تاريخ النحو

 

مدخل
أُقَدِّم في هذه الصفحات المعدودةِ موجزًا لِتاريخ النحوِ العربيِّ في نشأته وتطوُّره، وعوامِلِ التأثير فيه، وأشهَرِ علمائه الذين حملوا أمانته، فحَفِظُوها، وأدَّوْها أحسَنَ الأداء، وأَحَقَّهُ بالإعجاب.
ومجال القول في تاريخ النحو العربي ذو سَعَةٍ لِمن أراد الإفاضة فيه والانطلاق: فهو أوَّلُ عِلم دُوِّن في الإسلام؛ إذ مضى على مَوْلِده قرابة أربعةَ عَشَرَ قَرْنًا، لم يكن فيها لقًى مهملاً، ولا نَسْيًا مَنْسِيًّا، ولكن تتابعتْ عليه أجيالٌ منَ العلماء الجادِّين، يتَّفِقُون قصدًا وغايةً، وإنِ اختلفوا وطنًا وجنسًا، وشخصيَّة ومَنْهَجَ تفكير.
وكان فيهم علماءُ أفذاذٌ، آتاهُمُ اللَّهُ ما يشاء منَ الكفاية وفضل المزية، وإنَّ كُلاًّ من هؤلاء وهؤلاء لَيبذلُ فيه كل ما يفتح الله به عليه، وما تَهْدِيهِ تجرِبتُه إليه، ويُصَوِّرُهُ خياله له في الجانب أو الجوانب الَّتي طاب له أن يتناوَلَهُ منها، فكانَتْ لنا هذه الثروةُ الضخمةُ النفيسَةُ، من مؤلَّفاته المتعدِّدَةِ الموضوعاتِ والأحجام.
ولم يكن إذ ذاكَ تخصُّصٌ في العلوم، ولكنَّها كانت شَرِكَةً بين طُلابها جميعًا؛ فهم يتواردون عليها كلِّها، أو على جملةٍ صالحةٍ منها، ثم يَغْلِب على كلٍّ ما يَغْلِبُ عليه منها، وكان النحو خاصَّة لا يُطلَب هَونًا، أو يُترَك استغناء، إيمانًا صادقًا بحاجة كلِّ ذي علم إليه، فهو معيار اللغة، ومِفتاح سِرِّها، ووسيلةُ الفَهْم عنها.
من أجل ذلك لم يكتفِ جمهورهم بعلم ما فيه الكفاية منه، ولكنَّهم توسَّعُوا فيه، وشاركوا المنقطعين له في الرأي والتأليف.
وإذا كان بَسْطُ التاريخ أَقْدَرَ على الاستيعاب والتبيين من إيجازه، فإنَّ الإيجازَ أقدَرُ منه على الجمع والتقريب؛ لأنَّه اختيارٌ وانْتِقاء، ولكلِّ مقامٍ مقال؛ كما يقولون، وقدِ جَهِدْتُ ما استطعت ألا أَدَعَ شيئًا مِمَّا بدا لي أنه حقيقٌ بالذِّكْر إلا جِئْتُ به في نطاقِهِ المحدود.
وعسى أن يكون في ذلك بلوغُ غاية، وإدراكُ حاجة، إن شاء الله تعالى.
على النجدي ناصف
أوليَّة النَّحو
النحو نوعانِ: بَصْرِيٌّ، وكُوفِيٌّ، والبَصْرِيُّ أسبق وجودًا من الكُوفِيِّ، وإليه يُرَدُّ وَضْع النحو، ما في ذلك خلاف ولا مِراء، فمن حقِّه علينا أن نبدأ به، والحديث عنه ذو شِقَّيْنِ: الأوَّل عن بيئة النحو، والآخر عن واضعه.
بيئته:
نَشَأَ النحوُ في البَصْرَةِ، وما كان له أن ينشأ في غيرها؛ فهي المدينة التي اشتدَّتْ فيها الحاجة إليه قبل غيرها، إذ لم تكد تُمَصَّرُ، ويتسامع الناس بها وبوَفْرة الخيرات فيها، حتّى انثالتْ إليها أفواج من العرب، وأخرى منَ العجم.
وتوالت الهجرة إليها على تعاقُبٍ وازدياد، حتى بلغتْ عِدَّةُ مُقاتِلَتِها أيامَ كان زياد واليًا عليها – ثمانين أَلْفًا، وبلغت عِدَّةُ عيالهم مائة وعشرين ألفًا[1]، وكان تمصيرها سنة 14، وولاية زياد سنةَ 45 فكلُّ ما بينهما نحو ثلاثين عامًا.
وعاش أهل البصرة منَ العرب والعجم كما يعيش أهل الوطن الواحد من أصول مختلفة، تجمعهم أواصِرُهُ، وتدعوهم دواعي العيش فيه إلى التفاهُم والمعاملة، ولا يمكن أن يتمَّ تفاهُمٌ، وتتيسر معاملة إلا باللغة، فلم يكن بدٌّ لهذه الأخلاط منَ اصطناع لغةٍ واحدة، إلى جانب لُغاتها المتعدِّدَة؛ فكانت العربية هي هذه اللغة؛ لأنّها لُغة الدولة القائمة، ولسانُها الرسميُّ، وهيهاتَ أن تستطيع الجالِيات الأجنبيةُ إتقانَ الفُصحى والتحدُّثَ بها، كما يُتْقِنُها ويتحدَّثُ بها العرب الخُلَّص.
لذلك أصبحتِ العربيَّة عَرَبِيَّتَيْنِِ: فصيحة يصطعنها العرب، وأخرى يَشوبها قليل أو كثير منَ اللَّحْنِ والتحريف، يتحدَّث بها المُستعربُون في الحياة العامَّة، على أنَّ اللَّحْن والتحريف كانا يشُوبان لُغةَ العرب أو بعضِهم أيضًا، ولكن بمقدار، وعلى تفاوت واختلاف:
فقد رَووْا أنَّ عمر – رضي الله عنه – جاءه كتاب من عامله على مِيسَانَ، وقد لَحَنَ كاتبه فيه، فكتب عمر إلى العامل: أن قَنِّعْ كاتبك سَوْطًا[2].
وشيءٌ آخَرُ يُؤَيِّدُ ظهور النحو في البصرة، وهو: أنّ الإمام عَلِيًّا، وعبدالله بن عبَّاس، وأبا الأسود الدؤليَّ – كانوا يقيمون بالبصرة، سَبَقَ إليها أبو الأسود، وجاءها الإمام وابن عباس أيامَ الفتنة الكبرى، ويتنازع الرواة نِسبة وَضْع النحو إلى ثلاثتهم في كثير من الروايات، ومعقولٌ أن يكون وَضْع النحو إبَّانَ هذه الحقبة: إذ كان خِلاطُ العرب والعجم حينئذ أَشَدَّ، واللحنُ في العربية أكثرَ، والحاجةُ إلى النحوِ آكَدَ.
وقد كان عُمرُ – رضي الله عنه – مُلْهَمًا حين كتب إلى أبي موسى الأَشْعَرِيِّ في وِلايته على البصرة أن يَكِلَ إلى أبي الأسود تعليم الإعراب[3].
واضع النحو:
وردت رواياتٌ شتَّى عن واضع النحو، تتحدَّث عنه من جوانبه المختلفة، تتحدَّث عن سبب وَضْعِهِ، وعن واضعِهِ، وعمّا وُضِع منه أوَّلَ الأمر، فأمَّا سبب وضعِهِ فظُهور اللَّحْن، واستفحال خَطَرِهِ على مَرِّ الأيام.
وكانت العرب تَمْقُت اللَّحْنَ أشدَّ المَقْتِ، وتراه مَنْقَصَةً تُزرِي بصاحِبها، لا في مطلع الإسلام فحَسْبُ؛ ولكن فيما تلاه كذلك إلى أَمَدٍ بعيد، وكانوا لا يَسكُتون عن لَحْنَةٍ تَعْرِض؛ بل لا يُقِرُّون على شَكٍّ منها، لا في قول يقال، ولا في نصٍّ يُرْوَى.
فقد حَدَّثوا أنَّ جارية غَنَّتْ في مجلس الواثق بقول الشاعر[4]:
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً        أَهْدَى السَّلامَ تَحِيَّةً  ظُلْمُ
فأنكر عليها بعضُ أهل المجلس أن نَصَبَتْ (رجُلاً) في البيت، بظنِّ أنَّه خبر إنَّ، فالوجه رفعُهُ، والصواب أنَّه مفعول به للمصدر مُصَاب؛ لأنَّه بِمعنى إصابة، وأبَتِ الجاريةُ أن تُغَيِّر الضبط، وقالتْ: إنَّها قَرَأَتْه هكذا على أبي عثمان المازنيِّ، فاستَقْدَمَ الخليفةُ المازنيَّ منَ البصرة، فأَيَّدَ رِوايَةَ النَّصْبِ وشَرَحَ وَجْهَهُ.
وقد وردتْ رواياتٌ كثيرةٌ تعزو وَضْع النحو إلى أبي الأسود، بلا خلاف بينها، إلا في سبب وضعِه والمُضيِّ فيه: أكان إحساسًا بضرورته، أم كان إشارةً من عُمَرَ[5]، أم من الإمام عليٍّ[6]، أم من زياد[7]؟
ويبدو أنَّ الأمر شُبِّهَ على القائلين بإشارة عمر، وإشارة زياد، فحَسِبَ الأولون أنَّ عَهْدَ عمر إلى أبي الأسود في تعليم الإعراب – يعني إشارةً بوضع النحو، وحَسِبَ الآخرون أنَّ نَقْطَ أبي الأسود للمصحف في عهد زياد هو الإشارة بوَضْعِهِ، أمَّا القائلون بإشارة الإمام عليٍّ فلم يُبعِدوا، لأنَّ أبا الأسود كان من أخَصِّ شِيعَتِهِ المقرَّبِينَ؛ فمنَ الطبيعيِّ أن يكون على صلةٍ ما بنحو أبي الأسود، إشارةً به أو إرشادًا فيه.
ويُروى أن واضع النحو هو الإمامُ نفسُهُ، وأن أبا الأسود أخذه عنه[8]، ولا يتعاظَمُ الإمامَ أن يضع النحو لو أراده، فعبقريَّتُهُ لا خلاف عليها؛ لكنَّ الأعباء التي كان يضطَلِعُ بِها أَثْقَلُ من أن تُتِيحَ له التفكيرَ في ذلك؛ إذ كان – كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ – مُوَزَّعَ الجُهد والفِكر لتَثْبِيتِ دعائم الدولة، وإقامَةِ أحكام الدين، وتدبير شؤون الرَّعِيَّةِ، وإحباط المكايد.
وفي أخبار أبي الأسود شواهدُ تدل على أنَّه كان – كما توسَّم فيه عُمَر – صاحبَ حِسٍّ لُغَوِيٍّ مُرْهَفٍ، يستطيع به تمييز الأساليب بعضِها من بعض، وإدراكَ ما يكون بينها من أوجُهِ الخلاف والمشابهة، وما يكون لذلك من أثر في المعنى صحة وفسادًا:
فقد رووا أنَّ أصهارَهُ من بَنِي قُشَيْر كانوا يعلمون مَبْلَغَ حُبِّهِ وإخلاصِهِ للإمام عليٍّ، وأنَّهم كانوا – إغاظةً له – ينالون من الإمام بحضرته، فقال في ذلك قصيدة يُنْكِرُ إِساءَتَهُم له، ويؤكِّد وفاءه بالعهد وإخلاصه للعقيدة، ومنها في آل البيت:
أُحِبُّ  مُحَمَّدًا  حُبًّا  شَدِيدًا        وَعَبَّاسًا   وَحَمْزَةَ    وَالْوَصِيَّا
بَنُو    عَمِّ    النَّبِيِّ     وَأَقْرَبِيهِ        أَحَبُّ   النَّاسِ   كُلِّهِمُ    إِلَيَّا
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ  رُشْدًا  أُصِبْهُ        وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيَّا
فقالت بنو قشير: شَكَكْتَ يا أبا الأسود في صاحبك؛ حيث تقول:
فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ        … … … …  …  …
فقال أبو الأسود: أما سمعتم قول الله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[9]:
فأبو الأسود يعلم من أسرار البيان ما لا يعلمون، وأحالَهم في الحِجاج على الآية؛ لعلهم يفهمون أنَّ الكلام قد يكون في ظاهره شَكًّا، وما هو في حقيقتِهِ بشَكٍّ، ولكنها التورية اللطيفة يصار إليها أحيانًا.
ويصف أبو الأسود مبلغَ حِسِّهِ اللُّغَوِيِّ منَ الرِّقَّة وصِدْق التمييز، فيقول: إني لأجد للَّحْنِ غَمَرًا كغَمَرِ اللَّحْمِ[10].
ويذكُرُ ابْنُ النَّدِيمِ أنَّه رأى أربعَ ورقات يَحْسَبُها من ورق الصين، ترجمتُها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود – رحمة الله عليه – بخطِّ يَحيى بنِ يَعْمُرَ، وتحت هذا الخطِّ بخَطٍّ عَتِيقٍ: هذا خَطُّ عَلاَّنَ النَّحْوِيِّ، وتحت هذا الخطِّ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ[11]، وهذا كلامُ رجُلٍ ثِقةٍ لا يحدِّث بما سمع، ولكن بِما رآه رَأْيَ العين.
ويذهبُ بَعْضُ البَاحِثينَ إلى أنَّ أبا الأسود كان على صِلَةٍ بِالسُّرْيَانِيَّةِ؛ والأرجَحُ أنَّه قَدْ تَعَلَّمَها[12].
ورأى آخرُ: أنَّ يعقوب الرهاويُّ كان مُعاصِرًا لأبي الأسود، وأنَّ له كتابًا في نَحْوِ السُّرْيَانِيَّةِ[13]:
وكلا المَقُولَيْنِ يُشعِرُ بأنَّ النحوَ العربيَّ ليس عربيًّا صريحًا، وأنَّ أبا الأسود قد أفاد له من السُّرْيَانِيَّةِ على نحوٍ ما! وهو كلامٌ يقوم – كما تَرى – على مُجرَّدِ الظَّنِّ، ويَكْثُرُ تَرْدَادُ مِثْله كُلَّما ذُكِرتْ أَوَّلِيَّات علومِ العرب؛ كأنما كُتب عليهم من بين خَلْقِ الله أن يكونوا أبدًا تلاميذَ لِغيرِهم في العلوم، وهو كلامٌ يُمكنُ قَبُولُه والتسليمُ به حين يكونُ له سَنَدٌ غيرُ الحَدْسِ والتَّخْمِينِ.
وتقتضي طبيعةُ الأشياء أن يكون ما وضعه أبو الأسود منَ النحو مجرَّدَ ملاحظات يسيرة، هُدِيَ إليها بالنظر في الأساليب واستقرائها على قَدْرِ الطاقة في المقامات المتنوِّعَةِ، وتَيَسَّرَ له بفضلها أن يستنبط منها ضوابِطَ لا تبلغ مبلغ القواعد التي تُقَرِّرُ الأحكام في اطِّرادٍ وشُمول.
ومَن يكن مِثْلَ أبي الأسود في سلامة الفِطرة، ولُطْفِ الحسِّ لا يستعصي عليه أن يهتدي إلى هذه الأوليَّات وزيادة، وما كان الخليفةُ عُمر لِيختارَهُ مُعَلِّمًا للإعراب إلاَّ وهُوَ صالِحٌ له، وكافٍ فيه! وقدْ كانَتِ العَرَبُ أو أُناس منها يُدركون فُروقَ المعاني المختلفة في العبارات التي تختلف فيها حركات الإعراب، أو طرائقُ التعبير تقديمًا وتأخيرًا، وذِكْرًا وحَذْفًا.
ومن ذلك أنَّ أعرابيًّا سَمِع قارئًا يقرأ قولَهُ تعالى: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[14] بجرِّ لامِ رسولِهِ، فقال الأعرابيُّ: أَوَبَرِئَ اللهُ من رسولِهِ؟![15]، ويقول سِيبَوَيْهِ – فيما يقول -: ((ليس منَ العَصَبِيَّةِ إذًا، ولا من التجنِّي على الحقيقة أن تقول مع القائلين: إنَّ النحوَ العربيَّ عربِيُّ النَّسَبِ، وما هو بالدخيل ولا الهجينِ)).
النَّحو وأشهر النحاة
من أبي الأسود إلى سِيبَوَيْهِ
لم يكد أبو الأسود يضعُ النَّحْوَ، ويَعْلَمُ الناس نَبَأَهُ عنه، حتى أقبل تلاميذه عليه يأخذون عنه، ثم يأخذ تلاميذهم عنهم مِن بعده، وهكذا جعل النُّحَاةُ يتتابَعُونَ مع الأيَّام طبقاتٍ، يأخذ اللاَّحقون منهم عنِ السابقين، وجَعَلَ النحوُ ينمو غَرْسُهُ، ويَشْتَدُّ عُودُهُ دِرَاكًا عصرًا بعد عَصْر، حتى كأنَّ القوم قد أعدَّهمُ الله له من قبلُ على أفضل ما يكون الإعداد، فما بِهم إلا أن تومِضَ ومضةُ البدء، وتشير إشارةُ التوجيه ليَمْضُوا به خِفَافًا، فإذا هم بعد قليل قد طَوَوْا به شَوْطًا بعيدًا لم يكن ليبلُغَه لولا العملُ الدَّائِبُ، والجُهْدُ المتَّصِل.
فَهَذَا بِلالُ بن أبي بُرْدَةَ والي البصرة يَدعو إلى مَجلِسِه عبدَالله بْنَ أبي إسحقَ، وأبا عمرو بنَ العَلاءِ، وهما من رُوَّادِ النُّحَاةِ؛ ليتَناظَرَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ أبو عمرو عمَّا انتهت إليه المناظرةُ: “فغَلَبَنِي ابن أبي إسحقَ بالهمز”[16]، فقدِ اتَّسَعَ مَيْدَانُ النحو يَوْمَئِذٍ حتى سَمَحَ لهذين العالِمَيْنِ الجليلينِ أن يتجاولا فيه جَوَلاَتٍ متكاملَةً، يتحقَّق بِها الغَلَبُ والهزيمة، ولم يكن مضى على ظهوره إلا قرابةُ أربعين عامًا؛ إذْ كانَتْ وفاةُ أبي الأسود سنة 69، وولاية بلال سنة 109
 
وسنُتَرْجِمُ هنا أبا الأسود، وأشهَرَ النُّحاةِ الَّذين جاؤوا من بعده إلى سِيبَوَيْهِ بترتيب سِنِي الوفاة:
1 – أبو الأسود:
المشهور أنَّ اسمه ظالمُ بنُ عُمر[17]، يَرتَفِعُ نَسَبُهُ إلى الدُّئَلِ بنِ بَكْر، وإليه يُنسَب، وُلِدَ بمكَّةَ، ورحل إلى المدينة، فَرَوَى عَنْ عُمَر، وقَرَأَ على عُثمان وعليٍّ[18]، ثُمَّ أشْخَصَهُ عُمَرُ إلى البصرة في وِلاية أبِي مُوسى الأَشْعَرِيِّ ليُعَلِّمَ الناسَ الإعرابَ[19]، ووَلاَّهُ الإمامُ قضاءَ البصرة، ثم جعله واليًا عليها بَعْدَ ابْنِ عبَّاس حين خرج إلى مَكَّة مُغاضِبًا للإمام[20]، وتُوُفّي أبو الأسود بالبصرة سنة 69.
وكان – رحمه الله – من أَوْفَى الشِّيعَةِ للإمام، وأَشَدِّهِمْ إخلاصًا له، هو الذي وَضع النحوَ، وضَبَطَ المصحَفَ الشريفَ، ومن قراءاته: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) و(هَيْتِ لك)[21].
ومن الذين أخذوا عنه يحيى بن يَعْمُرَ المتوفَّى سنة 129، وميمونُ الأقرنُ، وعَنْبَسَةُ الفِيلُ، ولَسْنَا نَعْرِفُ عن نَحْوِهم شيئًا، ولا نجد لهم ذِكْرًا في كتاب سِيبَوَيْهِ، ولا عنهم رواية فيه.
2 – عبدالله بن أبي إسحاقَ:
هو عبدالله بن أبي إسحاق الحَضْرَمِيُّ، أخذ عن يحيى بنِ يَعْمُرَ، ونَصْرِ بنِ عاصم، ويقولون: إنه فرَّع النحو، وأعمل القياس فيه، ودرس الهمز، وله فيه كتاب. وتوفي سنة 117[22].
ومن نُقول سيبويه عنه: أنَّه كان يقرأ آية {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام: 27]، بنَصْبِ نُكَذِّبَ.
3 – أبو عمرو بن العلاء:
اسمه كنيته على المشهور، وقيل: اسمه زبان، ولد بمكة سنة 68، ونشأ في البصرة، وأخذ عن عبدالله بن أبي إسحاق، ويحيى بن يعمر، وقَرَأَ على أنس بن مالك، والحسن البصري.
وهو من القراء السبعة، وكان إمام أهل البصرة في القراءات، والنحو واللغة، وأيام العرب والشعر، مع الصدق والثقة والزهد، وكان من أشراف العرب ووجهائها، وتوفي سنة 154[23].
ونَقَلَ عَنْهُ سيبويه أكثر من أربعين نقلاً، مُعظمُها من طريق يونس بن حبيب، ومنها: قوله عن المستثنى بإلا حين يكون الكلام تامًّا منفيًّا: الوجه ما أتاني القوم إلا عبدُالله. ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم ما جاز أن تقول ما أتاني أحد، كما أنه لا يجوز أتاني أحد[24].
وقوله: واعلم أن ما كان صفةً للمعرفة لا يحسن أن يكون حالاً ينتصب انتصابَ النَّكِرَةِ[25].
4 – الخليل:
هو الخليل بن أحمدَ الفَرَاهِيدِيُّ الأَزْدِيُّ، وُلِدَ سنة 100، وأخذ عنْ أبِي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وغيرِهما، وخرج إلى البادية يُشافه أهلها، ويأخذ عنهمُ اللغة، ويُعَدُّ الخليل من أفذاذ التاريخ، وأصحاب الأوليَّات في العلوم.
آتاه الله حِسًّا لُغويًّا مدرَّبًا، وذِهنًا رياضيًّا بارعًا، وذوْقًا موسيقيًّا مرهفًا؛ فبلغ الغاية في النحو، واخترع العَروض وخَرَجَ بِهِ على الناس عِلمًا كاملاً، كما اخترع طريقة تدوين المعاجم، واستنبط من النحو في أصوله وفروعه، وعِلَلِه وأقيسته ما لم يسبقه إليه سابق، ونقل عنه سِيبَوَيْهِ أكثرَ من خمسمائة نقل.
وكان – رحمه الله – عفيفًا زاهدًا مُتقشِّفًا؛ قضى حياته منقطعًا للعلم والتعليم، وتوفي سنة 175[26].
5 – يونس بن حبيب:
هو أبو عبدالرحمن يونس بن حبيب الضَّبِّيُّ، وُلد سنة 90، وأخذ عن أبي عمرو، ويقولون: إنه كان صاحِبَ قياس في النحو، وله مذاهب تَفَرَّد بها، وقد نقل عنه سيبويه نحو مائتي نقل، وأكثر ما نقل عنه بابانِ من التصغير، فقال: وجميعُ ما ذكرتُ لك في هذا الباب، وما أذكُرُهُ لَكَ في الباب الذي يليه قولُ يُونُس[27]، وتوفي سنة 182.
ومِمَّا نقلَ عنه قولُه: “وسمعنا بعض العرب يقول: (الحمدُ للهِ ربُّ العالمين) فسألت عنها يونس فزعم أنها عربية”[28]، وقوله: “ومن ذلك: قولُ العرب: مَن أنتَ زيدًا؟ فزعم يونس أنه على قوله: من أنت تذكر زيدًا؟ ولكنه كَثُرَ في كلامهم، واستُعمِلَ واستغْنَوْا عن إظهاره”[29].
6 – سِيبَوَيْهِ:
هو عمرو بْنُ عثمان بن قنبر، وسِيبَوَيْهِ لَقَبُهُ الذي لا يكاد يذكر أو يعرف إلا به، ولد بالبيضاء إحدى مدن فارس، ونشأ وأقام بالبصرة، وأخذ عن الخليل، وأطال ملازمته، وكان أحبَّ تلاميذه إليه، وأخذ كذلك عن عيسى بن عمر، ويونُسَ بنِ حبيب، وغيرهما، وهو صاحب أعظم كتاب في النحو، وأبقاه على الأيام، وتوفي سنة 180 هـ[30].
كتاب سيبويه: لم يُسمِّ سِيبَوَيْهِ كتابَهُ، ولا جعل له مقدِّمة ولا خاتمة، ولعلَّه كان على نِيَّةِ العَوْدِ إليه لبعض الأمر، لكنَّ عائقًا حال دون ما كان ينويه، ومن قبل سمَّى عيسى بن عمر كتابين له، أحدهما “الإكمال”، والآخر “الجامع”.
على أنَّ القدماء سمَّوْهُ عنه؛ إذ أطلقوا عليه اسم “الكتاب”، غيرَ موصوف بوصف، ولا معيَّنٍ بإضافة، فكان إذا ذُكِرَ لفظ الكتاب مُجرَّدًا فهو كتابُ سِيبَوَيْهِ، كأنَّما هُو وَحْدَهُ الكِتاب على الحقيقة، وما سواه فكتاب على المجاز!
وسيبويْه لا يُقَرِّر في الكتاب قواعدَ، ولا يشترط للأحكام شروطًا، ولا يلتزم تعريف المصطلحات، ولا ترديدَها بلفظ واحد؛ وإنَّما الكتاب فَيْضٌ غزيرٌ من الأساليب والمفردات، وبعضُ الأساليب مأثور، وبعضُه مُحدَث، يَعرِضها سيبويه لِيدْرُسَها ويُحلِّلَها، ثم يقضي قضاءه فيها صِحَّة أو خطأً، حُسنًا أو قُبْحًا، كثرةً أو قِلَّةً،،، وهكذا.
وهو في أثناء ذلك يَعْرِضُ صُنوفًا من سماعه، وكثيرًا من آراء شُيُوخه، ولا سيما الخليل، فينقدها، أو يعلق عليها، أو يجعل منها تمامًا للمسألة التي يدرُسُها، أو تأييدًا لها، وكذلك يُزْجِي كثيرًا من لغات العرب، وفَيْضًا من الشواهد المتنوِّعة، بعضها آياتٌ من القرآن الكريم، وعِدَّتُها: 373، ولا يَفُوتُه أن يذكر قراءاتِها عند الحاجة إليها، وبعضُها الآخَرُ منَ الشِّعْرِ، وعدتها 871، ومن الرَّجَزِ، وعِدَّتُها 190، ولا يفوتُه أن يُصَحِّح نِسبَةَ الشواهد التي يرى أنَّها منسوبةٌ إلى غير أصحابها[31].
تلك عِدَّةُ شواهد سيبويه بحَسَبِ إحصائِي لها، وبعض شواهده من الشعر والرَّجَزِ غير منسوب إلى قائليه، لكنَّ العلماءَ يثقون بشواهده كلِّها، ويتقبَّلونَها عنه بقَبول حسن، وله شواهدُ من الأحاديثِ النبويَّة، لكنه لا يذكرها بِما يَدُلُّ على أنَّها أحاديث، ومنها:
1 – ((سُبُّوحًا قُدُّوسًا ربَّ الملائكةِ والرُّوحِ))[32].
2 – ((ما من أيام أحبَّ إلى الله فيها الصومُ من عشر ذي الحجة))[33].
3 – ((كلُّ مولود يولد على الفطرة، حتَّى يكونَ أبواهُ هما يُهَوِّدانِه، وينصِّرانه))[34].
ويغلب على عبارة الكتاب التلاحُمُ والانسياب، حتَّى لَيَقِلُّ أن تمر فيها بمَقْطَعٍ يحسن الوقف عليه إلا حين يصرف القول عن وجهه إلى شاهد يرويه، أو سؤال يسأله، أو حوار يُدِيرُهُ، وهي واضحة بَيِّنَة حينًا، وغامضة مبهمة حينًا آخَرَ، ولا يلتزم الذهاب بها إلى معناها قصدًا، فربما طاب له الاستطراد إلى غير ما يكون فيه من مقام؛ كاستطراده من القول في الاشتغال إلى القول في صيغ المبالغة[35].
ولا يكتفي سيبويه بواقع النصوص في استنباط الأحكام، ولكنه يلجأ أحيانًا إلى فَرْض الفُرُوض، ثم يشرِّع لها إكمالاً لصورٍ عقليَّة تتمثل في ذهنه، أو تدارُكًا لما فات النصوصَ أن تُلِمَّ به.
كذلك لا يقتصر على مسائل النحو والصرف؛ بل يَزِيد عليهما مباحثَ قيِّمةً رآها مَوصولةَ الأسباب بِهما، ونَقَلَهُا العلماءُ من بعده إلى علومٍ أخرى, ونكتفي هنا ببيان مواطن بعض هذه المباحث من “الكتاب”، ومواطنها من الكتب التي نقلت إليها، وليست من كتب النحو والصرف:
لقدْ نَقَلَ عبدُالقاهر إلى “أسرار البلاغة”[36] من باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى[37]، ونقل إلى “دلائل الإعجاز”[38] من باب من النكرة يَجرى مَجرى ما فيه الألف واللام[39]، ومن باب ما يحسن عليه السكوت[40].
ونقل الثعالِبِيُّ إلى “أسرار العربية”[41] من باب مجاري أواخِرِ الكَلِمِ منَ العربية[42]، وباب الحروف التي يجوز أن يليها بعدها الأسماء[43]، وباب ما لُفِظَ به مِمَّا هو مثنى[44].
وتحدث سيبويه في باب الإدغام حديثًا بارعًا عن حروف الهجاء، وعدَدِها، أصولاً وفروعًا، وعن مَخَارِجها وأنواعها، من مجهور ومهموس، وشديدٍ ورخْوٍ[45].
ونلاحظ أنَّ سيبويه لم ينقُل عن شيوخه في هذه الأبواب التي ذكرناها، فهل علينا إذا قلنا: إنَّ سيبويهِ هُو واضعُ البلاغة والتجويد؟![46]
وسيبويه بعد هذا يُشَقِّق الموضوعات المتشعِّبَة، ويفرِّقُها على عدة أبواب؛ فعرض الاستثناء في سَبْعَةَ عَشَرَ بابًا[47]، والترخيم في اثني عَشَرَ[48]، ثم هو يذكر بعض الأبواب في غير المواقع التي تُجانسها؛ فوضع القَسَم وحروفه بين التصغير ونونَيِ التوكيد[49].
وبعـــدُ: فلا تَعْرِفُ العربية كتابًا حفل به الناس، وأفادوا منه على تعاقُب الأجيال ككتاب سيبويه؛ فقد ألفوا عنه كُتُبًا، وأداروا حولَهُ دراساتٍ لا تحصى كثرةً:
ألَّفُوا في شرحه، والتعليق عليه، والتمهيد له، وترتيب مسائله، وحلِّ مشكلاته، وتوضيح غريبه وشرح شواهده، وتجريد أحكامه، اختصروه، واختلفوا فيه ما بين متعصِّب عليه، ومتعصِّب له، وانتصر لهؤلاء أنصار ومؤيدون، ومنهم منِ انقطع له حتى حَفِظَهُ، أو أَتْقَنَ فَهْمَهُ وتخصص فيه.
ولم يُقَدَّرْ لسيبويه أن يقرأ الكتاب على أحد، أو أن يَقْرَأَهُ عليه أحد، وإنَّما قَرَأَهُ الناس بعده على أبي الحسن الأخفش[50]؛ فقد وَرِثَ – رحمه الله – عِلْمَ سيبويه، وكان طريقَ الناس إليه؛ كما حَمَلَ سيبويه عِلْمَ الخليل، وكان طريقَ الناس إليه.
النحو وأشهر النُّحاة
فيما بين سِيبَوَيْهِ وانقسام الدولة العباسية
لم يَشْقَ النُّحاةُ بعلاج النحو بعد أن جاءهم كتاب سيبويه؛ فقد يسَّر لهم سبيله، بما أصَّل من أصول، واستخرج من كنوز، وأقام من حُجَجٍ، وقدَّم من شواهد، والتَمَسَ من عِلَلٍ؛ فَلَمْ يَدَعْ لهم إلا أن يدرُسُوه، ويَرَوْا رأيَهُم فيه نقدًا وخلافًا، أو مناصرة وتأييدًا، وإلا أن يستوحوه ويستمدِّوا لِمُصَنَّفاتِهم منه.
وهذا ما كان، فإذا لنا مِنْهُم أصنافٌ من الكتب، أبينَ طريقًا، وأقوَمَ تنسيقًا، وليست – مع ذلك – تخلو من رأي سديد، أو حُجَّة قاصدة، أو عِلَّة ناهضة، أو شاهد لا مغمزَ فيه، وليس ذلك منهم بالعمل القليل، ولا هو بالأمر اليسير، فتلك غايةُ ما تقضي به داعية الحال، وسُنَّة التطوُّر الذي أحدثه كتابُ سيبويه في عالم النحو والنحاة.
والآن هَلُمَّ إلى طائفة من أشهر نحاة هذه الحقبة:
1 – الأخفش:
هو سعيد بن مسعدة، الملقَّب بالأخفش، أصله من مَنْبِج، ثم سكن البصرة، وأخذ عن سيبويه، وكان يقول: ما وَضَعَ سيبويه شيئًا في كتابه إلا عَرَضَهُ عليَّ، وكانت له مكانةٌ رفيعةٌ في النحو بين البصريِّينَ والكوفيين، قرأ النَّحو على سيبويه، وهو وحده طريق الناس إلى كتابه، تُوُفِّيَ سنة 215 على التقريب[51].
ومن مؤلَّفاته في النحو: كتاب “المقاييس”، و”الاشتقاق”. وله آراء منثورة في كُتُب النحو، منها: أنه يُجيز جمْع أسماء العدد، ولا يُجيز غيره أن يجمع منها إلا المائة والألف[52].
2 – المازنيُّ:
هو أبو عُثْمانَ بكر بن محمد بن بَقِيَّةَ، قرأ كتاب سيبويه على الأخفش، وكان إمامًا في اللغة، وراويةً واسِعَ الرواية، كما كان بارعًا في الحِجاج والمناظرة، توفي سنة 249، وقيل غير ذلك[53].
ومن كتبه: “علل النحو”، و”تفاسير كتاب سيبويه”، و”التصريف” وقد شرحه ابن جِنِّي، وهو مطبوع.
ومن آرائه النحويَّةِ: أن جمْع المؤنث يجب بناؤه على الفتح مع لا النافية للجنس[54].
3 – المبرِّد:
هو محمد بن يزيد بن عبدالأكبر، ولد سنة 210، ونشأ بالبصرة، سمع “الكتاب” من الجَرْمِيِّ، وأتَمَّه على المازنِيِّ، وكان إمامَ العربية في عصره، توفي سنة 386[55].
ومن مؤلَّفاته: “المقْتضَب”، و”إعراب القرآن”، و”الكامل في فنونٍ من اللغة والأدب والنحو”.
ومن آرائِه في النَّحو: أن المصدر المؤول من أنَّ ومعمولَيْها بعد لو يعرَبُ فاعلاً لثبت محذوفًا[56].
4 – الزَّجَّاج:
هو أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن السري الزجَّاج، كان أول أمره يَخْرِطُ الزُّجاج، ثم مال إلى طلب النحو، فلزم المبرِّد يأخذ عنه، ثم اتصل بالمُكْتَفِي، وصار نديمًا له، وتوفي سنة 310[57].
ومن كُتُبِه: “الاشتقاق”، و”فَعَلْت وأفعَلْت”، و”شرح أبيات سيبويه”.
ومن آرائه النحوية: جواز إعمال لعلَّ وكأنَّ حين تتَّصل بهما ما[58].
النحو الكوفي وأشهر علمائه
بدأ اشتغال الكوفة بالنحو في حياة الخليل؛ أي بعد وفاة أبي الأسود بنَحْوِ تسعين عامًا؛ فقد كانت وفاته سنة 69، وكانت الكوفة في خلال هذه المُدَّة عاكفةً على القرآن الكريم، تقرؤه وتُقْرِئه، وعلى الشِّعر ترويه وتَتَنَاشَدُهُ، ولذا كان فيها ثلاثة من القرَّاء السبعة، هم: عاصم المتوفَّى سنة 129، وحمزةُ المتوفَّى سنة 156، والكِسَائِيُّ المتوفَّى سنة 186، وفي كل مصر قارئ واحد.
أمَّا النحو فكانت – على ما يبدو – قانعةً منه بما يجيئها من البصرة، ثم انتبهت إليه، وشغلت به.
وأشهر علمائها فيه:
1 – معاذ الهَرَّاءُ:
هو أبو مسلمٍ معاذ الهَرَّاء، نشأ بالكوفة، وكان يبيع الثياب الهَرَوِيَّة، فعُرِفَ بها، أخذ عنه الكِسَائِيُّ والفَرَّاء، ويقال: إنَّه أوَّل من وضع التصريف، وتوفي سنة 187[59].
2 – الكِسَائِيُّ:
هو أبو الحسن علي بن حمزة الكِسَائِيُّ، إمام نحاة الكوفة، وأحد القُرَّاء السبعة، نشأ بالكوفة، وأخذ عن الهَرَّاء، والخليل، وأقرأه الأخْفَشُ كِتابَ سيبويه، ورحل إلى البادية فحَفِظَ كثيرًا منَ اللغة، وعَهِدَ إليه الرشيد في تأديب الأمين والمأمون، توفي سنة 189، ومن كتبه: “معاني القرآن”، و”مختصر النحو”، ويعد الكِسَائِيُّ إمامَ نحاة الكوفة[60].
ومن آرائه النحوية: جواز إعمال اسم الفاعل وهو ماضي الزمن[61].
3 – الفَرَّاء:
هو أبو زكريا يحيى بن زياد الدَّيْلَمِيُّ، وُلد بالكوفة، وأخذ عن الكِسَائِيُّ، وعن يونسَ بن حبيب، وكان أبرع الكوفيين في علمهم، وتوفي سنة 207[62].
ومن كُتُبه: “معاني القرآن”، و”المذكر والمؤنث”، و”المقصور والممدود”.
ومن آرائه النحوية: أن الاسم الذي بعد لولا ليس مبتدأ؛ بل مرفوعًا بها؛ لاستغنائه بها كما يرتفع الفاعل بالفعل[63].
4 – ثَعْلَب:
هو أحمد بن يحيى المعروف بثَعْلَب، ولد سنة 200، وأخذ عن محمد بن سَلاَّم الجُمَحِيُّ، ومحمد ابن زياد الأعرابيُّ وغيرِهِما، ودرس كتب الكِسَائِيُّ والفَرَّاء، وقرأ كتاب سِيبَوَيْهِ على نفسه، وهو من أئمَّة الكوفِيّين في النحو، ومات سنة 291، ومن كُتُبه: “اختلاف النحويين”، و”معاني القرآن”، و”ما ينصرف وما لا ينصرف”[64].
ومن آرائه: أنه إذا سُمِّيَ مذكَّرٌ بمؤنَّثٍ مجرَّد منَ التاء، فإن كان ثلاثيًّا مُنِع من الصرف، سواء أكان محرَّكَ الوَسَطِ كفَخِذ، أم ساكِنَهُ كحرْب[65].
مدرستا البصرة والكوفة
نشأ النحو في البصرة، وأقبل علماؤها عليه يتدارسونه طبقة بعد طبقة، ويضيفون إلى ما بين أيديهم منه كلَّ ما عسى أن يفتح الله عليهم به.
أمَّا أهل الكوفة فكانوا منقطعين للقرآن والشِّعر، كما ذكرنا آنفًا، حتَّى إذا كان منتصف القرن الثاني تقريبًا – تبيَّنُوا أنَّ البصرة قد عظم قَدْرُها، ونبُه ذكرُ علمائِها، بفضل ما صنعوا ويصنعون للعربية – هنالك هبُّوا يحاولون أن ينافسوهم؛ ليكون لهم من الفضل مثل ما لهم.
ولمَّا لم تكن لهم سابقة في النحو، لم يجدوا بدًّا من أن يتجهوا إلى البصرة، يطلبون فيها علم ما لا يعلمون، فذهب إليها الكِسَائِيُّ فِيمن ذهب، وأخذ عن الخليل ويونُس، ثم قرأ عليه الأَخْفَشُ كتاب سيبويه، واصطحب الفَرَّاءُ كتاب سيبويه حياتَهُ، لا يكاد يفارقه.
كان نَحْو الكوفة إذًا شُعبةً من نحو البصرة، ثم تحوَّلَ عنه في أصوله، ومناهج دَرْسِهِ، لاختلاف الأئِمَّة هنا وهناك في مصادر الرواية والرأي فيها، ثم في سمات الشخصية وطرائق التفكير؛ فكان للنحو مدرسة في البصرة، وأخرى في الكوفة، وقُدِّر لنحو البصرة أن يكون أكثَرَ تداولاً، وأَخْلَدَ خُلُودًا.
وأهَمُّ الفروق التي بين المدرستين: أنَّ شُيوخ البصرة كانوا لا يَرْوُونَ إلاَّ عن العرب الخُلَّص الضَّارِبِينَ في أعماق الصحراء، ولا يَقبَلون الشاهد إلا إذا وثِقُوا به، لهذا نَرَى سيبويه يُرَدِّدُ لفظ الثقة ومشتقَّاته فيما يَروِي وما يَسمعُ منَ الشواهد، كأنَّما يُريدُ أن يُطَمْئِنَ أصحابه إلى أنه آخذ على الطريقة التي يتوارَثُونَها؛ بل لم يكُنْ يَفُوتُه أن يُنَبِّهَ على المَصْنُوع منَ الشواهد أيضًا[66]، أمَّا الكوفيّون فكانوا أقلَّ تحرُّجًا في الرواية، وأكثَرَ تَرَخُّصًا في الاستِشْهاد.
وأُخْرى: أنَّ البصْرِيِّينَ كانوا يُقِيمونَ قَواعِدَهُم على الأكثر في اللغة، ويَأْبَوْنَ أن يَتَّخِذُوا ما دونه مصدرًا لاستنباط، ولا سندًا لرأي، أمَّا ما يُخالِفُ الأكثر فرُبَّما أوَّلوه بما يردّه إليه، وربَّما عدُّوه منَ الضَّرورات التي لا يُصارُ إليها في الاختيار، وربما نحَّوْه جانبًا، وحكموا عليه بالشذوذ.
ويبدو أنَّ أبا عمرو هو صاحبُ هذا الأصل: فقد سُئِلَ عمَّا وَضَعَهُ من العربية: أيدخُل في كلام العرب كلُّه؟ قال: لا، قيل له: فكيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حُجَّة؟ قال: أعمل على الأكثر، وأُسَمِّي ما خالَفَنِي لغات[67].
أمَّا الكوفِيّون فكانوا يأخذون اللغة من حيثُما وجدوها، وكانوا كلما عرض لهم شاهد قبِلوه وولَّدوا منه حكمًا له ما لسائر الأحكام[68]:
ومن أمثلة الفرق في هذا بين المدرستين: أنَّ البصرِيّين لا يُجيزون تَقَدُّم الفاعل على فعله، ولا يَمْنَعُهم منه قول الزَّبَّاء:
مَا لِلْجِمَالِ  مَشْيُهَا  وَئِيدَا        أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا؟
لأنَّهم يعدّونه من قبيل الضرورة، ويُعرِبون (مَشْيَهَا) مبتدأ حُذف خَبَرُهُ، وسَدَّتِ الحالُ (وَئِيدًا) مَسَدَّهُ، والتقدير: مَشْيُهَا يَظْهَرُ وَئِيدًا.
أمَّا الكوفيّون: فقد أخذوا بالشاهد، وأجازوا تقديم الفاعل على فعله، كما قدَّمَتْ (مَشْيُهَا) على (وَئِيدًا)[69].
ولعلَّ كثرةَ مُمارسة الكوفيين للتلاوة والرواية هي التي أورثتهم الاعتداد بظاهر النصِّ، وتهيُّبَ الهجوم عليه بالتَّأويل، أوِ الإنكار:
وهذا لا يَعْنِي أنَّ البصرة كانتْ أقلَّ من الكوفة تَحمّلاً لِلقرآن وروايةً للشعر، فقد كان الذين يحفظون القرآن كله في عهد أبي موسى الأشعري زهاء ثلاثمائة[70]. وكلّ ما كان من الأمر هنا وهناك – أنَّ الكوفَةَ آثَرَتِ العافية، وقَنَعَتْ بما حَفِظَتْ، واسْتَمْرَأَتِ الانقطاعَ للمعاودة والتّكرار، أمَّا البصرة فقد أُتِيحَ لها الحفظ، ووَضْعُ النحو فظفرت بِالحُسْنَيَيْنِ، ولَمْ تَجِدِ البصرةُ حاجةً إلى الأَخْذِ عنِ الكوفة، إلاَّ أَبَا زَيْدٍ، فإنَّه – فيما يقال – أخذ عن المفضَّل الضَّبِّيِّ[71].
ثم إنَّ البصريِّين يُقَدِّمُونَ السماع على القياس إذا تعارضا[72]، أمَّا الكوفِيّون فرُبَّما جعلوا كلِمَة القياس هي العليا وإن لم يعزِّزه شاهد؛ فقد منعوا تقدُّم الخَبَرِ على المبتدأ مُطلقًا، لئلا يتقدم الضميرُ الذي فيه على مَرْجِعِهِ؛ فَفِي قائمٌ – مَثَلاً – من قولنا: قائم زيد، ضمير زيد، ولم يأْبَهُوا لتأخُّر الخبر رُتْبَةً وإن تقدم لفظًا، ولا للمأثور من الشواهد[73].
والآن هل للنحو مدارسُ أخرى؟
ينبغي قبل الإجابة عن هذا السؤال أن أُعَرِّفَ المدرسة، فهي: طائفة من العلماء، أوِ الأدباء، أو أهل الفن، تُؤَلِّفُ بينهم – في الإنتاج وصوره – أصولٌ ومناهجُ يلتَزِمُونَها، مع احتفاظ كلٍّ بخصائِصِ شخصِيَّتِه.
وهكذا كان أئمَّة النَّحو الأوَّلونَ في البصرة والكوفة إبَّان نشأتِه، فخرج النحو الذي صدر عنهم صدًى لما عند كل من الفريقين من مواهبَ، ولما أصَّل من أصول، وما أمدته العرب به من لغة، ولمَّا أنِ اشْتَدَّ عُودُهُ، ونضجت ثمرتُه، وآل مِن بعدهم إلى خُلفائهم – لم يجدوا به نقصًا فيُتِمُّوه، أو صَدْعًا فَيَرْأَبُوهُ، فلم يبق إلا أن ينظروا في النحوَيْن، ويأخذوا لمصنفاتهم من كليهما أرجَحَه عندهم، ومنهم من جعل النحو البَصْرِيَّ أَصْلاً، وزاد عليه ما دَعَتْ إليه الحاجة من النحو الكوفيِّ.
وهنا التقى النحوانِ بين أيديهم، على سواءٍ في الدَّرْسِ والتمحيص، واختلافٍ في مقدار النقل والاقتباس من هذا وذاك، تلفيقٌ للنحوَيْن أَخَذَ النُّحاة به منذ القرن الثالث، ولا يزال معمولاً به إلى اليوم، فهل يصحُّ أن نُطْلِقَ على أصحاب هذا التلفيق اسمَ مدارس، فنقول مثلاً: مدرسة النَّحو البغداديَّة، أو مدرسة النَّحو المصريَّة، كما جاء في كتاب “المدارس النحويَّة”.
يبقَى بعد هذا أنَّ النَّحْوِيِّين القُدماءَ يُرَدِّدونَ في كُتُبِهم آراءً يعْزُونَها إلى مَن يَصِفُونَهم بالبغداديين، وقد فَهِمَ بعضُ الباحثين من هذا أنَّ هؤلاء البغداديين يؤلِّفون مدرسة نحوية ثالثة، لكنَّ ثَمَّة دلائلَ تَدُلُّ على أن هؤلاء البغداديِّينَ همُ الكوفيون الذين استَقَرَّ المُقامُ بهم في بغدادَ، لأنَّ وصفهم بالكوفيين مَدْعَاةٌ إلى اللبس والتخليط:
فالأخفش يقول عن سيبويه – مُنْصَرَفَهُ من بغداد بعد مناظرته للكِسَائِيِّ -: “وجَّه إليَّ فَجِئْتُهُ، فعرَّفني خَبَرَه مع البغداديِّ[74]، ومن يكون هذا البغداديُّ، إذا لم يكن هو الكِسَائِيَّ؟ ويقول المبرِّد: ما رأيت للبغداديين كتابًا أحسنَ من كتاب يعقوبَ بن السِّكِّيتِ في المنطق”[75]، وابنُ السِّكِّيتِ كُوفِيٌّ[76] ويقول ابْنُ جِنِّي: لو قال قائل: المبتدأ مرفوع بما يعود عليه من ذِكْر، لقلتُ: “هذا قول الكُوفِيين”، ثم عاد فكَرَّرَ العبارة في موضع آخَرَ، فقال: “ومن ذلك قول البغداديِّينَ: إنما الاسم يرتفع بما يعود عليه من ذِكْرِهِ”[77].
ولئن كان نحوُ البصرة أَحْظَى عند الناس، لقد كان نحوُ الكوفة أَحْظَى عند الخلفاء، إذ كانت الكوفةُ أقرَبَ من البصرة إلى بغدادَ، وفيها كانت البَيْعَة للسَّفَّاح، ولبِثَتْ بعض الوقت حاضِرَةَ الدولة، أما البصرة فقد ظهر فيها إبراهيم بن عبدالله بن الحسن يدعو لأخيه محمد، وكان قد خرج بالمدينة فاستجاب لإبراهيم كثيرٌ من أهل البصرة، فاستوْلَى عليها وعلى ما قَرُب من واسط والأهواز[78].
لذلك أُتِيح للكوفيِّين أن يسبقوا إلى بغداد، ففتح الخلفاء لهم أبوابهم، ووكلوا إليهم تأديب أولادهم؛ فكان الكِسَائِيُّ في حاشية الرشيد، ثم مؤدِّبَ وَلَدَيْهِ[79]، وكان الفَرَّاء مُؤَدِّبَ وَلَدَيِ المأمون[80]، وكان ابن السِّكِّيتِ يُنادِمُ المتوكِّل[81]، فأَعظَمَ الناسُ نحاةَ الكوفة، وأقبلتِ الدنيا عليهم، ولم يظفَرِ البصريُّون الذين رحلوا إلى بغداد بمثل ما ظَفِرَ الكوفيون به ولا قريبٍ منه! فأَخْفَقَ سِيبَوَيْهِ في مناظرة الكِسَائِيِّ، واتَّخذ الكِسَائِيُّ الأَخْفَشَ مُؤَدِّبًا لأولاده[82]، وكان المبرِّد يعلِّم الزَّجَّاجَ النحو، فيعطيه الزَّجَّاجُ كلَّ يوم دِرْهمًا أَجْرًا له[83].
النحو وأشهر علمائه
بعد انقسام الدولة العباسية
ضَعُفَتِ الدولة العباسية، وتزايلت بِنْيَتُها؛ فطَمِعَ وُلاة الأقاليم فيها، وأَوْهَنُوا صِلتَهُم بِها، وكان آل بُوَيْهِ أجْرَأَهُم عليها؛ فقدِ استقلُّوا بفارِسَ والجزيرة، ثُمَّ استوْلَوْا على بغدادَ، وسلبوا الخليفة سلطانه سنة 334.
فَنَشَأَتْ دُويلات هنا وهناك، وتعدَّدَتِ الحواضِرُ فيها والأمصار، ولم تبقَ بغدادُ – كما كانت قِبْلَةَ العُلماء ومَنْ إليهم، فقد كان حُكَّام الدُّويلات يجدُّون في تَأْثِيلِ مُلْكِهِمْ، ويجتذبون العلماء والشُّعراء إليهم، فقصدوهم وأقاموا في ظِلالهم قليلاً أو كثيرًا، لذلك بقيت الحياة العلمية على قوتها ونشاطها؛ بل لعلَّها زادت قوَّة على قوتِها، ونشاطًا على نشاطها.
أشهر نحاة شرق دجلة
1 – السِّيرَافِيُّ:
هو أبو سعيد الحسن بن عبدالله السِّيرَافِيُّ، ولد بسِيرَافَ حوالَيْ سنة 288، وأخذ اللغة والنحو عن بعضِ عُلماء عصره، وكان عالمًا حُجَّةً، أمينًا ديِّنًا ورِعًا، تُوُفّي ببغداد سنة 368.
ومن كُتُبِه: “شرح كتاب سيبويه”، و”الوقف والابتداء”، و”أخبار النحويين البصريين”[84].
وعنــده: أنَّ كان الزائدة ترفَعُ ضميرَ المصدر الذي تدل عليه فاعلاً لها[85].
2 – الفَارِسِيُّ:
هو أبو عليٍّ الحَسَنُ بنُ أحمَدَ الفَارِسِيُّ، وُلِد بفَسا مدينة قريبة من شِيرَازَ، وأخذ عنِ ابن السَّرَّاج وغيرِه، رحَل إلى أقْطارٍ من الدولة، وتُوُفِّيَ ببغداد سنة 377، وله مصنَّفات كثيرة، منها: “الإيضاح في النحو”، و”التكملة في الصرف”، و”الحجة في علل القراءات السبع”[86].
ومن آرائه: أنَّ الأسماء السّتَّة لا تعرب بالحروف؛ ولكن بحركاتٍ مُقَدَّرَةٍ عليها[87].
3 – ابن جِنِّي:
هو أبو الفتح عثمانُ بنُ جِنِّي، نشأ بالمَوْصِلِ، واتَّصل بأبي علي الفَارِسِيِّ، يأخذ عنه ويَسْتَمْلِيهِ، وتُوُفِّيَ سنة 392.
ومن مؤلَّفاته: “الخصائص”، و”شرح تصريف المَازِنِيِّ”، و”المُحْتَسَبُ” وهي مطبوعة، و”سِرُّ صناعة الإعراب”، وقد طبع منه جزء واحد[88].
ومن آرائه النحوية: أنَّ إذا الفجائيةَ ظَرْفُ مكانٍ[89].
4 – الزَّمَخْشَرِيُّ:
هو أبو القاسم محمود بن عمر الزَّمَخْشَرِيُّ، ولد بِزَمَخْشَرَ سنة 467، ورحل إلى خُرَاسَانَ والعراق، وجاور بِمَكَّة المكرَّمة، وكان من أعلم الناس بالنحو، واللغة، والتفسير، وغريب الحديث. وتُوُفِّيَ بِخُوَارِزْمَ سنة 538.
ومن كُتُبِه: “المُفَصَّل”، و”النَّمُوذَج” في النحو، و”أساس البلاغة” في اللغة، و”الفائق في غريب الحديث”[90].
ومن آرائه: أن لن تفيد توكيد النفي وتأبيده[91].
النحو في مصر والشام وأشهر علمائه
شاء الله تعالى أن تكون مصر والشام صِنْوَيْنِ، وكُلَّمَا فرَّقت بينهما الأحداث عادت فجمعتهما على المودَّة والإخاء؛ لذلك سأجمع تَرَاجِمَ أشهر النحاة فيهما، كما تُجْمَعُ تَرَاجِمُ أبناءِ الوطن الواحد:
1 – ابن بَابْشَاذ:
هو أبو الحسن طاهر بن أحمد، أصلة من العراق، ونشأ بمصر، وتصدَّر للإقراء في جامع عمرو بن العاص، ثم انقطع للعبادة، وتوفي سنة 496.
ومن مؤلَّفاته: “شرح جمل الزجاجي”، و”المحتسب في النحو”[92].
ومن آرائه: أنَّ إذن تنصب الفعل مع الفصل بينها وبينه بالنداء والدعاء[93].
2 – ابن مُعطٍ:
هو أبو الحسن بن زين الدين، ولد بحَلَبَ سنة 553، ورحل إلى دِمشق فأقرأ بها النحو وبمصر، وتوفي في القاهرة سنة 628.
وله ألفيَّة في النحو، وحواشٍ على “أصول ابن السراج”، وكُتُب أخرى[94].
ويختار من أحكام النحو: أن يَنُوبَ الجارُّ والمجرور عن الفاعل حين يَجتمع هو والمصدر والظرف بعد فعل مبنيٍّ للمجهول[95].
3 – ابن يَعِيشَ:
هو مُوَفَّقُ الدين بن علي المشهور بابن يَعِيشَ، ولد بحَلَبَ سنة 553، وأخذ عن علمائها، وكان بارعًا في النحو والصرف، وتوفّي بحلب سنة 643.
ومن كتبة: “شرح التصريف لابن جنّي”، و”شرح المفصل للزمخشري”[96].
وهو يؤيد: أنَّ الفاء في مثل {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} واقعة في خبر إن لا زائدة[97] وهي من سورة الجمعة من آية (8).
4 – ابن الحاجب:
هو عثمان بن عمر، المعروف بابن الحاجب، ولد بإِسْنَا حوالي سنة 570، ونشأ بالقاهرة، ولازم الأخذ عن العلماء، وكان من أَذْكَى الناس، فَنَبَغَ في علوم شتَّى، وغلب عليه النحو، وتُوُفِّيَ في الإسكندرية سنة 646 هـ.
ومن مُصنَّفاته: “الكافية” و”شرحها” في النحو، و”الشافية” و”شرحها” في الصرف، و”الأمالي”، وغيرها [98].
وعنــده: أنَّه يجوز أن يكون خَبَرُ أنَّ المذكورة بعد لو اسمًا إذا كان جامدًا[99].
5 – ابن هشام:
هو عبدالله جمال الدين بن يوسف الأنصاريُّ، ولد بالقاهرة سنة 708، وأتْقَن العربية حتى فاق أقرانه، وتوفّي بالقاهرة سنة 761. وله مؤلَّفات كثيرة قَيِّمَة، منها: “مغني اللَّبِيبِ”، و”أوضح المسالك”، و”شذور الذهب” و”شرحه”[100].
ويُعَدُّ “المغني” أبرعَ كُتُبِهِ وأنفَعَها، فقد ضَمَّنَهُ شرحًا وافيًا لحروف المعاني، وأورد فيه كثيرًا من القضايا، مقرونةً بالآراء التي قيلتْ فيها، ثم مناقشة منصفة تؤيدها الشواهد والحجج، وهو لا يجيز ذكر أو بعد سواء.
6 – ابن عَقِيلٍ:
هو أبو عبدالله بن محمد، أصله من همذان، ولد سنة 698، وكان إمامًا في العربية، وتوفي سنة 769، ومن كتبه “شرح التسهيل”، و”شرح ألفية ابن مالك”[101]، وهو من أسهل كتب النحو وأشهرها.
7 – الشيخ خالدٌ الأَزْهَرِيُّ:
هو خالد بن عبدالله، ولد بجِرْجَا، ومهر في النحو وعلوم اللغة، وأَقْرَأَ في الأزهر، وإليه ينسب، وتوفي سنة 905، ومن كُتُبه: “شرح كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب لابن هشام”، و”التصريح بمضمون التوضيح”، المشهور بـ”شرح التصريح على التوضيح”[102]، وهو أجلُّ كُُتُبِهِ.
8 – السُّيُوطِيُّ:
هو عبدالرحمن جلال الدين بن أبي بكر، لازم أشْيَاخه، ينهل من معارفهم حتى تَضَلَّعَ ريَّا، وانقطع للتصنيف، فصنف قدرًا عظيمًا من الكتب في مختلف العلوم، وتوفي سنة 911[103].
وكتابه “هَمْعُ الهَوَامِعِ” من أَنْفَسِ كُتُب النحو في جمع المسائل، واختلاف المذاهب، واستيعاب الآراء، ولا يخلو الكتاب من بعض الاختيارات، ومن اختياره في إعراب “بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ”، أن يكون بِحَسْبِكَ خَبَرًا مُقَدَّمًا، ودرهم مبتدأ مؤخرًا[104].
9 – الأُشْمُونِيُّ:
هو علي نور الدين بن محمد، من علماء عصره المعدودين، وأشهر كتبه “منهج السالك إلى ألفية ابن مالك”[105]، كتاب واسع الشهرة، ينتهي كل باب فيه بخاتمة تتضمن حقائق لا تخلو من طرافة وفائدة.
10 – الصَّبَّانُ:
هو محمد بن علي، ولد بالقاهرة، وأخذ مختلف العلوم عن شيوخ عصره، وتوفي سنة 1206[106].
ومن مؤلَّفاته “حاشيته على شَرْحِ الأُشْمُونِيِّ لِلألفيَّة”، وهي أشهر حواشي النحو، حافلةٌ بالمنقول والتعقيبات والجدل والآراء.
النحو في الأندلس والمغرب وأشهر علمائهما
كان السلف من علمائنا يُكثِرُونَ الارتحال إلى الأقطار الإسلامية المختلِفة، وخاصَةً العراق، لِيَلْقَوْا علماءها، ويَطَّلِعُوا على ما عندهم من العلم، ثم يعودوا بما جمعوا من كتب، وما وعوا من علم.
وإذا كان دَيْدَنُ العلماء الرحلةَ إلى البلاد البعيدة – فأولى أن تكون بين الأندلس والمغرب، لكن يبدو أن أهل الأندلس كانوا أكثر ارتحالاً إلى المغرب من أهل المغرب إلى الأندلس.
وقد قيَّض الله للأندلس في مطلع الدولة الأموية رُوَّادًا منَ العلماء وَصَلُوها بالمشرق، بما نقلوا إليها من كتب الشريعة والنحو.
وكان نحو الأندلس أقربَ إلى نحو الكوفة، لأنَّ كتاب الكِسَائِيِّ كان أَسْبَقَ إليهم[107]، وكان الأندلسيون أهل قرآن كالكوفيِّين، ولم يستطع كتاب سيبويه إذ جاءهم أن يُعَدِّلَ من منهجهم كثيرًا؛ فهذا ابنُ مالك – أعظم نُحَاتِهِم – يوافق الكوفِيِّين في كثير من آراءهم، ويُكثِر الاستشهادَ بالحديث ما لم يُكْثِر غيرُهُ.
أشهر نحاة الأندلس والمغرب
1 – ابن مَضَاء:
هو أحمد بن عبدالرحمن بن مَضَاء، ولد بقُرْطُبَةَ سنة 513، وكان عارفًا بصنوف العلم، ومات بإِشْبِيلِيَّةَ سنة 592.
ومن مصنَّفاته: “المشرق في النحو”، و”الرد على النحاة”[108]، وقد أنكر نظرية العامل فيما أنكر فيه على النّحاة، وغلا في ذلك غُلُوًّا كبيرًا، وقد كان لنشر هذا الكتاب صدًى قَوِيٌّ بين المشتغلين باللغة العربية، فمنهم من تحمَّس له، ومنهم من مَقَتَهُ وازْوَرَّ عنه.
2 – الشَّلَوْبين:
هو عمر بن محمد المعروف بالشَّلَوْبين، ولد بإِشْبِيلِيَّة سنة 562، وكان إمام عصره في العربية، فكثُر الآخذون عنه. وتوفي سنة 645.
ومن مصنَّفاته: “التوطئة في النحو”، و”تعليق على كتاب سيبويه”[109].
ومن آرائِه: أن ليس ولا تنفيان الأزمنة الثلاثة، كما يقول قوم، ولكنهما في الأصل لنفي الحال ما لم يكن الخبر مخصوصًا بزمان[110].
3 – ابن مالك:
هو محمد جمال الدين بن عبدالله، وُلِدَ بجَبَّانَ سنة 600، وأخذ العربية عن غير واحد، واعْتَمَدَ على ذكائه في تحصيل الكثير من عِلْمِه، رَحَلَ إلى الشَّام، وتَنَقَّل بَيْنَ مُدُنِه، ثُمَّ استقرَّ في دمشق، وتصدَّر للتدريس فيها حتى لَقِيَ ربَّه سنة 672، وله مصنفات كثيرة منها: “تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد”، و”الكافية الشافية”، وخلاصتها المعروفة بـ”الألفية”[111]، وقد نالت شهرة واسعة بين كتب النحو عامة، وظفرت بعناية كثير من العلماء، فشرحوها شروحًا مختلفة، حتى صارت لها السيطرة على دراسة النحو.
ومن آرائه: وقوع (إذ) مفعولاً به[112].
4 – ابن آجُرُّومَ:
هو محمد بن محمد الصَّنْهَاجِيُّ، ولد سنة 672، وعاش بفاس، وله مصنفات أشهرها المقدمة المعروفة بـ”الآجُرُّومِيَّةِ”، وقد نفع الله بها كثيرًا من طلاب العلم المبتدئين.
وتدل – فيما يقول السيوطي – على أن مؤلفها كان على مذهب الكوفيين في النحو؛ لأنه استعمل بعض مصطلحاتهم، وتوفي سنة 723[113].
5 – أبو حَيَّانَ:
هو محمد أَثِير الدين يوسف، ولد ببلد على مقربة من غِرْنَاطَةَ سنة 654، وأخذ عن جمع كبير من علماء المشْرِق والمغرب، ونبغ في علوم كثيرة، وقدِ استقرَّ في القاهرة بعد تجوال في بلاد مختلفة، وتصدَّر بها للتدريس.
ومن مؤلفاته: “التذييل والتكميل في شرح التسهيل”، و”ارتشاف الضرب من لسان العرب”، وتفسير “البحر المحيط”. وتوفي بالقاهرة سنة 745[114].
وكان يمنع الاستشهاد بالأحاديث، ولا يرضى عن الخلاف في المسائل النظرية التي لا جدوى منها في اللغة؛ كالخلاف في أصل المرفوعات والمنصوبات، فيقول: “وهذا الخلاف لا يجدي”[115].
سيرة النحو
لم يكد أبو الأسود يبدأ وضع النحو، ويكتب منه ما كتب، ثم يَعلَم الناس نبأه حتى أسرع إليه نفر من الطلاب يسمعون منه، ويتتلمذون له، ثم يُقبِل عليهم من بعد طُلاب آخرون يصنعون صنيعهم هم مع أبي الأسود.
وهكذا تمضي المسيرة فَوْجًا بعد فَوْج، كلما مضى فَوْج خَلَفَهُ آخَرُ، على مدى نحو أربعةَ عَشَرَ قرنًا، وما منهم إلا صانع للنحو صنيعًا، أو مضيفٌ إليه جديدًا، كل على مقدار ما يتاح له، ويفتح الله به عليه.
وكان عبدالله بن أبي إسحاق أوَّل مَن ذكر الناسُ له عملاً في النحو بعد أبي الأسود، فقالوا: إنه فرَّع النحو، وقاسه، وأملى كتابًا في الهمز[116]، والهمز حقيق أن يؤلَّف فيه كتاب، فإن له في القراءات أحوالاً يتنقل بينها، كما للاسم المعرب أحوال في الكلام يتنقل بينها أيضًا.
وقد مكنت له حفاوته بالهمز والتأليف فيه أن يفوزَ به على أبي عمرو بن العلاء في المناظرة التي دعاهُما إليها بلال بن أبي بردة، إبَّان ولايته على البصرة[117]، وإذن يمكن أن يقال: إن عبدالله بن أبي إسحاق هو أوَّل من ألَّفَ كتابًا في الصرف، وكانتْ وفاته سنة 117، وألف عيسى بن عمر كتابين في النحو، نوَّه بهما الخليل في بيتين، ردَّدتهما كتب التراجم المختصة، وهما:
ذَهَبَ   النَّحْوُ   جَمِيعًا   كُلُّهُ        غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرْ
ذَاكَ  إِكْمَالٌ،   وَهَذَا   جَامِعٌ        وَهُمَا  لِلنَّاسِ   شَمْسٌ   وَقَمَرْ
واسم الكتاب الأول يدل على أنَّه أَكْمَلَ نَقْصًا، واسم الآخَرِ يدل على أنه جمع متفرّقًا، وفي هذا إشارة إلى أن النحو لعهد عيسى بن عمر كان قد قطع في سبيل النمو شوطًا بعيدًا، وكانت وفاة عيسى سنة 149.
وبقي الكتابان أو أحدُهما إلى القرن الثالث، فيذكر المبرّد أنه قرأ أوراقًا من أحدهما، فكان كالإشارة إلى الأصول[118].
ثم جاء كتاب سيبويه، فبَهَرَ الناس، واستأثر بإعجابهم، فقد رأوا منه قصرًا منيفًا، شامخ الأعالي، لا يسع الناظر إليه، ولا الداخل فيه، إلا أن يسبح الله الذي خلق الخليل، وجعله خازن ذخائره، وخلق سيبويه، وجعله مهندس بنيته.
إنه اللغة في نحوها وصرفها وأصواتها؛ بل في أصول بلاغتها أيضًا، وإنه النحو في أحكامه وقضاياه، وفي أقيسته وعلله، وفي أصوله وفروعه، وفي مناهجه وشواهده، لم يدع من ذلك للذين جاؤوا من بعده إلا يسيرًا لا يحسب له حساب، والذين قالوا: إنه قرآن النحو لم يُبْعِدُوا ولم يُسْرِفُوا، لقد ملأ الدنيا عِلمًا، ونفخ في الناس روحًا من البحث ما كانت لولاه لتكون.
وما نريد أن نَبْخَسَ فَضْلَ السابقين من سَلَفِ سيبويه، فقد أمدَّه كثيرٌ منهم بقدرٍ عظيمٍ منَ الآراء والأحكام، ولا سيما يونس بن حبيب، والأخفش الأكبر، وأبو عمرو بن العلاء، فكان لهم بذلك جهد مشكور في صنع الكتاب، وفي ظهوره فجأة على هذه الصورة شاهد صِدْق على مبلغ الجِدِّ والإخلاص في دراسة النحو وتنمية مادته؛ فليس بين ظهوره وابتداء وضعه سوى قرن واحد، يزيدُ قليلاً، ولكنَّها الهمة الكبرى، والمطلب الجليل يصنعان العجب العجاب.
ولم يكفَّ النحاة بعد سيبويه، ولا فترت همتهم عن التأليف في النحو، فألَّفوا فيما يخطر منه بالبال وما لا يخطر، لا تكاد تصْرِفهم عنه الفتن واضطراب الأحوال، فكان من ذلك ثروة هائلة من كتبه، تتخالَفُ موضوعًا وحجمًا، ما بين مبسوط، ووسيط، ووجيز، أكثرُها في النحو والصرف معًا، وبعضها في النحو خاصة، أو الصرف خاصة.
وتنوَّعت عبارات الكتب، فواضحة وغامضة، ومجملة ومفصلة، وقاصِدَة ومستطرِدَة، يَشُوبُها قليلٌ أو كثير من تجريد الفلسفة وصرامة المنطق، وما كان ممكنًا أن يبرأ النحو منهما، فقد صارت لهما الغلبة على مناهجِ الدرس ومذاهب التفكير أيام ازدهار الحياة العلمية، فكان من أثرهما أن غمضت العبارة قليلاً أو كثيرًا، وخاصة في كتب المشرق، وبعض كتب العصور الأخيرة.
على أنَّ لغموض العبارات أسبابًا أخرى، كإجداب القريحة، وضعف ملكة البيان، وقد كان المازني ممن يصعب الفهم عنهم[119].
ومن العجيب أن يتعمَّد بعض النحويين الغموض، بل أن يكون منهم مَن يعيب الوضوح، ويرى أن الأخذ به يُزْري بالنحو، فقد قيل للأخفش: لِمَ لا تجعل كتبك مفهومة؟ فقال: أنا رجل لم أضَعْ كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلَّت حاجَتُهم إليَّ فيها؛ وإنما كانت غايتي المنالة[120].
وكان السِّيرَافِيُّ معروفًا بوضوح العبارة، فلمَّا أَلَّفَ كتابة “الإقناع في النحو” لم يَرُقِ ابنه أن يكون على ما رأى من السهولة، فكان يقول: “وضع والدي النحو في الزبالة”[121].
هكذا كان النحو نُشُوءًا وارتقاء في البصرة ثم الكوفة، وهو ما يقضي به منطق الواقع، فلم يكن بجزيرة العرب ولا بالبلاد المفتوحة حاجة عاجلة إليه؛ فأمَّا الجزيرة فوطن العرب والعربية، وأمَّا البلاد المفتوحة فكان أهلها هم الكثرة الكاثرة، وكان العرب وافدين عليهم، وهم القلة القليلة، ولم يكن الخِلاط أوَّل الأمر كثيرًا ولا عامًّا بين هؤلا وهؤلاء، وإنما كان بين الرؤوس من الفريقين وعلى قدر الحاجة الماسَّة، ومن اليسير أن تكون الترجمة إذا ذاك هي وسيلة التفاهم بينهما والخطاب؛ فلمَن يوضع النحو إذن؟ وما الحاجة الدافعة إلى المبادرة إليه، والتفرغ له، والتأليف فيه؟ ومَثَلُ الفاتحين إذ ذاك في هذه البلاد، كمثل البعثات السياسية التي تمثل دولها في دول أخرى في عصرنا، أو تكاد.
من أجل ذلك تخلَّفت البلاد المفتوحة عن مواكبة مسيرة النحو في البصرة والكوفة، ولم يتهيأ لها أن تشارك فيها بالدراسة المتخصصة والتأليف الرفيع إلا حوالي القرن الثالث حين دعت الحاجة إلى شد أزر العربية، والحفاظ على سلامتها.
وظل النحو على ما كان له من شأن إبان عظمة الدولة، فلم يتوقف في مسيرته، ولا غض منه أن تضعضعت الخلافة، وأصبحت الدولة مِزَقًا متناثِرَةً، يقوم على كل مِزْقَةٍ دُوَيْلَة؛ بل لعله أن يكون كغيره من العلوم قد زاد خصبًا ونماء، فقد كان بين أصحاب هذه الدويلات تنافُسٌ، وفيهم طموح، كل يحاول أن يجتمع بحضرته من العلماء والشعراء مثل من كان منهم بحضرة الخلفاء، وأكثر ممن بحضرة أقرانه من أصحاب الدويلات، فجعلوا يجتذبونهم، ويحببون إليهم المقام في ظلالهم، بما كانوا يجزلون لهم من الجوائز، ويولونهم من التكرمة والإجلال، لا فرق فيهم بين عربي وأعجمي.
فكان لهم ما أرادوا، وقصدهم العلماء والشعراء، يؤلف العلماء لهم الكتب، وينظم الشعراء لهم المدائح؛ فهذا أبو عليٍّ الفَارِسِيُّ كان عند سيف الدولة الحَمدَانِيِّ، ثم استدعاه عَضُدُ الدولة ابن بُوَيْهِ ليُؤَدِّبَ أولادَ أخيه، فمضى إليه أبو عليٍّ، وألف له كتاب “الإيضاح”، فعدَّه قصيرًا، وكانت له مع أبي عليٍّ مجالسُ ومساءلاتٌ في النحو[122].
وولت الدولة الفاطمية ابن بابشاذ، ثم ابن بَرِّيٍّ أمْرَ ديوان الإنشاء؛ لنظر ما يصدر عنه من رسائل، وإصلاح ما عسى أن يشوبَها من أخطاء[123]، ووفد تاج الدين الكِنْدِيُّ على فَرّوخشاه ابن أخي صلاح الدين في دمشق، فأكرم وِفادَتَهُ واستوزره، وقرأ عليه المعظَّم عيسى الأيوبي كتاب سيبويه و”شرح الإيضاح”[124]، ووفد ابن الحاجب على الملك الناصر داود بالكرك، فأعظم قدره، وقرأ النحو عليه[125]، وأهدى الغوريُّ إلى السُّيُوطِيِّ خَصِيًّا وألفَ دينار فردَّ الأَلْفَ، وأخَذَ الخَصِيَّ، وأَعْتَقَهُ وجعله خادمًا في الحجرة النبوية[126].
وكثير من الناس يَمْقُتُونَ النحو، لكثرة الخلاف، وتشابُك الآراء فيه، ولا يد لأحد في هذا، فهو من عمل الظروف والأحوال، ولقد تداول العلماء النحو يوسّعونه دراسة وبحثًا على توالي العصور، وكثيرٌ من شواهده تتعدَّد رواياته، والنحويون كغيرهم تتفاوت حظوظهم من العلم، وتتفاوت درجاتهم في التذوُّق والفَهْم.
ولم يَفُتِ النحاةَ آخِرَ الأمر أن يُيسروا النحو على طالبيه، فتناولوه بالنظم والاختصار، وأشهر منظوماته “ألفية ابن معط” و”ألفية ابن مالك”، ولا خلاف أن الكلام المنظوم أسهل حفظًا وأبقى في الذهن أثرًا، على أن آراء النحاة في كثرتها، وتخالف مذاهبها إن تكن ترهق المتعلمين في درس النحو – فإنَّ فيها عونًا محمودًا للُّغَوِيِّينَ الذين يَرْقُبُونَ اللغة المعاصرة في تطوُّرِها، واستحداث أساليبَ وألفاظٍ فيها، فليس يعدمهم أن يقفوا منها على رخصة، أو يهتدوا بها إلى وجه يُقِيلُ عَثَارَهَا، ويُجِيزُ استعمالها في فصيح الكلام.
ومن النحاة من اتخذ النَّظْمَ أداة لإلغاز بعض مسائل النحو، واشتهر من هؤلاء السَّخَاوِيُّ المُتَوَفَّىَ سنة 643[127]، والدَّمَامِينِيُّ المتوفى سنة 837[128]، وهو نوع من المهارة الذهنية لا قيمة له، ولا جدوى منه.
النحاة في المجتمع
ما من أحد يمارس عملاً حتَّى يُعرَفَ به، ويُنسَب إليه، إلا خلَّف فيه أثرًا متميزًا، وقد أورث النَّحوُ أصحابه الأوَّلين غَيْرَةً على اللغة، وجرأةً على نقد المخطئين فيها، فضاق بهم خَلْقٌ كثير.
قال الأَخْفَشُ: كان أميرُ البصرة يقرأُ قوله تعالى في سورة الأحزاب من آية 56: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} بالرفع، فمضيت إليه ناصحًا، فانتهرني، وتوعدني، وقال: تُلَحِّنُونَ أمراءكم؟![129]، وكان الشُّعراء أشدَّ الناس سخطًا عليهم لذلك، فهَجَوْهُمْ، وسَخِرُوا منهم.
ومنَ النُّحاة مَن كان يَتَقَعَّر في كلامه، كأبي عَلْقَمَةَ النَّحْويِّ؛ فقد رأى عَبْدًا حَبَشِيًّا يضرب الأرض بآخَرَ صَقْلَبِيٍّ، ويُدخِل رُكْبَتَيْهِ في بطنه، فلمَّا أُدْخِل للشهادة قال: رأيت هذا الأَسْحَمَ قد مال على هذا الأَبْقَعِ، فحطَّأَهُ على فَدْفَدٍ، ثم ضَفَطَهُ بِرُضْفَتَيْهِ، فلم يفهم الأمير كلامه وضاق به فحَسَرَ عن رأسه، وقال للصَّقْلَبِيِّ: شُجَّنِي خمسًا، وأَعْفِنِي منَ شهادة[130].
على أنَّه كان من النحاة ظُرَفَاءُ، منهم سعد بن شَدَّاد، إذ حضر مجلس زياد، وقد ترافع إليه بنو راسب والطفاوة في مولود، فقال سعد: أيها الأمير! يُلْقَى المولود في الماء؛ فإن رسب فهو من راسب، وإن طفا فهو من طفاوة، فأخذ زياد نَعْلَهُ، وقام ضاحكًا[131]. وقال محمد بن موسى الدوالي:
وَقَائِلَةٍ:      أَرَاكَ      بِغَيْرِ       مَالٍ        وَأَنْتَ       مُهَذَّبٌ       عَلَمٌ       إِمَامُ
فَقُلْتُ:   لأَنَّ   لامًا   عَكْسُ    مَالٍ        وَمَا دَخَلَتْ عَلَى الأَعْلامِ لاَمُ [132]
 
وكان النُّحاة في رِزقهم، وأحوال مَعِيشَتِهم، وسِيرَتِهم في الناس كسائر الطوائف؛ فكان الكِسَائِيُّ والفَرَّاء من مُؤَدِّبِي الأُمَراء وأبناءِ الكُبَرَاءِ، وكان ثَعْلَبٌ يَقتضي كلَّ شهر أَلْفَ درهم، يُجرِيها عليه محمد بن عبدالله بن طاهر، وكان مع ذلك حريصًا مُقَتِّرًا[133].
وكان المُبَرِّدُ يُعلِّم الزَّجَّاج النحوَ، فيعطيه الزجَّاج كل يوم درهًما[134].
وكان ابن الدَّهَّان من أئمة النحو، وكانتْ له مشاركة في الفقه والأصول، وكان مع ذلك شديدَ الفقر، يجلس في الحَلْقَةِ وعليه ثوب لا يكاد يَستُرُه[135]، وكان السِّيرَافِيُّ لا يخرج إلى مجلس الحكم، ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم إلا بعد أن يَنْسَخَ عَشْرَ وَرَقَاتٍ، يأخذ أَجْرَها عَشْرَةَ دَرَاهِمَ تكون قدر مؤونته[136].
وطلب القائم بأمر الله محمدَ بن الورَّاق ليُعَلِّم أولاده، وكان ضريرًا فلما وصل إلى باب حجرة الخليفة، قال له الخادم: وصلت، فقبِّلِ الأرض، فلم يفعل وقال: السلامُ عليكَ يا أمير المؤمنين، وجلس، فقال القائم: وعليكَ السلام يا أبا الحسن، ادْنُ منِّي، فَدَنَا، فسأله عن مسائل أجاب عنها[137].
وكان عبدالله بن الخَشَّاب يلعب بالشِّطْرَنْجِ مع العوامِّ على قارعة الطريق، ويقف في الشوارع على حِلَقِ المُشَعْوِذِينَ، واللاعبين بالقرود والدِّبَبَةِ، وكان إذا أراد شراء كتاب غافل الناس، وقطع منه ورقة ليأخذه بثمن بَخْس[138].
وليس كلُّ ما تَرَكَ النّحاة منَ النحو هو هذا المدون في كتبه أبوابًا وفصولاً، ولكنهم تركوا قَدْرًا صالحًا من المناظرات فيه، تعد دروسًا عالية في المساجلة والتطبيق، وأشهرها مناظرة سيبويه والكِسَائِيِّ؛ فقد جاء سيبويه الكوفة، لا يصحبه أحدٌ من شِيعَتِهِ، ليُناظِرَ الكِسَائِيَّ في وطنه، وبين تلاميذه ومريديه، والْتَأَمَ الجمعُ في مجلس يحيى البَرْمَكِيِّ، فقال الكِسَائِيُّ لسِيبَوَيْهِ: تسألني أو أسألك؟ قال سِيبَوَيْهِ: بل تسألُنِي أنت. قال الكِسَائِيُّ: كيف تقول: قد كنتُ أظنُّ أنَّ العقرب أشدُّ لَسْعَةً من الزُّنْبُورِ، فإذا هو هي، أو هو إيَّاها؟ قال سِيبَوَيْهِ: فإذا هو هي، ولا يجوز: هو إياها، قال الكِسَائِيُّ: يجوز الوجهان، فاحتَكَمُوا إلى مَن بِباب يَحيى منَ العرب: فوافقوا الكِسَائِيَّ[139]، فاستكان سيبويه، وانصرف مهزومًا.
ويرى كثير منَ النُّحاة أن العَصَبِيَّة تدخلتْ في المناظرة على نحوٍ ما، ولا أُراه بعيدًا؛ فالكِسَائِيُّ وثيق الصلة بكبار الدولة، وهو بعدُ إمامُ نُحاة الكوفة بلا خوف.
وبعــدُ: فقد صنع النُّحاة للعربية أعظمَ ما يستطيع البَشَر أن يصنعوا، ويرحم الله أبا العلاء المَعَرِّيَّ إذ يقولُ عن ثلاثة من كُبَرائِهم:
تَوَلَّى  سِيبَوْيَهِ  وَجَاشَ  سَيْبٌ        مِنَ  الأَيَّامِ،   فَاخْتَلَّ   الْخَلِيلُ
وَيُونُسُ أَوْحَشَتْ مِنْهُ  الْمَغَانِي        وَدُونَ مُصَابِهِ الْخَطْبُ الْجَلِيلُ
أَتَتْ عِلَلُ الْمَنُونِ فَمَا  بَكَاهُمْ        مِنَ اللَّفْظِ الصَّحِيحُ وَلاَ الْعَلِيلُ
وَلَوْ  أَنَّ  الْكَلامَ  يُحِسُّ  شَيْئًا        لَكَانَ لَهُ وَرَاءَهُمُ أَلِيلُ [140]
 

[1] “البيان والتبيين”: 2/130.
[2] “البيان والتبيين”: 2/217.
[3] “فتوح البلدان”: 384، و”الإصابة” رقم 4963.
[4] هو العرجي في “درة الغواص”: 43، والحارث المخزومي في “الخزانة”: 1/217 وانظر: “إنباه الرواة”، الصلب و”الحاشية” 1/249.
[5] “نزهة الألبا”: 7 – 9.
[6] “طبقات القراء”: 1/345.
[7] “مراتب النحويين”: 9.
[8] “إنباه الرواة”: 1/5.
[9] “الأغاني: 11/112، 113، والآية في سورة سبأ: 24
[10] “طبقات النحويين”، 15، والغَمَر، بالتحريك: الدسم وزهومة اللحم.
[11] “الفهرست”: 60، 61.
[12] “اللغة والنحو”: 250، 251.
[13] مجلة مجمع اللغة العربية: 7/248.
[14] التوبة: 3
[15] “صبح الأعشى”: 1/129.
[16] “طبقات النحويين”: 25.
[17] “الأنساب”: 233، و”تاريخ ابن عساكر”: 18/488.
[18] “طبقات القراء”: 1/346.
[19] “إنباه الرواة”: 1/16.
[20] “طبقات ابن سعد”: 7، و”الإصابة”: 3/304، و”إنباه الرواة”: 1/380.
[21] “المحتسب” 2/318، 337 والأولى من سورة هود من آية (5) والأخرى من سورة يوسف من آية (23).
[22] “مراتب النحويين”: 12، و”إنباه الرواة”: 1/207.
[23] “مراتب النحويين”: 13، و”طبقات النحويين”: 28، و”طبقات القراء”: 1/288.
[24] “الكتاب”: 1/360.
[25] “الكتاب”: 1/360.
[26] “مراتب النحويين”: 27 – 41، و”طبقات النحويين” 43 – 47، و”إنباه الرواة”، 1/34 – 47.
[27] “الكتاب”: 1/109. و”نشأة النحو”: 81.
[28] “الكتاب”: 1/248.
[29] “الكتاب”: 1/147.
[30] “مراتب النحويين: 65 و”طبقات النحويين”: 66، و”إنباه الرواة”: 2/346.
[31] “الكتاب”: 1/336
[32] “الكتاب”: 1/164، والحديث في “صحيح مسلم”: 2/51.
[33] “الكتاب”: 1/32، والحديث في “الجامع الصغير بشرح السراج المنير”: 3/255.
[34] “الكتاب”: 1/396، والحديث في “التجريد الصريح”، 1/93.
[35] “الكتاب”: 1/56.
[36] “أسرار البلاغة”: 341.
[37] “الكتاب”: 1/108
[38] “دلائل الإعجاز” 233، 247
[39] “الكتاب”: 1/166
[40] “الكتاب”: 1/284
[41] “أسرار العربية”: 322
[42] “الكتاب”: 1/ 7 وما بعدها.
[43] “الكتاب”: 1/460
[44] “الكتاب”: 1/201
[45] “الكتاب”: 2/404
[46] “تاريخ البلاغة والتعريف برجالها”: 43.
[47] “الكتاب”: 1/359.
[48] “الكتاب”: 1/232 وما بعدها.
[49] “الكتاب: 2/143، وانظر: “سيبويه إمام النحاة”: 89 – 192.
[50] “أخبار النحويين البصريين”: 50.
[51] “مراتب النحويين” 68، و”أخبار النحويين البصريين”: 50، و”بغية الوعاة”: 1/590.
[52] “الهمع”: 1/43.
[53] “طبقات النحويين واللغويين”: 92، و”بغية الوعاة”: 1/463.
[54] “الهمع”: 1/146.
[55] “أخبار النحويين البصريين”: 596، “طبقات النحويين”: 108.
[56] “الهمع”: 1/138.
[57] “أخبار النحويين البصريين”: 108، و”بغية الوعاة”:1/411.
[58] “الهمع”: 1/143.
[59] “الفهرست”: 96 و”إنباه الرواة”: 3/288، و”بغية الوعاة”: 2/290.
[60] “طبقات النحويين”: 138، و”طبقات القراء”: 1/535.
[61] “شرح التصريح”: 2/66.
[62] “مراتب النحويين”: 86، و”طبقات النحويين”: 143.
[63] “الهمع”: 1/105.
[64] “طبقات النحويين”: 155، و”إنباه الرواة”، 1/ 138، و”بغية الوعاة”: 1/ 396.
[65] “شرح الأشموني”: 3/192.
[66] “الكتاب”: 1: 26، 153.
[67] “طبقات النحويين”: 43.
[68] “الهمع”: 1: 45.
[69] “شرح ابن عقيل”، و”حاشية الخضري”: 1: 144.
[70] “حلية الأولياء”: 1: 257.
[71] “أخبار النحويين البصريين”: 57.
[72] “الخصائص”: 1: 117.
[73] “الإنصاف”: 1/ 65.
[74] “طبقات النحويين واللغويين”: 71.
[75] “وفيات الأعيان”: 5: 438.
[76] “الفهرست”: 107.
[77] “الخصائص”: 1: 8، 199.
[78] “محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية”: 31:76.
[79] “إنباه الرواه”: 2: 56، “بغية الوعاة”: 2/ 163.
[80] “بغية الوعاة”: 2: 349.
[81] “طبقات النحويين”: 221.
[82] “بغية الوعاة”: 1: 590.
[83] “بغية الوعاة”: 1: 411.
[84] “إنباه الرواه”: 1: 313، و”بغية الوعاة”: 1: 507.
[85] “الهمع”: 1: 121.
[86] “طبقات النحويين”: 103. و”إنباه الرواة”: 1: 73.
[87] “الهمع”: 1: 38.
[88] “إنباه الرواة”: 2: 335، و”بغية الوعاة”: 2: 132.
[89] “الهمع”: 1: 207.
[90] “إنباه الرواة”: 3: 265، و”بغية الوعاة”: 2: 279.
[91] “المغني”: 1: 124.
[92] “إنباه الرواة”: 2: 95، و”بغية الوعاة”: 2: 17.
[93] “المغني”: 1: 19.
[94] “بغية الوعاة”: 2/ 344، و”نشأة النحو”: 215.
[95] “الهمع”: 1: 169
[96] “بغية الوعاة”: 1/351.
[97] “شرح المفصل”: 1: 134.
[98] “بغية الوعاة”: 2: 134.
[99] “الهمع”: 1: 138.
[100] “بغية الوعاة”: 2: 68.
[101] “بغية الوعاة”: 2: 47.
[102] “الكواكب السائرة”: 1: 188، و”شذرات الذهب”: 8: 26.
[103] “حسن المحاضرة”: 1: 188.
[104] “الهمع”: 1: 93.
[105] “شذرات الذهب”: 8: 165.
[106] “تاريخ الجبرتي”: 2: 227.
[107] “طبقات النحويين”: 278.
[108] “بغية الوعاة”: 1: 323.
[109] “بغية الوعاة”: 2: 224.
[110] “الهمع”: 1: 115.
[111] “بغية الوعاة”: 1: 130.
[112] “الهمع”: 1: 204.
[113] “بغية الوعاة”: ا: 238.
[114] “المصدر السابق”: 1: 28، و”نشأة النحو”: 266.
[115] “الهمع”: 1: 93.
[116] “مراتب النحويين”: 12
[117] “أخبار النحويين البصريين”: 26
[118] “مراتب النحويين”: 23، و”طبقات النحويين”: 37.
[119] “مراتب النحويين”: 78.
[120] “الحيوان”: 1/ 91.
[121] “بغية الوعاة”: 1/508.
[122] “بغية الوعاة”: 1/446.
[123] المصدر السابق: 2/17، 34.
[124] المصدر السابق: 1/570.
[125] “الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية”: 207.
[126] “تاريخ الجبرتي”: 1/226.
[127] “بغية الوعاة”: 2/192.
[128] المصدر السابق: 1/66.
[129] “إنباه الرواة”: 2: 43.
[130] “بغية الوعاة”: 2: 139.
[131] “بغية الوعاة”: 2: 30.
[132] المصدر السابق: 1: 252.
[133] “طبقات النحويين”: 155 – 167.
[134] “إنباه الرواة”: 1: 159.
[135] “بغية الوعاة”: 1: 523.
[136] “إنباه الرواة”: 1: 313.
[137] “بغية الوعاة”: 1: 255.
[138] “بغية الوعاة”: 2: 30.
[139] انظر مثلاً: “وفيات الأعيان”: 3: 134، و”المغني”: 1: 74.
[140] “اللزوميات”: 2: 157، الأليل: الصراخ عند المصيبة.

ترك تعليق