حدود النحو واللغة

حدود النحو

ذكر السيوطي أن للنحو حدودًا شتَّى يريد أن حدود النحو كثيرة مبثوثة متفرقة في بطون الكتب، واختار من بين هذه الحدود ستة حدود لستة علماء من ستة مؤلفات؛ موضحًا أن أليقها بكتابه -أي: أحسنها، وألصقها، وأقربها إلى تحقيق الغرض من تأليف كتابه- هو قول ابن جني في (الخصائص): “هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب، وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، وأصلها -يعني: النحو- مصدر نحوت بمعنى قصدت، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت بمعنى فهمت، ثم خُصَّ به علم الشريعة” انتهى.
ونلحظ أن السيوطي قد تصرف في النقل عن ابن جني تصرفًا يسيرًا بالإيجاز غير المخل؛ خشية الإطالة على القارئ، ورغبة في الوفاء بما ذكره في مقدمة (الاقتراح)؛ حيث قال: “واعلم أني قد استمديت -أي: استمدت بمعنى طلبت المدد والمعونة، فأصله بدالين ثم خُفف بإبدال الثانية ياء لكراهية التضعيف، وهذا الإبدال غير مطرد- هذا الكتاب كثيرًا من (الخصائص) لابن جني، فإنه وضعه في هذا المعنى وسماه (أصول النحو)، لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، ثم قال: فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى بأوجز عبارة، وأرشقها، وأوضحها معزوًا إليه” انتهى.
وهذا النص قد تضمن معنى النحو بأوجز عبارة وأفصح بيان، وأوضح أن النحو هو الاتجاه صوب كلام العرب، والميل جهة طرائقهم في تصرفه من إعراب وتصريف، أي: في تصرف الكلام العربي من وجه إلى آخر؛ سواء كان ذلك في التراكيب أو المفردات، وقال معللًا انتحاء سمت كلام العرب: ليلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وابن جني يُريد بالفصاحة هنا ما يشمل سلامة المفردات من مخالفة الاستعمال، أو القياس، أو هما معًا، وسلامة التراكيب من الوقوع في اللحن.
وقد ذكر شراح (الاقتراح) أن السيوطي في اختصاره كلام ابن جني حذف منه مواضع لا تخلو عن فائدة في الجملة، ولذلك نذكر كامل العبارة لإتمام النفع وإكمال الفائدة، قال ابن جني -رحمه الله تعالى- في (الخصائص): “باب القول على النحو هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع، والتحقير، والتكثير، والإضافة، والنسب، والتراكيب، وغير ذلك؛ ليلحق من ليس من أهل العرب بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شذَّ بعضهم عنها رُدَّ به إليها، وهو في الأصل مصدر شائع -أي: نحوت نحوًا كقولك: قصد قصدًا، ثم خُصَّ به انتحاء هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه في الأصل مصدر فقهت الشيء أي: عرفته، ثم خُصَّ به علم الشريعة من التحليل، والتحريم، وكما أن بيت الله خُصَّ به الكعبة، وإن كانت البيوت كلها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعًا في جنسه على أحد أنواعه، وقد استعملته العرب ظرفًا وأصله المصدر” انتهى.
وولي تعريف ابن جني للنحو في كتاب (الاقتراح) تعريف صاحب (المستوفى)، وهو أبو سعيد الفرخان أو الفرُّخان بالفاء المفتوحة والخاء المعجمة بينهما راء ساكنة أو مضمومة مشددة، والضبط الأول هو الأصح واسمه علي بن مسعود بن محمود بن الحكيم القاضي جمال الدين، المتوفى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة من الهجرة قال في كتابه المذكور: “النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألَّف بحسب استعمالهم؛ لتُعرف النسبة بين صيغة النظم، وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى” انتهى.
ونحن نلحظ أن ابن جني قد حدَّ النحو بمفهومه القديم الشامل للنحو والصرف معًا، باعتبار الصرف قسمًا من النحو فحدَّه بما يتناول أحكام المفردات والتراكيب.
أما صاحب (المستوفى) فقد حدَّه مقصورًا على ما يتألفه -أي: يتركب منه الكلام- ولا أدلَّ على ذلك من قوله في كتابه (المستوفى) عند حديثه عن فضيلة النحو: “وأما مرتبة هذا العلم من العلوم المناسبة له فبعد اللغة والتصريف، وقبل الكلام والفقه … “ إلى قوله: “فهو فوق ما قبله، ودون كثير مما بعده” انتهى.
ففرَّق بينه وبين التصريف، ولكنه أشار في التعريف إلى مراعاة الارتباط فيه بين الألفاظ والمعاني؛ فالنحو عنده مراعاة ما تقتضيه ظاهر الصناعة، ومراعاة ما تتطلبه المعاني معًا لما بينهما من كمال الارتباط.
أما الحد الثالث للنحو الذي أورده السيوطي في (الاقتراح) فقد نقله عن محمد بن يحيى بن هشام الأنصاري الخزرجي الأندلسي، المعروف بالخضراوي نسبة إلىالجزيرة الخضراء المتوفى سنة ست وأربعين وستمائة من الهجرة قال: “النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم، وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب” انتهى.
والأقيسة هي القواعد -أي: القوانين- وقد شمل تعريفه النحو بأقيسة تغيير ذوات الكلم أي: المفردات؛ كالتثنية، والجمع، والتصغير، وسائر المباحث الصرفية، وأيضًا شمل تغيير أواخر الكلم أي: التراكيب؛ فالصرف عنده إذن قسم من النحو، فهو متابع في هذا لابن جني. وقد اتهم بأن في تعريفه هذا ركاكة غير خافية، وبخاصة قوله: “إلى لغة لسان العرب” فقيل: لو حذف كلمة “لسان” لكان أولى.
أما الحد الرابع للنحو الذي أورده السيوطي فقد نقله عن ابن عصفور الأندلسي المتوفى سنة تسع وستين وستمائة من الهجرة قال: “النحو علم يُستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها” انتهى.
وتعبيره بالفعل المضارع “يستخرج” أبلغ من التعبير باسم المفعول “مستخرج”، لما في الفعل المضارع من الدلالة على الدوام والاستمرار، كما أن التعبير بالجمع الأقصى “مقاييس” أبلغ من تعبير الخضراوي بصيغة جمع القلة “أقيسة”؛ إذ القواعد النحوية لا تكاد تُحصى لكثرتها، فجمع الكثرة إذًا أولى بها من جمع القلة. والمراد بمعرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ما يشمل الأحكام التصريفية والأحكام النحوية. ولم يَسْلَم هذا التعريف أيضًا من النقد؛ فقد اعترضه أحمد بن محمد الإشبيلي المشهور بابن الحاج المتوفى سنة سبع وأربعين وستمائة من الهجرة اعترضه من وجهين:

أحدهما: أن بيان ما يُستخرج منه النحو ليس بيانًا لحقيقة النحو.
والآخر: أن كلامه يقتضي أن المقاييس شيء غير النحو مع أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو.
وقد رُدَّ عليه بأن قول ابن عصفور: “علم يستخرج بالمقاييس … “ إلى آخره مراده به إدراك حاصل من القواعد الحاصلة من المقاييس المستنبطة من الاستقراء، أي: من تتبع كلام العرب، وهو تبيينٌ لحقيقة النحو، لا تبيين لما منه استخراجه، ويُعلم بهذا أن علم مقاييس كلام العرب هو النحو، فيسقط النقد بوجهيه.
أما الحد الخامس للنحو فقد نقله السيوطي عن صاحب كتاب (البديع)، وهو محمد بن مسعود الغزني المتوفى سنة إحدى وعشرين وأربعمائة من الهجرة، قال: “النحو صناعة علمية يُعرف بها أحوال كلام العربي من جهة ما يصح ويفسد في التأليف؛ ليعرف الصحيح من الفاسد وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم الصناعة، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور” انتهى.
وبهذا الحد يتفق صاحب (البديع) مع صاحب (المستوفى) فقد عرف كلاهما النحو بأنه صناعة نحوية، أي: ملكة حاصلة بالتمرّن والدُّربة، وأشار صاحب (البديع) إلى أنه بتعريف النحو بأنه صناعة نحوية يندفع ما أورد على تعريف ابن عصفور السابق الذي لم يشر في صدارته إلى أن النحو صناعة، من أنه يقتضي فقد العلم عند فقد العالم بما ذكر، وليس كذلك لثبوته؛ لأنه قواعد مقررة، وأقيسة محررة سواء وجد العالم بها أم لم يوجد. كما أشار إلى ذلك السيوطي عند تعريفه أصول النحو.

أما الحد السادس للنحو فأورده السيوطي نقلًا عن الإمام أبي بكر محمد بن الثري البغدادي المعروف بابن السراج المتوفى سنة ثلاثمائة وستة عشرة من الهجرة قال في كتابه المسمى بـ (الأصول في النحو): “النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب” وقد قيل: إن هذا التعريف تقريبي؛ لأنه يصدق على علوم الأدب كلها، فإن هذا شأن كل منها، ولم يشر السيوطي إلى فائدة علم النحو كما أشار إلى فائدة علم أصول النحو؛ لأن كتابه (الاقتراح) ليس موضوعه النحو، وإنما موضوعه أصول النحو.
كما أن الحديث عن فائدة علم النحو حديث يحتاج إلى الإسهاب والإطناب، ولا تغني فيه الإشارة عن المقالة، ولكن الأمر كما يقول المثل العربي: حسبك من القلالة من أحاط بالعنق. ويكفي أن نطلع على ما ذكره المؤرخون لنشأة علوم اللغة العربية، وفي مقدمتها علم النحو، وكيف كانت الملكة اللسانية عند العرب من أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد والقدرة على الوصول إلى أجلّ المعاني، وأكثرها بأوجز الألفاظ وأقلها، وهذا هو معنى قول الرسول الكريم -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الأطهار-: ((أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا))، ولكن لما اختلط العرب بالعجم، تغيَّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين، والسمع أبو الملكات اللسانية -كما قال ابن خلدون- ففسد بما ألقي إليها مما يُغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع، وخشي العلماء أن تفسد تلك الملكة رأسًا، ويطول العهد بها فينغلق فهم الكتاب والسنة، ولا يسلما من عادية اللحن والتحريف، وهما موئل الدين وذخيرة المسلمين فبادر الغيور على دين الله إلى تأليف تلك القواعد والقوانين في ضوء أدلة علم أصول النحو، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو.

حدُّ اللغة
أما المعنى المعجمي لكلمة لغة، وتصريفها، ومعرفة حروفها؛ فإنها فعلة من لغوت أي: تكلمت، ومن المعاني التي دارت حولها مادة اللام والغين والواو، في كلام العرب: الخطأ، والباطل، والفحش في القول، والنطق، والتلفظ، والتكلم، يقال: لغى الرجل في القول يلغى، كسعى يسعى، ولغى يلغو لغوًا: تكلم باللغو، وهو أخلاط الكلام، ولغي يلغى كرضي يرضى لغًا وملغاة: أخطأ وقال باطلًا، واللاغية: الفاحشة، ولغي بالأمر يلغى من باب رضي أيضًا: لهج به، ويقال: إن اشتقاق اللغة من ذلك، وحذفت اللام وعُوّض منها التاء، وأصلها لغوة كغرفة؛ فلامها واو، قال ابن جني: “وأصلها لغوة ككرة وقلة وثبة، كلها لاماتها واوات لقولهم كروت بالكرة، وقلوت بالقلة، ولأن ثبة كأنها من مقلوب ثاب يثوب” انتهى.
وقول ابن جني: “وأصلها لغوة ككرة … “ إلى آخره، يريد أنها كانت في الأصل لغوة، أي: قبل الإعلال والتعويض، ثم نقلت حركة الواو إلى الساكن الصحيح قبلها، وهو حرف الغين؛ فبقيت الواو ساكنة فحذفت وعوض منها التاء كما مر، والكرة معروفة، والقلة هي الخشبة الصغيرة تُنصب ليلعب بها الصبيان، والثبة الجماعة من الناس وغيرهم.
وأما في الاصطلاح فقد حدها ابن جني “بأنها أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”، ومعنى ما قاله ابن جني -رحمه الله- أن اللغة هي وسيلة التعبير والتفاهم بين أعضاء المجتمع الواحد، ولقد أخذ ابن خلدون هذا المعنى؛ فذكر في (المقدمة) في الفصل السادس الذي عقده في علوم اللسان العربي الأربعة: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ذكر: “أن اللغة هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعلٌ لساني، فلا بد أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم” انتهى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: مناهج جامعة المدينة العالمية

ترك تعليق