لغة الجرائد (1)

تقدم لنا في الجزء الأول من مجلة الضياء كلام في بيان موضع الجرائد من الأمة، وما لها من التأثير في مداركها وأذواقها وآدابها ولغتها وسائر ملكاتها، ولا سيما مع كثرتها وانتشارها في عهدنا الحالي حتى أصبحت بحيث تصدر الألوف منها كل يومٍ وتوزع بين أيدي القراء؛ فيتناول كل قارئ منها على حسب وسعه واستعداده، وليس من ينكر أن ذلك كان سببًا في انتشار صناعة القلم عندنا، وتدريب الكتَّاب على أساليب الإنشاء، واقتباسهم صور التراكيب المختلفة، وإحياء كثير من اللهجة الفصحى حتى بين عامة الكتَّاب؛ مما آذن بانتعاش اللغة من كبوتها وأحيا الآمال في عودها إلى قديم رونقها، بل إذا تفقدت الجرائد أنفسها وجدتها قد انتقلت إلى طور جديد من الفصاحة وجزالة التعبير، كما تتبين ذلك من المقابلة بين حال الكثير من جرائدنا اليوم وما كانت عليه عامة الجرائد منذ نحو عشر سنوات أو دونها. والفضل في ذلك — ولا شك — عائدٌ إلى هذه الكثرة نفسها بما نشأ عنها من المباراة بين الأقلام، وازدحام القرائح في حلبات السبق، فضلًا عما تهيأ بها من انتشار أسلوب الفصاحة ورسوخ ملكة الإنشاء.

بيد أننا مع ذلك كله لا نزال نرى في بعض جرائدنا ألفاظًا قد شذَّت عن منقول اللغة؛ فأُنزلت في غير منازلها أو استُعملت في غير معناها؛ فجاءت بها العبارة مشوهة وذهبت بما فيها من الرونق وجودة السبك، فضلًا عما يترتب على مثل ذلك من انتشار الوهم والخطأ، ولا سيما إذا وقع في كلام من يوثق به؛ فتتناوله الأقلام بغير بحث ولا نكير. ولا يخفى أن الغلط في اللغة أقبح من اللحن في الإعراب، وأبعد عن مظانِّ التصحيح لرجوعها إلى النقل دون القياس؛ فيكون الغلط فيها أسرع تفشيًا وأشد استدراجًا للسقوط في دركات الوهم.

والعجب هنا أنك كثيرًا ما ترى أناسًا من متقدمي الكتَّاب وذوي القدم الراسخة في اللغة والإنشاء يعتمدون أحيانًا على التقليد، وربما قلدوا من هو دونهم من أصاغر أهل الصناعة؛ حتى فشا النقل بين تلك الطبقات كلها، وأصبح كثيرٌ من ألفاظ الجرائد لغةً خاصةً بها تقتضي معجمًا بحاله. ولما كان الاستمرار على ذلك مما يُخاف منه أن تفسد اللغة بأيدي أنصارها والموكول إليهم أمر إصلاحها، وهو الفساد الذي لا صلاح بعده، رأينا أن نفرد لذلك هذا الفصل نذكر فيه أكثر تلك الألفاظ تداولًا، وننبه على ما فيها، مع بيان وجه صحتها من نصوص اللغة، وفي يقيننا أن وصفاءنا الأفاضل يتلقَّون ذلك منا خدمة إخلاص لهم لا نقصد بها إلا المحافظة على اللغة وصيانة أقلامهم من مثل هذه الشوائب، مع كفايتهم مئونة البحث والتنقيب في كتب اللغة على ما هو معلوم من وعورة مسلكها وشكاسة ترتيبها، مما كان ولا شك هو السبب في تجافيهم عن مراجعتها واستثبات صحة تلك الألفاظ منها. والله نسأل أن يوردنا جميعًا موارد الصواب بفضله — عز وجل — وحسن تسديده.

فمن تلك الألفاظ لفظة التحوير التي لم يبقَ كاتب جريدة ولا مؤلف كتاب إلا وردت في كلامه مئات من المرار يريدون بها معنى التنقيح والتعديل والتهذيب وما جرى هذا المجرى، وذلك في الكلام على الشروط والمعاهدات والأحكام وأشباهها. ولم ترد هذه اللفظة في شيء من كتب اللغة بمعنى من هذه المعاني؛ إنما التحوير في اللغة بمعنى التبييض، يقال: حوَّر الثوب إذا قصَّره وبيَّضه، ومنه الحُوَّارَى للدقيق الأبيض، وهو لباب البُرِّ وأجوده وأخلصه، وقد حوَّر الدقيق إذا بيَّضه، وغالب ألفاظ هذه المادة يرجع إلى معنى البياض، فما ضرَّ لو استعملوا في مكان هذه اللفظة إحدى الكلمات التي ذكرناها في مرادفها.

ومن ذلك قولهم: تقدم إليه بكذا، يعنون رغب إليه فيه وسأله قضاءه، وإنما يقال: تقدم إليه بمعنى أوعز إليه وأمره، تقول: تقدم الأمير إلى عامله أن يفعل كذا وكذا، فهو على عكس المعنى الذي يريدونه كما ترى.

ومن ذلك قولهم: شكر له على إحسانه، وشكر لإحسانه، وشكر له لإحسانه؛ صورٌ لا تكاد تتعداها كتابات الأكثرين، وكلها حائدة عن الصواب. قال في تاج العروس: شكره وشكر له، وشكرت الله وشكرت لله وشكرت بالله، وكذلك شكرت نعمة الله وشكرت بها. وفي البصائر للمصنف: يقال شكرته وشكرت له، وباللام أفصح. ا.ﻫ. وفي لسان العرب قريب منه، وهو لا يخلو من إبهام وقصور. وأحسن منه وأوضح تفصيلًا ما جاء في الأساس قال: شكرت لله نعمته، واشكروا لي. وقد يقال: شكرت فلانًا يريدون نعمة فلان … ا.ﻫ. فعُلم من صريح عبارته أن الشكر يعدَّى إلى المشكور له — أي المنعم — باللام، وإلى المشكور به — أي النعمة — بنفسه؛ تقول: شكرت لزيد صنيعته، بجر الأول ونصب الثاني، وهو الأشهر في أصل استعمال هذا الحرف، ثم يجوز لك أن تحذف أحد المتعلقين فتقول: شكرت لزيد وشكرت صنيعة زيد، ويجوز أن تقول: شكرت زيدًا، على تقدير مضاف محذوف؛ أي: صنيعة زيد. وأما تعديته إلى المشكور به بعلى فيجوز على تضمين الشكر معنى الحمد، وحينئذٍ تمتنع اللام فتقول: شكرته على إحسانه، كما تقول: حمدته على إحسانه؛ للمطابقة بين الاستعمالين؛ فتأمل.

ومن ذلك قول بعضهم: مزق الكتاب إربًا إربًا، وقطع الحبل إربًا إربًا؛ أي: قطعة قطعة. وأكثرهم يقرؤها: أرَبًا أرَبًا، بفتحتين، وليس شيء من ذلك بصواب، إنما يقال: قطعت الذبيحة إرْبًا إرْبًا، بكسر الهمزة وسكون الراء، أي: إربًا فإربًا. ومعنى الإرب العضو؛ فهو خاص بما له أعضاء، ولا يجوز استعماله للكتاب والحبل وأمثالهما. وأما الأَرَب — بفتحتين — فمعناه الحاجة.

ترك تعليق