موقف طريف من ثمَرات الفصحى
موقفٌ بديعٌ طريفٌ جرى لي مع طفلي الصَّغير أحمـد حينما كان ابنَ سنتين من العمر، فيه آيةٌ من آياتِ الله سبحانه السَّاطعةِ، الدالَّةِ دلالةً جليَّةً واضحةً على إعجاز كتابه الكريم القُرآن، فقد نشأ أحمـد يكتسبُ اللسانَ العربيَّ المُبين، اكتسابًا فطريًّا؛ وذلك أنني كنتُ أخاطبه به مُذ أقبل إلى الدُّنيا، مطبقًا في ذلك نظريةَ أستاذنا الرَّائد د.عبد الله الدنَّـان حفظه الله، ومتبعًا طريقتَه في تعليم الأطفال اللغة الفُصحى بالفِطرة، وقد نجحت الطريقةُ نجاحًا عظيمًا باهرًا، وكان من أعظم ثمارها تعلُّقُ أحمـد الشديدُ بالقُرآن العظيم كتاب الله المُعجِز، فكان كثيرَ الأُنس به، تطمئنُّ نفسُه بالاستماع إليه والإصغاء لترتيله، لا يفتأُ يطلب إليَّ وإلى أمه أن نقرأَ له من آياته وأن نتلوَه على مِسْمَعَيه .
وكان أحمـد بلغته الطفوليَّة يسمِّي القُرآن: (أُوْدِّه)، فإذا سئم اللعبَ وملَّه قال لي: (بابا أُوْدِّه)، وإذا كان ضيِّقَ الصدر مُنـزعجًا قال لأمه: (ماما أُوْدِّه)، بل كان يذهبُ بمفرده إلى مكتبتي ويأتي بالمصحَف، تنوءُ بثقله يداهُ الغضَّتان، ليقولَ لي أو لأمه، بلهجة حانيةٍ فيها رجاءٌ وتضرُّع: (أُوْدِّه… أُوْدِّه) .
وحينما تهيَّأتُ للقيام فاجأني ببكاء شديد، يكاد يبلغُ عَنان السماء، فقلتُ في نفسي: لعلَّ عينًا أصابته بسوء، وقد قال الصَّادق المصدوق: (( العينُ حَقٌّ ))، فوضعتُ يدي على رأسه أَرْقيه، وأدعو له: أُعيذُكَ بكلمات الله التامَّة، من كل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل … فرفع رأسَه وصاح بغضب: (بابا أُوْدِّه أُوْدِّه)، هو لا يريدُ عن القُـرآن بديلاً، حتى الدعاءُ لم يرضَ به، ولم يَطِب له، فعجبتُ لذلك أشدَّ العجب، ووقع في رُوعي أمرٌ، هو: كيف تسنَّى له أن يميِّزَ الدعاءَ من القُـرآن، وهل هو بحق قادرٌ على ذلك، فرأيتُها فرصةً سانحةً لأجرِّبَ أمرًا جديرًا بالتجريب، فرتَّلتُ له بعضَ السُّوَر القصيرة، مجوَّدةً، ملحَّنةً بلحن ما، وختمتُها بسورة الناس، موصولةً بالدعاء المأثور: اللهم ربَّ الناسْ، أذهب الباسْ، اشفِ أنت الشافي… متَّبعًا اللحنَ نفسه، والأداءَ ذاته، وهنا وقعَ ما لم يكن بالحُسبان، فوالله ما إن انتقلتُ من الآيات إلى الدعاء حتى انتفضَ كالمرَّات السابقة ليقولَ لي بحَنَق وغيظ: (بابا أُوْدِّه أُوْدِّه…بابا أُوْدِّه).
فتيقَّنتُ يقينًا تامًّا قاطعًا، لا ريبَ فيه ولا شكَّ، أن أحمـد بفطرته السَّوية، وبتلقِّيه الفِطري السليم للعربيَّة الفُصحى لغة القُرآن، قادرٌ أن يميِّزَ كلامَ الله المُعجِز من غيره من الكلام، أيًّا كان ذلك الكلام، ومهما علا في سماء الفَصاحة والبيان، ولو أُدِّيَ الأداءَ ذاته، ورُتِّلَ الترتيلَ عينه.
إنها لَلْمعجِزةُ الباقيةُ الخالدةُ لكتاب الله تعالى، لا يُبليها تعاقبُ الليل والنهار، حتى يرثَ الله الأرضَ ومن عليها، ولكن هيهاتَ أن يدركَها إلا من فُطِر على لغة القُرآن، تتشرَّبها نفسُه، وتجري بها عروقُه.