الضَّرُورَةُ الشِّعرِيَّةُ دِراسَةٌ نَحْويَّةٌ (الحَذْفُ)

والحَذْف بابٌ واسِعٌ في العربِيَّةِ، ويَشمَلُ هنا الكَلمةَ والحَرفَ والحرَكةَ وغَيرَها. ومِن ذلِكَ التَّرخِيمُ وهو حَذْفُ أواخِرِ الكَلِمِ فِي النِّداءِ، وقد يُحذَفُ للضَّرُورَةِ آخِرُ الكَلِمةِ فِي غيرِ النِّداءِ، بِشرطِ أنْ تَكُونَ صالِحةً للنِّداء كـ ” أَحمَدَ “، ومنه قوله: (من الطويل)

لَنِعمَ الفَتَى تَعشُو إلَى ضَوءِ نارِهِ *** طَرِيفُ بنُ مالٍ لَيلَةَ الجُوعِ والخَصَرْ

أي: طرِيفُ بنُ مالِكٍ.[1]

وهناك بعضُ الأسماءِ المخصُوصَةِ بِالنِّداءِ قد تُستَعمَلُ فِي الشِّعرِ في غيرِ النِّداءِ. ومِنهُ أيضاً قَولُ أبِي النّجم: ( الرَّجز )

تَضِلُ مِنهُ إبِلِي بِالهَوجَلِ فِي *** لَجَّةٍ أَمسِكْ فُلاناً عَنْ فُلِ[2]

ومِنهُ قَصرُ المَمدُودِ إذ لا خِلافَ بينَ البَصريينَ والكُوفِيينَ فِي قَصرِ الممدُودِ للضَّرُورةِ. ومنه قوله: (من الوافر)

فَلَو أنَّ الأطبَّا كانَ حَولِي *** وكانَ مَعَ الأَطِبَّاءِ الأُسَاةُ[3]

والقِياسُ يُوجِبُ مَدَّهُ.

ومن الحَذفِ أيضاً إقامَتُهُمُ الصِّفةَ مُقامَ الموصُوفِ في الشِّعرِ فِي الموضِعِ الَّذِي يَقبُحُ فِي الكَلامِ مِثلُهُ، قالَ الشَّاعِرُ: (من الرجز )

فَيَا الغُلامَانِ الَّلذانِ فَرَّا *** إيَّاكُما أنْ تُكسِبَانا شَرَّا

أرادَ: فَيَا أيُّها الغُلامَانِ، فَأَقامَ الغُلامَيْنِ مُقامَ ” أي “، وقَبُحَ هذا لأنَّ حرفَ النِّداءِ لا يَلِيهِ ما فِيهِ الألِفُ واللَّامُ، لأنَّهُ يُعرَّفُ المُنادَى إذا قُصِدَ، والألِفُ واللَّامُ يُعرِفانِهِ ولا يَجتَمِعُ تَعرِيفانِ فِي اسمٍ واحِد[4].

ومِن الحَذفِ حَذْفُ حَرفِ الجرِّ. ومِن المعلُومِ أنَّ الجَرَّ بغيرِ ” رُبَّ ” مَحذُوفاً علَى قِسمَيْنِ: مُطَّردٍ وغَيرِ مُطَّرِد. فغيرُ المُطَّرِدِ كقَولِ رُؤبة لِمَنْ قالَ لَهُ: ” كَيفَ أَصبَحتَ؟ “: ” خَيرٍ والحَمدُ للهِ ” التقدير: علَى خَيرٍ، وقول الشاعر: (من الطويل)

إذا قِيلَ أيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبِيلةٍ *** أَشارَتْ كُلَيبٍ بِالأَكُفِّ الأَصابِعُ[5]

أي: أشارتْ إلَى كُلَيبٍ. وقولهُ أيضاً: (من الكامل)

وكَرِيمةٍ من آلِ قِيسَ أَلِفْتُهُ***حتَّى تَبَذَّخَ فارتَقَى الأعلامِ

أي: فارتَقَى إلَى الأعلامِ[6].

ومِثالُ النَّفيِ تَقدِيراً قَولُهُ تَعالَى: ﴿ قَالُوا: تاللهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يُوسُفَ ﴾. أَي: لا تَفتَأُ، ولا يُحذَفُ النَّافِي مَعَها قِياسَاً إلا بَعدَ القَسَمِ، كالآيةِ الكَريمةِ، وتُحذَفُ ” لا ” النَّافيةُ في غَيرِ القَسَمِ، وشّذَّ حَذْفُها بِدُونِ القَسَمِ، كَقَولِ الشَّاعِرِ: (من الوافر)

وأَبرَحُ ما أَدامَ اللهُ قَومِي *** بِحَمْدِ اللهِ مُنتَطِقاً مُجِيدَا[7]

ومِن ذلِكَ حَذفُ النُّونِ السَّاكِنةِ من الحُرُوفِ الَّتِي بُنِيَتْ علَى السُّكُونِ، نحو: ” مَنْ ولكِنْ”، وإنَّما يُحذَفُ لالتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، نحو: إذا جُزِمَ الفِعلُ المُضَارِعُ من ” كانَ ” قِيلَ: لم يَكُنْ، والأصلُ ” يَكُونُ “، فَحَذَفَ الجازِمُ الضَّمَّةَ الَّتِي علَى النُّونِ، فالتقَى سَاكِنانِ: الوَاوُ، والنُّونُ، فَحَذَفَ الواوَ لالتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَصَارَ الَّلفظُ ” لم يَكُنْ “، والقِياسُ يَقتَضِي ألَّا يُحذَفَ مِنهُ بَعدَ ذلِكَ شَيءٌ آخرُ، لكِنَّهُم حَذَفُوا النُّونَ بَعدَ ذلِكَ تَخفِيفاً لِكثرةِ الاستِعمالِ[8]. ومَذهَبُ سيبويه (ت180هـ) ومَنْ تابَعَهُ أنَّ هذِهِ النُّونَ لا تُحذَفُ عِندَ مُلاقاةِ ساكِن.

ومِنْ ذَلِكَ حَذْفُ الفَاءِ فِي جَوابِ الشَّرطِ، كَقَولِكَ: “إِنْ تَأتِنِي أنا أُكرِمُكَ ” التَّقدِيرُ: فَأَنَا أُكرِمُكَ. وهذِهِ الفَاءُ مُلتَزِمَةُ الذِّكرِ، وقَد جَاءَ حَذفُها فِي الشِّعرِ، كَقَولِهِ:

فَأَمَّا القِتالُ لا قِتالَ لَدَيكُمُ ولَكِنَّ سَيراً فِي عِراضِ المَواكِبِ

أي: فلا قِتَالَ، وحُذِفَتْ فِي النَّثرِ أيضاً بكثرةٍ وبِقلَّة، فَالكَثرةُ عِندَ حَذْفِ القَولِ مَعَها، كَقَولِهِ -عزَّ وجلَّ: (فَأمَّا الَّذِينَ اسوَدَّتْ وُجُوهُهُم أَكَفَرْتُم بَعدَ إيمانِكُم؟)[9]أي: فيُقالُ لَهُم: أَكَفَرْتُم بَعدَ إيمانِكُم. والقَلِيلُ ما كَانَ بِخلافِهِ.[10]

وإنَّما كَانَتِ الفَاءُ واجِبَةً ها هنا لأنَّ جَوابَ الشَّرطِ متى كانَ جُملةً أو فِعلاً مَرفُوعاً لم يَكُنْ بُدٌّ من الفَاءِ، لأنَّها إنَّما أُتِي بِها لِئلَّا يُسلَّطَ ما قَبلَها علَى ما بَعدَها. فَحَذْفُ الفَاءِ مَعَ الحَاجةِ إليَها مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعرِ، وقد كانَ سِيبَوَيهِ يُجِيزُ هذا الوَجهَ.

وقد يُحذفُ حَرفُ التاءِ مِن الفِعلِ المُسنَدِ إلَى مؤنَّثٍ حَقِيقيٍّ مِن غَيرِ فَصلٍ، وهُوَ قَلِيلٌ جِدَّاً، وقد تُحذَفُ التَّاءُ مِن الفِعلِ المُسنَدِ إلَى ضَمِيرِ المؤنَّثِ المَجازِيِّ، وهُو مَخصُوصٌ بِالشِّعرِ، كقولِهِ: (من المتقارب)

فَلا مُزنةٌ وَدَقَتْ وَدقَها ولا أَرضَ أَبقَلَ إِبقَالَها[11]

وقد يُحذَفُ الضَّمِيرُ لِلضَّرُورةِ فِي بابِ التَّنازُعِ، فإذا تَنازعَ عامِلانِ علَى مَعمُولٍ واحِدٍ، فإنْ كانَ الأوَّلُ هو الطَّالِبَ لم يَجُزِ الإضمارَ، وإنْ كانَ الطَّالِبُ لَهُ هُوَ الثَّانِي وَجَبَ الإضمارُ، فتقولُ: ” ضَرَبَنِي وضَرَبْتُهُ زَيدٌ “، ولا يَجُوزُ الحَذفُ، وقَد جاءَ فِي الشِّعرِ: ( من مجزوء الكامل)

بِعُكاظَ يُعشِي النَّاظِرِيــــــ ــنَ إذا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ

والأَصلُ: ” لَمَحُوهُ “فَحَذَفَ الضَّمِيرَ ضَرُورَةً، وهُوَ شَاذٌّ[12].

ومِن العَطفِ ما وَرَدَ فِي حرُوفِ العَطفِ مِن أنَّ الواوَ مِن بيَنِ حُرُوفِ العَطفِ تَعطِفُ عامِلاً مَحذُوفاً بَقِيَ مَعمُولُهُ، ومِنهُ قَولُهُ: (من الوافر)

إذا ما الغَانِياتِ بَرَزْنَ يَوماً وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا

فـ ” العُيُونَ ” مَفعُولٌ بِفِعلٍ مَحذُوفٍ، والتَّقدِيرُ: ” وكَحَّلْنَ العُيُونَ ” والفِعلُ المَحذُوفُ مَعطُوفٌ علَى ” زَجَّجْنَ “[13].

ومِن الحَذفِ أيضاً حَذْفُ الضَّمِيرِ فِي الخبرِ المُشتقِّ. فمِن ذلِكَ قَولُ الشَّاعِرِ: (من البسيط)

قَومِي ذُرا المَجدِ بَانُوهَا، وقَد عَلِمَتْ بِكُنهِ ذلِكَ عَدنَانٌ وقَحطانُ[14]

والتقدير: بانُوها هُم، فَحَذَفَ الضَّمِيرَ لأَمنِ اللبسِ.

ومن أنواعِ الحَذفِ الشاذِّ حَذْفُ المتعجَّب منهُ، كقول الشاعر:

فَذلِكَ إنْ يَلقَ المَنِيَّةَ يَلقَها حَمِيدَاً، وإنْ يَستَغنِ يَوماً فَأَجدِرِ! [15]

أي: فَأَجدِرْ بِهِ! فَحَذَفَ المتعجَّبَ مِنهُ بَعدَ ” أفعل ” وإنْ لم يَكُنْ مَعطُوفاً علَى ” أفعل ” مثلِهِ، وهو شاذٌّ.

والحذفُ كما رأينا في شرحِ ابنِ عقيل كَثير، مِنهُ ما هُو جيِّد ومنهُ ما هُوَ غيرُ ذلِكَ، والمواضِعُ التي نُوقِشَتْ كانَتْ كَثيرةً كَحذْفِ الضَّميرِ عندَ أمنِ الَّلبسِ وفي بابِ التَّنازعِ، والمتعجَّبِ مِنهُ، والفاءِ الرابطةِ لجوابِ الشرطِ الجازمِ، وحَذفِ النُّونِ السَّاكنةِ، وحروفِ الجرِّ، وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَ الموصُوفِ، وقَصرِ المَمدودِ، ومَدِّ المقصُورِ، والأسماءِ المَخصُوصَةِ بِالنِّداءِ الَّتِي قد تُستَعمَلُ فِي الشِّعرِ في غيرِ النِّداءِ.

 


[1] شرح ابن عقيل 2: 270، وينظر الكتاب 2: 254. والشاهد فيه: ” طريف بن مالٍ ” ترخيم مالٍ في غير النداء ضرورة، وجعله بمنزلة اسمٍ لم يحذف منه شيء.

[2]شرح ابن عقيل 2: 254، وينظر خزانة الأدب 2: 389، والكتاب 2: 248، والشاهد فيه: ” عن فُلِ ” فقد استعمل ” فل ” في غير النداء، فجرَّها بحرف الجرّ ضرورة، وقيلَ الأصل ” فلان “، وحُذِفتِ الألف والنون للضرورة.

[3] خزانة الأدب 2: 385-386. والشاهد فيه: “الأطبا ” قصر الممدود.

[4] شرح ابن عقيل 2: 241، والخزانة 1: 258. وينظر ما يحتمل الشعر من الضرورة ص148-149.

[5] ديوان الفرزدق 1: 420 وينظر خزانة الأدب 9: 113-115. ومغني اللبيب مج 1 ص 29. والشاهد فيه ” كليب ” في موضع خفض بالجارِّ المحذوف.

[6] شرح ابن عقيل 2: 38-39.

[7] شرح ابن عقيل 1: 245. والشاهد فيه: ” أبرح ” فقد جاء مجرداً من النفي أو شبهه، مع كونه غير مسبوق بالقسم.

[8] شرح ابن عقيل 1: 275-276.

[9] الآية 106 من سورة آل عمران.

[10] شرح ابن عقيل 2: 360.

[11] شرح ابن عقيل 1: 435. وينظر الكتاب 2: 46، وينظر خزانة الأدب 1: 45، والمقتضب مج 2 ص449. والشاهد فيه: ” أبقل إبقالها” الفعل مسند إلى ضمير عائد على الأرض، وهو مؤنث مجازي، فحذفت التاء للضرورة.

[12] شرح ابن عقيل 1: 501. وينظر مغني اللبيب مج 2 ص370. والشاهد فيه: “لمحوا ” و” يعشي ” تنازع الفعلان على ” شعاعه ” فجعل ” شعاعه ” فاعلاً لـ يعشي ، وأعمل الفعل الثاني ” لمحوا ” في الضمير ” الهاء، المحذوف ضرورة.

[13] شرح ابن عقيل 2: 221-222.

[14] شرح ابن عقيل 1: 196. والشاهد فيه: “بانوها ” فقد جاء بخبر المبتدأ مشتقاً، ولم يُبرِزِ الضمير، مع أنَّ المشتقَّ ليسَ وَصفاً لنفسِ مبتدئه في المعنى.

[15] شرح ابن عقيل 2: 142.

ترك تعليق