الإيجاز والإطناب والمساواة في البلاغة
شرح دروس البلاغة للشيخ محمد بن صالح العثيمين
تحقيق الأستاذ أشرف بن يوسف (12)
كل ما يجول في الصدر من المعاني يمكن أن يعبر عنه بثلاث طرق:
١ – المساواة: وهي تأدية المعنى المراد بعبارة مساوية له، بأن تكون على الحد الذي جرى به عرف أوساط الناس، وهم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلاغة، ولم ينحطوا إلى درجة الفهامة، نحو: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ﴾ [الأنعام: 68].
♦ ♦ ♦
(1) هذا أيضًا من الأمور المهمة، وهي: هل الأولى في الكلام: الإطناب، أو الأولى القصر والاختصار، أو الأولى التسوية؟ هذا يرجع إلى ما تقتصيه الحال.
(2) هذا من جنس اللقطة؛ فهي تتبعها همة أوساط الناس[1].
٢ – والإيجاز: وهو تأدية المعنى بعبارة ناقصة عنه، مع وفائها بالغرض، نحو: ((إنما الأعمال بالنيات)).
♦ ♦ ♦
(١) مثَّل المؤلف رحمه الله تعالى على الإيجاز مع وضوح المعنى بقوله: ((إنما الأعمال بالنيات)) [2]، فهذا إيجاز، لكنه واضح.
ومثله أيضًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد))[3]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت))[4]، فهذا إيجاز مع وضوح المعنى.
و:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل
فإذا لم تفِ بالغرض، سمي إخلالًا؛ كقوله:
والعيش خيرٌ في ظلا ♦♦♦ ل النوك ممن عاش كدَّا
مراده: أن العيش الرغد في ظلال الحمق خير من العيش الشاق في ظلال العقل (1).
♦ ♦ ♦
(١) هذا مخلٌّ، ولا يفهم معناه أحد، وهو مع ذلك غير مسلَّم، ونحن نرى أن العيش في ظلال العقل، وإن كان شاقًّا: خير من العيش في ظلال النوك – أي: الترف والتنعم – لكن أكثر الناس كالأنعام، يريد أن يعيش في ترف ورخاء، وإن كان عيشه ليس مبنيًّا على عقل.
والخلاصة الآن: أن الإيجاز هو أن يأتي بعبارة ناقصة، مع وفائها بالغرض.
وهذا النقص قد يكون نقصًا في الجمل، وقد يكون نقصًا بالحذف؛ يعني: تحذف، وهذا أكثر ما يكون في القصص في القرآن الكريم.
فتأمَّلْ – على سبيل المثال – قصة يوسف، أو قصة موسى عليهما الصلاة والسلام، تجد فيهما حذفًا كثيرًا، وهذا ما نسميه إيجازًا.
٣ – والإطناب: وهو تأدية المعنى بعبارة زائدة عنه، مع الفائدة، نحو: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: 4]؛ أي: كبِرْتُ.
فإذا لم تكن في الزيادة فائدة، سمي تطويلًا إن كانت الزيادة غير متعينة، وحشوًا إن تعينت.
فالتطويل، نحو:
………………. وألفى قولها كذبًا ومينًا
والحشو نحو:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله (1)………………….
♦ ♦ ♦
(1) فالإطناب هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عنه – أي: عن المعنى – مع الفائدة، فإن لم يكن فائدة، سمي تطويلًا إن كانت الزيادة غير متعينة، وحشوًا إن تعينت الزيادة.
فعلى سبيل المثال: قوله تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4]، هذا كناية عن كبر السن، ولو قال: ربي إني كبرت، لصح الكلام، وحصل المقصود، لكنه أراد أن يبين الدلالة الواضحة على كبره بالجمع بين هذين الأمرين؛ وَهَن العَظَم، واشتعال الرأس شيبًا.
ولو أن أحدهما تخلف، فليس دليلًا على الكبر؛ لأنه ربما يهن العظم من مرض مع صغره، وربما يشتعل الرأس شيبًا مع صغره، وهذا واقع، ولكن إذا اجتمعا، كان ذلك دليلًا على الكبر.
وقوله رحمه الله: فإذا لم تكن في الزيادة فائدة سمِّي تطويلًا إن كانت الزيادة غير متعينة، وحشوًا إن تعينت.
ومثال التطويل: قول الشاعر:
وألفى قوله كذبا ومَينًا
قوله: مَينًا، معناه كذبًا، وأيهما الزائد، كذبًا أم مينًا؟
الجواب: إن كانت الزيادة غير متعينة، فإننا لا ندري أهي الأولى أم الثانية؟
فلو قال: وألفى قولها كذبًا، صح، ولو قال: وألفى قولها مَينًا، صح.
فلا ندري: أيهما الزائد؟
وقد يقول قائل: إن الزائد هو الثاني؛ لأنه لو اقتصر على (كذبًا) استغنى عن الثاني؟
فيقال في الجواب عن ذلك: إن الواو – التي هي حرف العطف – تقتضي التشريك، إن كانت تقتضي التشريك، صارت الكلمتان كأنهما كلمة واحدة، وأحدهما يستغنى عنه، ولا يعلم أيهما.
ومثال الحشو: قول الشاعر:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
هذا صدر بيت، وعجزه قوله:
ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ
فكلمة (قبله) لا حاجة لها، وهي الزائدة قطعًا؛ لأن كلمة (الأمس) تغني عنها، وليس بينهما حرف عطف حتى نقول: إن هناك اشتراكًا.
والخلاصة الآن: أنه إن زاد اللفظ على المعنى، فهو إطناب، وإن كان المعنى أكثر، فهو إيجاز، وإن تساوى اللفظ والمعنى فهو مساواة، وهذا هو الأكثر في الكلام[5].
وإذا لم تكن في الزيادة فائدة، سمي تطويلًا إن كانت الزيادة غير متعينة، وحشوًا إن تعينت[6].
ومن دواعي الإيجاز: تسهيل الحفظ، وتقريب الفهم، وضيق المقام والإخفاء، وسآمة المحادثة (1).
ومن دواعي الإطناب: تثبيت المعنى، وتوضيح المراد، والتوكيد، ودفع الإيهام (2).
♦ ♦ ♦
(١) فأسباب الإيجاز كثيرة، ومنها:
١ – تسهيل الحفظ: ولذلك صار العلماء رحمهم الله يختصرون الكتب المطولة.
٢ – تقريب الفهم: ولربما إذا طال الكلام يُنسِي آخرُه أوله، فإذا صار قصيرًا فهمه الإنسان.
٣ – ضيق المقام: بأن يكون الإنسان عجلًا، لا يستطيع التطويل؛ لأن المقام لا يقتضيه.
٤ – الإخفاء: يعني: أنه يحذف بعض الأمور؛ إخفاءً لها.
٥ – سآمة المحادثة: وذلك يعني أن الذي تحادثه سئم منك، وأنت تشعر بهذا، إذا أخذ يقول لك: كفى، فأنت تتحدث، وهو يقول: كفى، وأنت تسأله عن حاله وحال أولاده، وهو يقول لك: كفى، فهنا يحسن الإيجاز؛ ولهذا ينبغي إذا خاطبنا الناس الذين عندهم أشغال كثيرة ألا نطيل عليهم، بل نختصر لهم الحديث اختصارًا.
(2) ومن دواعي الإطناب أيضًا: بلاهة المخاطب؛ بأن يكون المخاطب أبله يحتاج أن تطيل له، تأتي بالمرادف وبالتوكيد حتى يفهم، ولعله داخل في قول المؤلف: توضيح المراد.