الاستغناء في النحو العربي

الاسْتِغْنَاءُ لغةً: يُقال فيه: الغَنَاء؛ مثل الاكتفاء، وليس عنده غَنَاءٌ؛ أي: ما يغْتنِي به يُقال: غَنيتُ بكذا عن غيره، من باب (تَعِبَ) إذا استغنيتَ به[1]، والاستغناء مصدر من الفعل استغنى، وهو يدلُّ على القَصْدِ والتَّعَمُّدِ.

الاسْتِغْنَاءُ اصْطِلاحًا: لقد كان النُّحَاةُ أحيانًا في درسهم يصفون الظاهرة اللغوية ويرصدونها ويدرسونها دون أن يضعوا لها تعريفًا جامعًا مانعًا أو مصطلحًا علميًّا كما نعرفه في حاضرنا، ولقد ورد لدي كثير من النحاة مصطلح الاستغناء مِنْ لَدُنْ سيبويه إلى يومنا هذا، ومن ذلك ما ذكره سيبويه عن العرب في هذا الشأن: “ويستغنون بالشَّيءِ عنْ الشَّيءِ الذي أصله في كلامِهِمْ أن يُستعمل حتَّى يصيرَ ساقطًا[2]“. ومنه ما ذكره ابن الأنباري: “قد يُستغنى بالحرفِ عن الحرفِ في بعضِ الأحوالِ إذا كان في معناه[3]“، ويقول في موضعٍ آخر: “قد يُستغنى ببعض الألفاظ عن بعضٍ إذا كان في المذكور دلالةٌ على المحذوفِ”[4]، ويقول السيوطي: “قد يستغنون بالشيء عمَّا هو في معناه “[5].

وبعد.. فمما سبق من أقوال النحاة السابقة وغيرها ووصفهم لهذه الظاهرة جاز لنا أن نُعرِّفَ بمصطلح “الاستغناء” على أنَّه: “هو استغناءُ العربِ بكلمةٍ عن كلمةٍ أو أكثر؛ عن طريقِ حَذْفِ بَعْضهِاَ أو تغيير صورتها، أو الاستعانة بكلمة ليست من اشتقاقها؛ لوجودِ قرينةٍ، وذلك استحسانًا وطلبًا للخفَّة والاختصار، ولضربٍ من البلاغة وتجويد المعنى”. وكما ذكرت مصطلح الاستغناء ورد عند كثير من النحاة العرب في ثنايا مؤلفاتهم، ولقد أكثر سيبويه إمام النحاة من ذكره [6] وقد مرَّ بنا ذلك، وعقد ابن جني له بابًا في الخصائص[7]، وكذلك فعل السيوطي في الأشباه[8]، وَدَرَسَهُ ابن السرَّاج في الأصول [9]، وكذلك ابن الأنبا ري في الإنصاف [10]، وعلى هذا النحو تصرَّف معظم النحاة العرب مع ظاهرة الاستغناء؛ وذلك لأن الاستغناء في نظرهم “بابً واسعٌ؛ فكثيرًا ما استغنت العرب بلفظٍ عن لفظ”. [11]

وعن ذلك يقول ابن جني:

“لا يُنكرُ أنْ يكونَ في كلامِهِمْ العرب أصولٌ غيرُ مَلْفُوْظٍ بِهَا، إلا أنَّهَا مع ذلك مُقَدَّرَةٌ، وهذا واسعٌ في كلامهم[12] “. ويؤكد النحاة علي أن الاستغناء من صنع العرب وعن قصد منهم ” لأنه لا يُستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلي اللفظ؛ لأن الدليل إذا قام علي شيء في حكم الملفوظ به، وإن لم يَجْرِ علي ألسنتهم استعماله [13] “، ولكن ما دام الاستغناء من صنع العرب وذكاء قريحتهم، فلا بد أن يكون تصرفًا مُنضبطا وليس مرتجلا أو اعتباطيًّا.

ويقولُ ابن جني: “وذلك أنَّا نرى العرب قد غيرت شيئًا من كلامها من صورةٍ إلي صورةٍ، فيجبُ حينئذٍ أن تتأتى لذلك وتلاطفه لا أن تخبطه وتتعسَّفَهُ[14]“؛ أي: يُشترط في الاستغناء السهولة والملاطفة، كما يُشترط أن يتوافق اللفظ (المستغنى به) مع أمثلتهم وصورهم كما كان المحذوف (المستغنى عنه) موافقًا.

وعن ذلك يقول ابن جني: ” العرب إذا غيَّرت كلمةً من صورةٍ إلي أخرى، اختارت أن تكون الثانيةُ مُشَابِهَةً لأصولِ كلامهم ومُعْتَادِ أمثلتهم، وذلك أنَّكَ تحتاجُ إلي أنْ تُنِيْبَ شيئًا عن شيءٍ؛ فأوْلى أحوالِ الثاني بالصواب أن يُشابِهَ الأولَ؛ ومن مُشابهته له أنْ يُوَافِقَ أمثلةَ القومِ، كما كان المُناب عنه مثالاً من مُثلهم أيضًا[15]“.

ويُشْتَرَطُ أنْ لا يكون الاستغناء دون سببٍ أو دافعٍ أو دون أن يهدفَ إلي شيءٍ يخدمُ اللغةَ، وإلا كان ضربًا من الإفساد اللغوي والفوضى التي لا تقبلها اللغة العربية، كما يُؤكد النحاة علي تعمُّد العرب إحداث هذا الاستغناء. ويُشترط أن يكون الكلام بعد الاستغناء وقبله جيدًا، ولكن بعده أجود وأبلغ، وهذا ما عناه سيبويه بقوله: “لو حَسُنَ الكلام بالذي لا يستغنى عنه لحَسُنَ الذي يستغنى عنه [16] “؛ أي: إنَّ العرب قد انتقلت بالاستغناء من كلام فصيح إلي كلام أفصح وأبلغ وأجود، بل أكثر قدرةً علي إيصال المعنى وتجويده ويلاحظ أن النحاة قصدوا الاستغناء والحذف، وعلى هذا فالاستغناء يعدُّ وسيلة من وسائل الاختصار ورافدًا من روافده.


[1] ينظر: المصباح المنير مادة (غنى)، ولسان العرب المادة نفسها (1/ 46).

[2] الكتاب (1/ 25)، (2/ 121).

[3] الإنصاف (2/ 485)، مسألة (68).

[4] الإنصاف (1/ 93)، مسألة (13).

[5] الأشباه والنظائر (1/ 78).

[6] ينظر: الكتاب (1/ 25)، (2/ 121)، وغيرها.

[7] الخصائص (1/ 266) وما بعدها.

[8] الأشباه والنظائر (1/ 76) وما بعدها.

[9] الأصول (1/ 57، 75، 77) وغيرها.

[10] الإنصاف (1/ 93)، (2/ 485) وغيرها.

[11] الأشباه (1/ 76).

[12] المنصف (1/ 348).

[13] الخصائص (2/ 343).

[14] الخصائص (2/ 470).

[15] الخصائص (2/ 66 67).

[16] الكتاب (2/ 281).

ترك تعليق