مسائل في المقدمات (1)
المسألة الأولى (في حد أصول النحو)
أصول النحو: علم يبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية، من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل.
فقولي (علم)، أي صناعة فلا يرد ما أورد على التعليل به في حد أصول الفقه، من كونه يلزم عليه فقده، إذا فقد العالم به، لأنه صناعة مدونة، مقررة وجد العالم به، أم لا.
وقولي (عن أدلة النحو) يخرج كل صناعة سواه، وسوى النحو.
وأدلة النحو الغالبة أربعة.
قال ابن جني في الخصائص: ” أدلة النحو ثلاثة: السماع، والإجماع، والقياس “.
وقال ابن الأنباري في أصوله:” أدلة النحو ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال “.
فزاد الاستصحاب ولم يذكر الإجماع، فكأنه لم ير الاحتجاج به في العربية، كما هو رأي قوم.
وقد تحصل مما ذكراه أربعة، وقد عقدت لها أربعة كتب.
وكل من الإجماع والقياس لا بد له من مستند من السماع كما هما في الفقه كذلك، ودونها الاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل، المعقود لها الكتاب الخامس.
وقولي (الإجمالية) احتراز في البحث عن التفصيلية، كالبحث عن دليل خاص بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وبجواز الإضمار قبل
الذكر في باب الفاعل والمفعول، وبجواز مجيء التمييز مؤكدا، ونحو ذلك، فهذه وظيفة علم النحو نفسه، لا أصوله.
وقولي (من حيث هي أدلته) بيان لجهة البحث عنها، أي البحث عن القرآن بأنه حجة في النحو، لأنه أفصح الكلام، سواء كان متواترا أم آحادا، وعن السنة كذلك بشرطتها الآتي، وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك وعن إجماع أهل البلين كذلك، أي إن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره، وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز.
وقولي (وكيفية الاستدلال بها)، أي عند تعارضها ونحوه، كتقديم السماع على القياس واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع، وأقوى العلتين على أضعفهما، وأخف الأقبحين على أشدهما قبحا، إلى غير ذلك.
وهذا هو المعقود له من الكتاب السادس.
وقولي (وحال المستدل)، أي المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة، أي صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل.
وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع.
وبعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته، وجدت ابن الأنباري قال: ” أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله، كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله.
وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الديل، فإن المخلد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب، ولاينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب “.
هذا جميع ما ذكره في الفصل الأول بحروفه.
المسألة الثانية (حدود النحو)
للنحو حدود شتى، وأليقها بهذا الكتاب قول ابن جني (في الخصائص):
” هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شد بعضهم عنها رد به إليها.
وهو في الأصل مصدر شائع، أي نحوت نحوا، كقولك، قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه، في الأصل مصدر فقهت الشيء، أي عرفته، ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم، وكما أن بيت الله خص به الكعبة، وإن كانت البيوت كلها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعا في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفا، وأصله المصدر. انتهى.
وقال صاحب (المستوفى):” النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظالعرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم لتعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى “.
وقال الخضراوي:
“ النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب “.
وقال ابن عصفور:
“ النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها “.
وانتقده ابن الحاج بأنه ذكر ما يستخرج به النحو وتبيين ما يستخرج به الشيء ليس تبيينا لحقيقة النحو، وبأن فيه المقاييس شيء غير النحو، وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو.
وقال صاحب (البديع):
“ النحو صناعة علمية يعرف بها أحوال كلام العرب من جهة ما يصح ويفسد في التأليف ليعرف الصحيح من الفاسد “.
وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم: الصناعة، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور.
وقال ابن السراج في (الأصول):
“ النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب “.
المسألة الثالثة (حد اللغة، وهل هي بوضع الله أو البشر)
قال في (الخصاص):
“ حد اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم “.
واختلف هل هي بوضع الله أو البشر؟ على مذاهب:
أحدها: وهو مذهب الأشعري أنها بوضع الله.
واختلف على هذا: هل وصل إلينا علمها بالوحي إلى نبي من أنبيائه، أو بخلق أصوات في بعض الأجسام تدل عليها، واسماعها لمن عرفها ونقلها، أو بخلق العلم الضروري في بعض العباد بها؟
على ثلاثة مذاهب، أرجحها الأول، ويدل له ولأصل المذهب قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها، أي أسماء المسميات.
قال ابن عباس: علمه اسم الصحفة، والقدر، حتى الفسوة والفسية.
وفي رواية عنه: عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا، والدواب فقيل: هذا الحمار، هذا الجمل، هذا الفرس.
أخرجهما ابن أبي حاتم في تفسيره.
وتعليمه تعالى دال على أن الواضع دون البشر، وأن وصولها بالوحي إلى آدم.
ومال إلى هذا القول ابن جني، ونقله عن شيخه أبي علي الفارسي، وهما من المعتزلة.
والمذهب الثاني: أنها اصطلاحية، وضعها البشر، ثم قيل: وضعها آدم.
وتأول ابن جني الآية على أن معنى (علم آدم): أقدره على وضعها.
وقيل: لعله كان يجتمع حكيمان، أو ثلاثة فصاعدا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومة، فوضعوا لكل واحد منها لفظا، إذا ذكر عرف به.
وقيل: أصل اللغات كلها من الأصوات المسموعات، كدوي الريح والرعد،وخرير الماء، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونهيق الحمار، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.
واستحسنه ابن جني.
والمذهب الثالث: الوقف، أي لا يدري: أهي من وضع الله أو البشر لعدم دليل قاطع في ذلك.
وهو الذي اختاره ابن جني أخيرا.
تنبيهان:
الأول: زعم بعضهم أنه لا فائدة لهذا الخلاف. وليس كذلك، بل ذكر له فائدتان:
الأولى: فقهية، ولذا ذكرت هذه المسألة في أصوله.
والأخرى: نحوية، ولهذا ذكرها في أصوله تبعا لابن جني في (الخصائص)، وهي جواز قلب اللغة، فإن قلنا: أنها اصطلاحية جاز، وإلا فلا.
وإطباق أكثر النحاة على أن المصحفات ليست بكلام ينبغي أن يكون في هذا الأصل.
الثاني: قال ابن جني:
الصواب، وهو رأي أبي الحسن الأخفش، سواء قلنا بالتوقيف أن بالاصطلاح – أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد، بل وقعت متلاحقة متتابعة.
قال الأخفش: اختلاف لغات العرب إنما جاء من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف، وإن كان كله مسوقا على صحة وقياس، ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة لا حاجة إليها، غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.
قال: وبجوز أن يكون الموضوع الأول ضربا واحدا، ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار في الصحة مجرى الأول.
قال وأما أي الأجناس الثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف، وضع قبل؟ فلا يدرى ذلك، ويحتمل في كل من الثلاثة وضع قبل.
وبه صرح أبو علي.
قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله، إنما تصورته العرب قبل وضعه، وعلمت أنه لابد من كثرة استعمالها إياه، فابتدءوا بتغييره، علما بأن لابد من كثرته الداعيه إلى تغييره.
قال: ويجوز أن يكون كانت قديما معربة، فلما كثرت غيرت فيما بعد.
قال: والقول عندي هو الأول، لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها، فتركوا بعض الكلام مبنيا غير معرب، نحو: أمس، وأين، وكيف، وكم، وإذا، وحيث، وفبل، علما بأنهم سيستكثرون منها فيما بعد، فيجب لذلك تغييرها.
المسألة الرابعة في مناسبة الألفاظ للمعاني
قال في (الخصاص):
هذا موضع شريف، نبه عليه الخليل، وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول.
قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة، فقالوا: صر، وفي صوت البازي تقطيعا، فقالوا: صرصر.
وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للضطراب والحركة، نحو: الغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال.
قال ابن جني: وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط.
من ذلك المصادر الرباعية المضعفة، تأتي للتكرير، نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والقرقرة.
والفعلي تأتي للسرعة، نحو: الجمزي، والولقي.
ومن ذلك باب استفعل، جعلوه للطلب، لما فيه من تقدم حروف زائدة على الأصول، كما يتقدم الطلب الفعل، وجعلوا الأفعال الواقعة من غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع الأصول، نحو: خرج، وأكرم.
وكذلك جعلوا تكرير العين دالا على تكرير الفعل، نحو، فرح، وكسر، فجعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى وخصوا بذلك العين، لأنها أقوى من الفاء واللام، إذ هي واسطة لهما، ومكنوفة بهما فصارا كأنهما سياج لها ومبذولان للعوارض دونها، ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها.
ومن ذلك قولهم: الخضم لأكل الرطب، والقضم لأكل اليابس، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس.
والنضح للماء ونحوه، والنضخ أقوى منه، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الخفيف، والخاء لغلظتها لما هو أقوى.
ومن ذلك قولهم: القد طولا، والقط عرضا، لأن الطاء أحصر للصوت، وأسرع قطعا له من الدال المستطيلة، فجعلوها لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال المستطيلة لما طال من الأثر، وهو قطعه طولا.
وهذا الباب واسع جدا، لايمكن استقصاؤه.
المصدر: الاقتراح في أصول النحو