بوطاهر بوسدر

المعايير النصية: الاتساق والانسجام

إن النص ليس مجرد متواليةٍ لسانية، أو مجموعة كلمات مجتمعة كيفما اتَّفق، وبدون ترتيبٍ وتنظيم، بل هو بناء لسانيٌّ مُحكم، وكما قال برينكر brinker.H فالنص هو: “تتابُع متماسك من علامات لغوية”[1].

وهو يتطلب تحقُّق مجموعة من الخصائص أو الشروط الضرورية ليَستحق اسم “نص“، ومن أهم هذه الشروط أو الخصائص ما نجده عند بوجراند ودريسلر اللذين عرَّفا النص بأنه: “حدَثٌ تواصليٌّ تتحقق نصيَّته إذا اجتمعتْ له سبعةُ معايير، وهي: الربط (الاتساق)، والتماسك (الانسجام)، والقصدية، والمقبولية، والإخبارية (الإعلامية)، والموقفية، والتناص”[2].

إن هذه المعايير هي ما يُميِّز النص عن اللا نص، فهي التي تُحقِّق نصية النصوص، وبذلك تكون النصية مجموعةً من السمات التي تجعل ملفوظًا ما أو متتالية لغوية نصًّا، وتنقسم هذه المعايير إلى معايير مرتبطة بالنص في ذاته (الاتساق والانسجام)، ومعايير مرتبطة بالمؤلف والمتلقي (القصدية والإعلامية والتقبلية)، ومعايير مرتبطة بالسياق الخارجي (الموقفية والتناص)، وهذا المقال سيحاول إضاءة بعض الجوانب من معيار الاتساق ومعيار الانسجام عند العرب وعند الغربيين، أما بقية المعايير فنَعرض لها في مناسبة أخرى إن شاء الله.

أولًا: الاتساق cohésion:

الاتساق يعود في اللغة العربية إلى عدة معانٍ؛ منها: الحمل والجمع والضم، والانتظام والتمام والكمال، فاتَّسق؛ “أي: اجتمع، واتَّسق الأمر؛ أي: تَمَّ وتكامَل”[3]، و”كل ما انْضَمَّ: فقد اتسق، والطريق يَأْتسق، ويتَّسق: أَي يَنْضَم”[4]، و”الاتساق الانضمام والاستواء؛ كما يتَّسق القمر إذا تمَّ واستوى، واستوسقت الإبل: إذا اجتمعت وانضمَّتْ”[5].

أما في الاصطلاح، فهو قريب من الدلالة اللغوية؛ حيث نجد أنه تماسُكٌ بين عناصر النص يَسمح بتلقِّي النص وفهْمه، وذلك من خلال العديد من العناصر اللغوية التي تُحقِّق نصية النص، بالإضافة إلى تميُّزه بدلالة جامعة تُحقق وَحدته النصية الكلية؛ أي: ما يجعله نصًّا باعتباره “وَحدةً لغوية مُهيكلةً، تَجمع بين عناصرها علاقاتٍ وروابطَ معينة”[6].

فالاتساق كما يقول محمد خطابي هو: “ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنص أو خطاب ما، ويهتم فيه بالوسائل اللغوية (الشكلية) التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب أو خطاب برُمَّته”[7].

ويُعرف مفهوم الاتساق بمصطلحات كثيرة؛ منها: السبك والربط والتماسك، وتَجدر الإشارة إلى أن محمد مفتاح في كتابه “التلقي والتأويل” جمَعَ تحت مصطلح التماسك مجموعةً من المفاهيم المتقاربة، ومنها التنضيد والاتساق والانسجام والتشاكُل[8].

لقد اهتمَّ العرب قديمًا بمفهوم الاتساق، فالبلاغيون عمَدوا في دراساتهم إلى الكشف عن الترابط الذي يكون بين عناصر النص ومكوناته؛ مثلما نجد عند حازم القرطاجني (ت684 هـ) الذي يقول متحدثًا عن الكلام في الشعر: “فأما المتصل العبارة والغرض، فهو الذي يكون فيه لآخر الفصل بأول الفصل الذي يتلوه – علاقةٌ من جهة الغرض، وارتباطٌ من جهة العبارة”[9]، وهذا هو عينُ الاتساق والانسجام كما يُعرفان اليوم.

ولعل نظرية النَّظْم كما عند الإمام عبدالقاهر الجُرجاني – تعتبر من أكثر الأدلة على اهتمام العرب بقضية الاتساق في النصوص، فهو قد نظَر إلى القرآن الكريم نظرةً شاملة باعتباره نصًّا واحدًا، متسائلًا عن سر إعجازه للعرب، كما يمكن اعتبار بحث علماء القرآن عن المناسبة بين السور والآيات بحثًا عن الاتساق، وقد ألَّفوا في ذلك كثيرًا ضمن كتب علوم القرآن، كما نجد عند السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن[10].

إن للاتساق ثلاثةَ أنواع: اتساق نحوي، ومعجمي، وصوتي، وله وسائل وأدوات كثيرة يتحقَّق بها في النصوص، وأهمُّها الإحالة والاستبدال، والوصل، والاتساق المعجمي، والتَّكرار:

1- الإحالة: هي إشارة عنصر داخل النص إلى عنصر آخرَ، وتتحقق بمجموعة من العناصر؛ مثل: أسماء الإشارة، والضمائر، وأدوات المقارنة.

وتنقسم الإحالة من جهةٍ إلى إحالة مقامية خارج النص، وإحالة نصية داخل النص، وتنقسم من جهة أخرى إلى إحالة قبلية تشير وتُحيل على شيء سابق، وإحالة بعدية تُحيل على شيء لاحق.

2- الاستبدال: هو استبدال عنصر لغوي بعنصر آخر له نفس المدلول، فهو إذًا ذو طبيعة معجمية ونحوية، “وينقسم الاستبدال إلى ثلاثة أقسام: الاستبدال الاسمي، والاستبدال الفعلي، والاستبدال القولي”[11].

3- الربط: هو الطريقة التي تترابط بها أجزاء النص اللاحقة والسابقة بشكل منظم ومتماسك، وله وسائل؛ منها: العطف، الذي يعتبره ديفيد كريستال من أهم وسائل الاتساق، فهو أول وسيلة يتَّسق بها النص، ثم تأتي بعده الوسائلُ الأخرى؛ كالإحالة والتكرار، والعلاقات المعجمية[12].

4- الاتساق المعجمي: يتحقق هذا الاتساق من خلال وسيلتين؛ هما: التَّكرار[13] والتضامُّ؛ فالأُولى هي “شكل من أشكال الاتساق المعجمي يتطلب إعادة عنصرٍ معجمي، أو ورود مرادفٍ له، أو شِبه مرادف، أو عنصرًا مطلقًا، أو اسمًا عامًّا”[14].

أما الثانية، فهي “توارُد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة؛ نظرًا إلى ارتباطهما بحكم علاقة من العلاقات”[15]؛ كعلاقة التضاد والتنافر، وعلاقة الجزء بالكل.

5- الاتساق الصوتي: يتحقق هذا النوع بالسجع والجناس، والتوازي الصوتي والصرفي.

ثانيًا: الانسجام Cohérence:

الانسجام في اللغة أصله مِن السيلان، “وصب الشيء من الماء والدمع”[16]، ثم نُقِل بالمجاز لمعاني التوافق، والتناسب، والتلاؤم، والتناسق، والانتظام، وقد أُضيفت هذه المعاني إلى الكلام، فأصبح انسجام الكلام يعني توافُقَ أجزائه وعدم تعارُضِها، فالكلام المنسجم هو الذي “انتظم ألفاظًا وعباراتٍ مِن غير تعقيد، وكان سلسًا أنيقًا، متوافقًا في الأفكار والشعور والميول”[17]، و”يكاد يسيل رِقةً لعدم تكلُّفه … وقد أطلَق السيوطي هذا الاسم على النثر المقفَّى الذي يُشبه الشعر، وإن لم يَقصِد كاتبُه ذلك”[18].

أما في الاصطلاح، فالانسجام له عدة ترجمات في اللغة العربية، أشهرها الحَبْكُ، والتماسك الدلالي والتنسيق، كما نجد عند محمد مفتاح، وهو يُعرِّفه “بالعلاقات المعنوية والمنطقية بين الجمل؛ حيث لا تكون هناك روابطُ ظاهرة بينها”[19].

وأكَّد محمد خطابي أن الانسجام أعمُّ من الاتساق وأعمقُ؛ “بحيث يتطلب بناء الانسجام من المتلقي صرفَ الاهتمام جهة العلاقات الخفية التي تنظم النص وتُولده”[20].

ويُعد محمد خطابي من الباحثين العرب[21] الذين حاوَلوا رصدَ ظاهرة الانسجام في الشِّعر الحديث، كما فعَل في تحليله لقصيدة أدونيس المُعنونة بفارس الكلمات الغريبة[22].

إلا أن الغربيين لم يهتموا بالظاهرة في الشعر؛ حيث ركَّزوا على نوعين خطابيَّين: “التخاطب والسرد التقليدي البسيط الذي يسير وَفق مجرى حدثي نمطي”[23]؛ إيمانًا منهم بخصوصية الشِّعر وتجاوزه للنموذج والمعيار، خاصة الشعر الحديث.

يعتمد الانسجام على عمليات ضمنية غير ظاهرة، يُوظِّفُها المتلقي لقراءة النص وبناء انسجامه؛ مثل: السياق ومبدأ التأويل المحلي، ومبدأ التشابه والتغريض، والمعرفة الخلفية، وغيرها:

1- السياق: تعد معرفة السياق الذي يظهر فيه النص حاسمةً في تأويل المتلقي، فالسياق “يَحصر مجال التأويلات الممكنة … ويَدعَم التأويل المقصود”[24]، وهو يشمل المتكلم أو الكاتب، والمستمع أو القارئ، والزمان والمكان، فللسياق “دور حاسمٌ في تواصلية الخطاب، وفي انسجامه بالأساس”[25].

2- مبدأ التأويل المحلي: يُعد هذا المبدأ تقييدًا لتأويل المتلقي من خلال خصائص السياق، فالمتلقي لا ينتج تأويلًا بعيدًا عن السياق، ما دام السياق لا يُقدِّم مؤشرًا لتأويل آخر، فمثلًا في قولنا: ذهبتُ إلى بيت الأسرة، وتحدَّثت مع الأب، يَفرض مبدأ التأويل المحلي أن الأب هو أب الأسرة التي ذهبتُ إليها، وليس أب أسرةٍ أخرى، فالمتلقي هنا لا يفترض تأويلًا لا يدل عليه السياق.

3- مبدأ التشابه: يقوم هذا المبدأ على تشابُه النصوص، وتراكُم تلقِّيها عند المتلقي؛ حيث يصبح بإمكانه أن يَفترض أو يتوقع تأويلًا ما لنصٍّ معين، انطلاقًا مِن استحضار تَلقٍّ سابقٍ لنصٍّ آخرَ، “فتراكُم التجارب (مواجهة المتلقي للخطابات)، واستخلاص الخصائص والمميزات النوعية من الخطابات – يقود القارئ إلى الفَهم والتأويل؛ بناءً على المعطى النصيِّ الموجود أمامه، ولكن بناءً أيضًا على الفهم والتأويل في ضوء التجربة السابقة؛ أي: النظر إلى الخطاب الحالي في علاقة مع خطابات سابقة تُشبهه، أو بتعبير اصطلاحي: انطلاقًا مِن مبدأ التشابه”[26].

4- التغريض: يعتمد مبدأ التغريض على استناد المتلقي لثيمة النص من أجل تكوين تأويلٍ معين، ولو كان تأويلًا أوليًّا، والثيمة هي بداية قول ما، فقد تكون العنوان أو جملة البداية … ولها تأثير على تأويل المتلقي، فإذا تغيَّر مثلًا عنوان نصٍّ أو خطابٍ ما، فقد يتغيَّر تأويلُ المتلقي له تكيُّفًا مع العنوان الجديد.

5- المعرفة الخلفية: تتشابه مع مبدأ التشابه؛ حيث تعتمد على زاد القارئ والمتلقي المرتبط بالنص نوعًا وشكلًا ومضمونًا، وغير ذلك.

 

 


[1] نقلًا عن: سعيد بحيري، علم لغة النص: المفاهيم والاتجاهات، مكتبة لبنان ناشرون – لونجمان، ط 1، 1977 ص 108.

[2] المرجع نفسه، ص 146.

[3] إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي، (ت: 350هـ) ، معجم ديوان العرب؛ تح: أحمد مختار عمر، مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، بدون طبعة، 2003، ج3، ص280.

[4] أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي (ت: 458هـ )، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق: عبدالحميد هنداوي، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 2000، ج6، ص529.

[5] أبو علي القالي (ت:356 هـ)، البارع في اللغة، تح: هشام الطعان، مكتبة النهضة بغداد – دار الحضارة العربية بيروت، ط1، 1975، ص493.

[6] محمد الأخضر الصبيحي، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، الدار العربية للعلوم، ناشرون، منشورات الاختلاف، ط1، 2008ص 80.

[7] – محمد خطابي، لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1991، ص5.

[8] ينظر محمد مفتاح، التلقي والتأويل، ص 157 وما بعدها.

[9] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تح: محمد الحبيب ابن الخوجة، د. ت، د. ط، دار الكتب الشرقية، ص 290.

[10] ينظر : سيبويه، الكتاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1974، ج3، ص 369.

[11] المرجع نفسه، ص 73.

[12] David Crystal, the Cambridge encyclopedia of language.119p

[13] قد يكون التكرار تامًّا بإعادة الكلام نفسه لفظًا ومعنًى، وجزئيًّا باستخدام تنوُّعات الجذر اللغوي، كما يكون التكرار بالترادف أو شبهه، أو بإعادة الصيغة الصرفية.

[14] محمد خطابي، لسانيات النص، ص 179.

[15] المرجع نفسه، ص 25.

[16] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبدالسلام هارون، دار الفكر، دون طبعة، 1979م، ج3، ص 137.

[17] أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، عالم الكتب، الطبعة 1، 2008م، ج2، ص 1037.

[18] رينهارت بيتر آن دوزي، تكملة المعاجم العربية، ترجمة ج 1، 8، محمد سليم النعيمي، ج 9، 10، جمال الخياط، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، الطبعة 1، من 1979 – 2000 م، ج6، ص 36.

[19] محمد مفتاح، دينامية النص: تنظير وإنجاز، المركز الثقافي العربي، ط1، 1987، ص 151.

[20] محمد خطابي، لسانيات النص، ص5.

[21] قد وقفت على دراسة للدكتور صالح عبدالعظيم الشاعر، درَس فيها السبك والحبك في شعر الجواهري بعنوان: النحو وبناء الشعر في ضوء معايير النصية، دار الحكمة، مصر، ط1، 2013.

[22] ينظر محمد خطابي، لسانيات النص، الباب الثالث: التحليل والمناقشة، ابتداءً من الصفحة 209.

[23] المرجع نفسه، ص6.

[24] بروان ويول، تحليل الخطاب، ص 37، نقلًا عن محمد خطابي، لسانيات النص، ص 52 .

[25] محمد خطابي، لسانيات النص، ص 56.

[26] المرجع نفسه، ص 58.

ترك تعليق