عمر اسراطي

العروض عند حازم القرطاجني

من خلال كتابه:

“منهاج البلغاء وسراج الأدباء”

لقد استأثر علم العروض باهتمام عدد من العلماء عبر امتداد العصور، ويعد حازم القرطاجني واحدًا من بين هؤلاء العلماء الذي كانت لهم إشراقاتٌ عروضية مهمة، غابت – مع الأسف – عن نظر الباحثين والدارسين.

تناول حازم القرطاجني الحديثَ عن العروض العربيِّ في المنهج (الباب أو الفصل) الثاني من القسم الثالث للكتاب، الذي خصصه للمباني، محاولًا ربط الأوزان الشعرية بالدلالة/ المعاني، وما يليق لكلِّ وزن من الأغراض الشعرية؛ حتى يكون النظم ملائمًا للنفوس، لا منافرًا لها.

لقد افتتح حازم حديثَه في هذا المنهج بالوقوف عند الأوزان الشعرية المستعملة عند أهل النظم؛ حيث يقرر أنها مركَّبة من ثلاثة أصناف من الأجزاء، وهي: الخماسيات والسباعيات والتساعيات، مخالفًا بذلك جمهور العروضيِّين الذين حصَروا أجزاء العروض العربي في جزأين اثنين، وهما الخماسيُّ والسباعيُّ، يقول: “إن الأجزاء الشعرية منها ما تركب من أجزاء خماسية، ومنها ما تركب من أجزاء سباعية، ومنها ما تركب من أجزاء تساعية، ومنها ما تركب من أجزاء خماسية وسباعية، ومنها ما تركب من أجزاء سباعية وتساعية، ومنها ما تركب من أجزاء خماسية وسباعية وتساعية”[1].

وقد استدل على ورود هذه الأجزاء في الشعر العربيِّ بذكر البحور الشعرية التي ورد فيها كلُّ جزء من هذه الأجزاء الثلاثة، بل استشهد بأشعار تدل على ورود هذه الأجزاء في الشعر العربي؛ وإن خالفت ما ذهب إليه العروضيون، فمثَّل للأجزاء الخماسية بالبحر المتقارب الذي يُبنى على تَكرار جزء “فعولن”، ومثَّل للسباعيات بكلٍّ من بحر الرجز “مستفعلن”، وبحر الوافر “مفاعلتن”، وبحر الرمل “فاعلاتن”، وبحر الهزج “مفاعيلن”، أما الأجزاء التساعية، فقد مثل لها ببحر الخبب؛ حيث يقول: “وأما ما تركب من التساعية الساذجة، فالخبب، وبناء شطره: متفاعلتن متفاعلتن مرتان؛ كقول بعض الشعراء الأندلسيين:

أَمَّلْتُ لِقاءَك فِي الحُلمِ ♦♦♦ فَزَجَرْتُ العينَ فَلَمْ تَنَمِ”.

ويفهم من كلام حازم أن العروضيين جزَّؤوا الجزء جزأين، والتزموا الخبن في كل جزء ليصير الجزء (متفاعلتن) جزأين، هما: فَعِلن فَعِلن، وقد أرجع حازم اتفاق العروضيين على أن أجزاء هذا البحر – أعني بحر الخبب – إنما هي أجزاء البحر المتدارك المتكون من “فاعلن” أربع مرات، وليس من الخبب في شيء – برغبتهم في أن يأتي البحر المتدارك على عكس البحر الذي معه في نفس الدائرة العروضية الخليلية؛ والذي هو البحر المتقارب المكون من “فعولن” أربع مرات؛ وقد أشار إلى هذا الأمر بقوله: “وإنما حملهم على هذا حرصُهم على أن يجعلوا الخبب يساوق في حركاته وسكناته المتقارب…”[2].

أما الأوزان التي تركبت من الأجزاء الخماسية والسباعية، فقد مثل لها بكلٍّ من البحر الطويل، الذي يبنى شطره على “فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن”، والبحر البسيط المربع الأجزاء كذلك، والمكون من “مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن”، والبحر المديد رباعي الأجزاء في الأصل، إلا أنه لا يأتي إلا مجزوءًا، وأضاف إلى هذا النوع بحر المقتضب، على اعتبار أنه بحر رباعي الأجزاء كذلك، “وأصل بناء شطره: “فاعلن مفاعلتن فاعلن مفاعلتن”، إلا أن هذا ثقل؛ لكثرة الأوتاد فيه والأسباب الثقيلة، وتكرر الفاصلة ووقوعها في النهايات، وقد قدمنا أن ذلك مستثقل؛ فلهذا لم يستعملوه إلا منصوفًا؛ أي: محذوف النصف من كل شطر، فهذا هو الصحيح الذي يشهد به القياس والسماع والقوانين البلاغية في اعتبار تناسب التركيبات…”[3].

وقد استدل على صحة ما ذهب إليه بقوله: “إذ الدليل يقوم على أنهم لم يوقعوا الوتد المفروق ولا السبب الثقيل في نهاية جزء خماسي ولا سباعي ولا فيما فوق ذلك…”[4]، وقال في موضع آخر: “فالسبب الثقيل والوتد المفروق لا يقعان في نهاية جزء؛ وإنما يقعان في صدور الأجزاء وتضعيفها”[5]، وفي هذا القول إشارة واضحة إلى جزء “مفعولاتُ” الذي ينتهي بوتد مفروق، والذي ذهب فيه عدد من العروضيين القدامى والمحدَثين إلى أنه جزء غير صحيح؛ أي: إنه جزء غير عروضيٍّ بتعبير المتأخرين.

وعليه؛ فواضح من كلام حازم أن العروضيين قد جانبوا الصواب في وضع هذه الأجزاء، ويقترح بدلًا من الجزأين “فاعلاتُ مفتعلنْ”، “فاعلن مفاعلتن” ويتساءل في الأخير قائلًا: “فكيف يوضع المتضادان وضع المتماثلين في ترتيبٍ يُقصد به تناسب المسموع، والتنظيرُ بين الأجراء المتماثلة في الوضع، وأن يجعل عمود اللحن؟!

فلهذا ينبغي ألا يلتفت إلى ما وضعه أو غيَّرَه العروضيون أو الرواة من الأبيات التي تدفعها المقاييسُ البلاغية، والقوانين الموسيقية، والأذواق الصحيحة، في هذا الوزن وغيره”[6].

أما البحر السريع الذي ينتهي بهذا الجزء (المريض)، فقد اعتبره حازم من البحور المتركبة من الأجزاء السباعية المغايرة التي تبنى على تغاير أجزائها، وقد أسلمه الحديث عن هذا البحر إلى التكلم عن الأرجل، التي تعني بالتقريب عند “الأستاذ الوادي” “المقاطع”، حيث إن هذه الأرجل هي التي تتكون منها أجزاء جميع الأوزان، ولا يكاد جزء من الأجزاء يخرج عنها، وهي ستة أصناف:

1- سبب ثقيل، وهو: متحركان؛ نحو: لَكَ/ مِنَ.

2- وسبب خفيف، وهو: متحرك بعده ساكن؛ نحو: منْ/ عنْ.

3- وسبب متوالٍ، وهو: متحرك يتوالى بعده ساكنان؛ نحو: قالْ؛ بتسكين اللام.

4- وتد مفروق، وهو: متحركان بينهما ساكن؛ نحو: كَيْفَ/ أَيْنَ.

5- وتد مجموع، وهو: متحركان بعدهما ساكن؛ نحو: لَقَدْ.

6- وتد متضاعف، وهو: متحركان بعدهما ساكنان؛ نحو: مَقَالْ؛ بتسكين اللام[7].

وقد حدَّد حازم بعد حصرِ هذه الأجزاء وعدِّها مواطنَ استعمال كلِّ رِجلٍ منها، ليخلص إلى أن العرب قد بَنَتْ أكثر أعاريضها من الأسباب الخفيفة والأوتاد المجموعة، ومثَّل لذلك بكلٍّ من الطويل والمديد والبسيط والرجز والهزج والرمل والمتقارب.

أما النوع الخامس من أجزاء الأوزان الشعرية المتركب من أجزاء سباعية وتساعية، فربط حازم ظهوره بشعراء المشرق، وهذا البحر “هو الذي يسمونه “الدُّبيتي”، وشطره المستعمل: مستفعلتن مستفعلن مفتعلن، نحو قول القائل:

هذَا وَلهِي وَكَمْ كتمتُ الوَلَهَا = صَونًا لِحديثِ مَنْ هَوَى النفْسِ لَهَا

يا آخِرَ مَحبتِي وَيَا أَوَّلَهَا = أَيَّامُ عَنائِي فِيكِ مَا أَطْولَهَا

فأما النوع الأخير من هذه الأجزاء والمتركب من الأجزاء الخماسية والسباعية والتساعية، فقد مثَّل له بالبحر المنسرح؛ حيث يقول: “وهذا الوزن هو المنسرح، وبناء شطره: مستفعلاتن مستفعلن فاعلن، والخبن في فاعلن في العروض أحسن”[8].

وبعد انتهاء حازم من حصر هذه الأجراء التي بُنيت أوزان الشعر عليها، والتي لا يكاد وزن يخرج عنها، والتمثيل لهذه الأجزاء بما يوافقها من البحور الشعرية، والاستشهاد على ورود ذلك بالشعر العربيِّ الصحيح الثابت وضعًا، انتقل إلى الحديث عن البحور الشعرية التي ثبت وضعها عن العرب، والتي حصرها في أربعة عشر وزنًا، في حين وضع بحر الخبب موضع شك، يقول: “والذي يُشك في وضع العرب له هو الخبب”[9].

أما بحر الدبيتي، فقد نفى عنه أن يكون من وضع العرب، “والذي لم يثبت للعرب أصلًا، بل هو من وضع المحدَثين، الوزن الذي يسمى الدبيتي، ولا بأس بالعمل عليه؛ فإنه مستطرف ووضعه مناسب”[10].

وعليه؛ فالوزن المتبقي من أوزان الخليل الستة عشر هو وزن المضارع، وقد اعتبره حازم بحرًا مختلقًا على العرب.

وقد تحدَّث حازم – فيما بعد – في موطن آخر عن فكرة تعتبر في غاية الأهمية عنده، إنها فكرة التناسب بين الأجزاء الشعرية؛ حتى يكون النظم ملائمًا للنفوس، لا منافرًا لها؛ لذلك نراه يسعى إلى تحديد ما يُساغ في الأوزان من التغايير وما لا يساغ، ومميزًا فيما يساغ بين الحسن والأحسن… لينتقل بعدها في المعلم الموالي للحديث عما يوافق كلَّ غرض شعريٍّ من الأوزان، كما كان عند اليونان؛ حيث “كانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزنًا يليق به، ولا تتعداه فيه إلى غيره”[11]، حيث يقول: “ومن تتبَّعَ كلام الشعراء في جميع الأعاريض، وجد الكلام الواقع فيها تختلف أنماطه بحسب اختلاف مجاريها في الأوزان”[12].

خلاصات:

إن أُولى النتائج التي يمكن الخروج بها من هذا البحث المتواضع هو أن مفهوم الجزء العروضيِّ حاضرٌ عند حازم بدل مفهوم التفعيلة الذي تواضَعَ عليه جمهور العروضيين القدامى.

مخالفة حازم لكل العروضيين في تحديد أجزاء الشعر العربي، حيث تجاوز عدد الأجزاء من جزأين إلى ثلاثة أجزاء، مضيفًا بذلك الجزء التساعي، مع ذكر البحور التي تركبت منه.

وضعه للبناء الذي تبنى عليه كلُّ أجزاء الشعر العربي، والتي حصرها في ستة أرجل/ أنواع، مضيفًا بذلك رِجلين، هما: السبب المتوالي، والوتد المتضاعف.

تشاطر حازم مع عدد من العروضيين الرأيَ في عدم صحة جزء “مفعولاتُ”؛ لأنه ينتهي بوتد مفروق.

تفرُّده بفكرة التناسب بين أجزاء الأوزان الشعرية للحصول على الإيقاع المرغوب فيه الذي يكون موافقًا للنفوس، وإن كنا لا ننفي وجود إشارات لهذه الفكرة عند الفيلسوف ابن سينا قبل حازم القرطاجني.

تحديده للتغيرات المستحسنة من الزحافات والعلل في الأجزاء الشعرية لتحقيق التناسب بينها.

حصره للبحور الثابت قطعًا وضعُها من طرف العرب، والبحور التي ليست من وضعهم، انطلاقًا من القوانين التي يحدِّدها مبدأُ التناسب بين الأوزان.

وجود إشارات لمفهوم الإيقاع في الشعر بالمعنى الذي اطرد عند الدارسين المحدَثين، مما يدل على تقدم نظريته في العروض العربي، حيث يعرِّف الوزن بقوله: “والوزن هو أن تكون المقادير المقفاة تتساوى في أزمنة متساوية؛ لاتفاقها في عدد الحركات والسكنات والترتيب“.

انتهى بحمد الله.

 


[1] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثالثة، 1986، ص227.

[2] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثالثة، 1986، ص230.

[3] المرجع السابق. ص234.

[4] المرجع السابق. ص234.

[5] المرجع السابق. ص236.

[6] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثالثة، 1986، ص235.

[7] المرجع السابق. ص236.

[8] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثالثة، 1986، ص242.

[9] المرجع السابق. ص243.

[10] المرجع السابق. ص243.

[11] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثالثة، 1986، ص266.

[12] المرجع السابق. ص268.

ترك تعليق