقرأ) عن غيره من الأفعال.

 

أذكر مثالًا آخر للتوضيح:

من المعلوم أن أهل العلم عندما يؤلِّفون كتبهم في شتى فنون العلم، فإنهم يبدؤون بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ وعليه فإننا نعلق الجار والمجرور بفعل محذوف مؤخر تقديره: (أُؤلِّف)، ويكون المعنى: بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف.

 

وعلى هذين المثالين فقِس أيَّ مثال آخر.

 

وأما النحويون الذين قالوا أن حرف الجر (الباء) في البسملة زائد، فإنهم يرون أن (بسم): الباء حرف جر زائد، اسم: مبتدأ مجرور لفظًا، مرفوع محلًّا، وأن الخبر محذوف تقديره: (مبدوء به)، ويكون المعنى: بسم الله الرحمن الرحيم مبدوء به.

 

أقول: والراجح في المسألة القول الأول، القائل بأصالة حرف الجر، ثم يترجح من القول الأول القولُ الثالث، القائل أن الجار والمجرور متعلق بفعل مضارع محذوف مؤخر يُفهم من السياق الذي وردت فيه البسملة.

 

ثم اختلفت كلمة النحاة حول معنى الباء في البسملة على ثلاثة أقوال:

1- الباء للاستعانة.

2- الباء للتبرك.

3- الباء للمصاحبة.

 

أقول: القول الراجح القولُ الأول القائل: إن الباء للاستعانة؛ لأن البسملة تُقال عند بداية الأعمال، ولا شك أن المرء ينوي بقلبه الاستعانة بالله؛ لكي يوفِّقه الله لإتمام العمل، فكأن القارئ يقول بلسان حاله: استعنتُ باسمك يا رب، فأعنِّي على القراءة.

 

وكأن المؤلف يقول: استعنت باسمك يا رب، فأعني على التأليف… وهكذا، هذا الذي يظهر لي والله أعلم.

 

ثم لا بأس أن نقول بالقول الثاني وهو التبرُّك باسم الله؛ فالمرء لا شك أنه يستشعر هذا المعنى عند قوله البسملةَ، فلا مانع من الجمع بين القول الأول والثاني، ويكون المعنى: يا رب استعنت باسمك متبركًا به، وهكذا، والله أعلم.

 

ثم حدث خلاف بين النحاة حول إعراب (الرحمن الرحيم)، فذهب قوم إلى أن (الرحمن) بدل من لفظ الجلالة مجرور بالكسرة، وكذا (الرحيم)، بينما قال قوم بالنعتية؛ فـ(الرحمن) نعت للفظ الجلالة مجرور بالكسرة، وكذا (الرحيم) نعت ثانٍ.

 

أقول: الحق في هذه المسألة أن كلا الوجهين جائز؛ لأن أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف، وليست أعلامًا محضة؛ لذا يصح إعراب (الرحمن) بدلًا؛ نظرًا لكونه علمًا على ذات ربنا سبحانه، وكذا يصح إعراب (الرحمن) نعتًا؛ لكونه وصفًا له سبحانه بصفة الرحمة التي تليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، والقول في (الرحيم) هو القول نفسه في (الرحمن).

 

والآن مع الإعراب التفصيلي، وتوضيح جميع الوجوه الجائزة في إعراب (الرحمن الرحيم).

 

بسم الله الرحمن الرحيم: الباء: حرف جر، واسم: اسم مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة، والجار والمجرور متعلق بفعل مضارع محذوف مؤخر يُفهَم من السياق الذي وردت فيه البسملة.

 الله: لفظ الجلالة مضاف إليه مجرور بالكسرة.

 الرحمن: نعت مجرور أو بدل مجرور، الرحيم: نعت ثانٍ مجرور أو بدل مجرور كذلك.

 

وجر (الرحمن الرحيم) على البدلية أو النعتية هو الوجه الذي يتعين قراءةً (قراءة القرآن الكريم)، ولا شك أنه أفصح الوجوه من حيث قواعد اللغة العربية.

 

وهناك أوجه تجوز من جهة العربية، ولكنها لا تتعين قراءة؛ فلا يجوز أن يُقرَأ بها القرآن الكريم، ولكنها من ناحية اللغة سائغة مستقيمة، وهاك بيانَها:

1-  يجوز جر (الرحمن) على البدلية أو النعتية، وحينها يجوز لك أن ترفع (الرحيم) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو).

 

2-  يجوز جر (الرحمن) على البدلية أو النعتية، وحينها يجوز لك أن تنصب (الرحيم) على التعظيم لفعل محذوف تقديره (أمدح).

 

3-  يجوز رفع (الرحمن) وكذا (الرحيم) ويكونان خبران لمبتدأ محذوف تقديره (هو).

 

4-  يجوز نصب (الرحمن)، وكذا (الرحيم) على التعظيم لفعل محذوف تقديره (أمدح).

 

5-  يجوز رفع (الرحمن) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو)، وعندئذٍ يجوز نصب (الرحيم) على التعظيم لفعل محذوف تقديره (أمدح).

 

6-  يجوز نصب (الرحمن) على التعظيم لفعل محذوف تقديره (أمدح)، وعندئذٍ يجوز رفع (الرحيم) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو).

 

فهذه ستة أوجه سائغة من حيث العربية، ولكنها لا تتعين بها القراءة؛ لأن القراءة سُنَّة مُتَّبَعة.

 

وهناك وجهان لا يجوزان من ناحية القراءة أو اللغة، وقد نظم الأجهوري رحمه الله ذَينك الوجهين بقوله:

إن يُنصَب الرحمن أو يرتفعا = فالجر في الرحيم قطعًا مُنعا 

والمعنى: إن نصبت (الرحمن) على التعظيم لفعل محذوف، فإنه يمتنع جر (الرحيم)، وكذلك إن رفعت (الرحمن) على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، فإنه يمتنع أن تجر (الرحيم).

 

فهذان الوجهان لا يجوزان من ناحية القراءة، وكذا لا يجوزان من ناحية قواعد اللغة العربية.

 

أقول: نازع بعض أهل العلم الأجهوريَّ في ذلك، وقالوا: إن القطع بمنع الوجهين من ناحية اللغة غير مستقيم؛ لأن المسألة خلافية بين أهل العلم.

 

أقول: وهذا هو الحق؛ فجر (الرحيم) على النعتية للفظ الجلالة (الله) جائز وفق مذهب بعض أهل العلم؛ فالفصل بين النعت والمنعوت مسألة خلافية بين النحاة.

 

هذا، والله أعلم، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

ترك تعليق