التضمين وتناوب الحروف (2)
وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. فطريق الحق تأخذ علوا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير، وطريق الضلال تأخذ سفلا هاوية بسالكها إلى أسفل السافلين.
وأما مَق فسر {عليَّ} بالوجوب ففي كونه هو المراد بالآية {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظر، لأنه حَذفٌ في غير موضع الدلالة بخلاف عامل الظرف إذا وقع صفة فإنه حَذْفٌ معروف مألوف، وأكثر المفسرين لم يذكر في سورة الليلإلا معنى الوجوب والذي قدمناه وسمعته من شيخ الإسلام ابن تيمية: أليقُ بالسياق وأجل المعنيين وأكبرهما.
وإذا صرفت بصرك عما قيل في إنابة الحروف أو تعاورها لفقدان الشاهد والمثل، وعدم إقامة البرهان وسوْق الدليل، مع ضعف الحجة وقصر النظر، فاستنجدْ بفهمك على استنباط لطائف المعاني من وراء التضمين، ترق حواشيها وتدق إلا على أهل البصائر.
ولو تعسف متعسف وقال: إن (إلى) بمعنى (مع) في قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} نقول له: إن اليد تشمل من رؤوس الأصابع إلى الكتف وعلى هذا يكون حرف (إلى) والذي بمعنى (مع) من فضول الكلام لأن المرفق داخل في لفظ اليد مشمول معها، وبهذا التوجيه يفسد المعنى.
ثم هل يُؤدي الحرف البديل في السياق اللغوي مُؤدى الأصلي بعد غيابه؟
إن القول بتناوب الحروف أمر هين لأنه يُزيل العقبات كما يزيل المخدر الأوجاع، ولكن المشكلة تبقى دون حل. فمن سلك مسلك هؤلاء وأخذ برأيهم فقد أبعد. بل عليه ألا يعطي يده في هذه المسألة وأن يَكِيس عند
الإجابة عنها. ففعل (صبر) مثلا يتعدى باللام والباء و (على)، {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}. فهل تنوب هذه الحروف بعضها عن بعض؟.
أقول: حين تعدى الفعل بـ (على) كان معناه الثبات والإصرار، وحين تعدىباللام تضمن الرضى والقبول، وحين تعدى بالباء تضمن معنى الاستعانة باللَّه على تحمل المشاق. وقد تنازع أهل العلم أي الصبرين أكمل: لله أم بالله؟.
فقالت طائفة: الصبر له أكمل فإن ما كان له فهو غاية، وما كان به فهو وسيلة، والغايات أشرف من الوسائل. وقالت طائفة: الصبر باللَّه أكمل: بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به. قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ} فأمره بالصبر، والمأمور به هو الذي يفعله لأجله.
وليست دعوى القائلين بالتعاور والتناوب والتقارض والتعاوض في حروف المعاني إلا نوعا من الجمود الفكري وجب رَفْضُه واطراحه ما دامت هذه سبيله، والذين ألغَوا التضمين، أو عطَفوه، ركبهم جهل في الرأيوإفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة واعتقادات فاسدة، وظنون ردية، لا يعلمون أن في هذه الحروف دقائق وأسراراً، طريق المعرفة بها الرؤية، ولطائف يُتوصل إليها بطول التأمل وخصائص ينفرد بها من هُدي إليها، وكُشف له عنها. وهي على بُعد المرتقى وعز المَطلب، لَبِنة قامت بها الحجة في القرآن وظهرت، وبهرت، وانتهت إلى غاية لا يطمح إليها إلا من أجاد العوم في هذه اللغة الشريفة وصار نطاسياً في معرفة جواهرها السنتة، فهي لغة قوم تبارَوْا في الفصاحة والبيان وتنازعوا فيها قصَبَ الرهان.
وأتساءل: ماذا يقول أصحاب نظرية التناوب والتعارض والتقارض في قول عبد اللَّه بن جعفر بن عمر بن الخطاب حين بلغه قدوم مصعب بن الزبير من العراق ومروره بالمدينة، ثم نزوله البيداء: ” هل لك بنا فيه؟ فلا يُنجيه منا ما فعل “. لقد تزاحمت حروف المعاني في عبارته وتلاحقت لتشد السامع لمعرفة ما وراءها من معانٍ، وتدع للسياق التحكم في تحديد هُوية كل أداة لتُسفر الرؤية ويَضَح الغرض.
أرأيت حفظك اللَّه ما في حديثه من التعريض دون التصريح والتليمح
دون التكشيف؟! لعل ذلك أحلى وأدمث من أن يكون مكاشفة ومصارحة
وجهراً. ولو سألنا القائل بالتناوب عن تفسير حروف ابن جعفر. لانكفأ مبهوتا
لا يقطع فيها بيقين.
إن إبدال حرف مكان حرف كثير الإيهام لمن يسمعه ولا حقيقة تحته؛
فقولهم: مِن بمعنى الباء، وعلى بمعنى إلى، وفي بمعنى عن، لا شيءَ وراءه وليس الأمر كما زعموا بل لكل حرف معناه وما اختير في سياقه إلا لغرض يؤديه. أما أنه استُعمل بمعنى بديله فخطأ لا يثبت عند أهل النظر. وما اعتاص عليهم فعنه السؤال وبه الاشتغال.
قال المحققون من أهل العربية: إن حروف الجر لا تتعاقب، فهذاالطبري في تفسير قوله تعالى: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لا يصلح في موضع (إلى) غيرها لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها وهذا القول عندي أوْلى بالصواب لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أوْلى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم بها، ولـ (إلى) في كل موضع دخلت عليه من الكلام حكم، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها. أ. هـ.
وقال البطليوسي: باب دخول بعض الصفات مكان بعض، أجازه قوم من النحويين، أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم، أكثرهم البصريون، وفي القولين جميعا نظر.
وقال رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي: وإذا أمكن في كل حرف يُتوهم خروجه عن أصله، وكونُه بمعنى آخر، أو زيادته، أن يبقى على أصل معناه الموضوع هو له، وُيضمن فعله المعذى به معنى من المعاني يستقيم به الكلام فهو الأوْلى بل الواجب.
وقال الحسن بن قاسم المرادي: مذهب الكوفيين ومن وافقهم من أن حروف الجر قد ينوب بعضها عن بعض، ومذهب البصريين إبقاء الحرف على موضوعه الأول إما بتأويل يقبله اللفظ أو تضمين الفعل معنى فعل آخر يتعدى بذلك الحرف، وما لا يمكن فيه ذلك فهو من وضع أحد الحرفين موضع الآخر على سبيل الشذوذ.
وقال ابن هشام: مذهب البصريين أن أحرف الجر لا ينوب بعضها عنبعض بقياس … وما أوهم ذلك عندهم إما مُؤّول تأويلا يقبله اللفظ … وإما على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف
وقال ابن هشام أيضا: على أن البصريين ومن تابعهم يرون في الأماكن التي ادعيت فيها النيابة أن الحرف باق على معناه وأن العامل ضمن معنى عامل يتعدى بذلك الحرف لأن التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف.
وقال الدسوقي: ومذهب البصريين أن كل حرف له معنى حقيقي واحد فقط، وإنَّمَا كان التجوز في الفعل أسهل منه في الحرف لأنه لا مجاز في الحرف استنادا إلى مفهومه، غير مستقل بنفسه، فإن ضُم إلى ما ينبغي ضمه كان حقيقة وإلا فهو مجاز في التركيب لا في المفرد.
وجاء في حاشية الصبان على الأشموني: اعلم أن مذهب البصريين: أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض قياسا، كما لا تنوب حروف الجزم والنصب عن بعض، وما أوهم ذلك محمول على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف أو شذوذ النيابة، فالتجوز عندهم في غير الحرف أو في الحرف لكن على الشذوذ. وجوزه الكوفيون واختار بعض المتأخرين نيابة بعضها عن بعض قياسا كما في التصريح والمغني، وإن اقتضى كلام البعض خلافه فالتجوز عندهم في الحرف، قال في المغني: وهذا المذهب أقل تعسفاً.
وقال ابن قيم الجوزية: وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر، وأما فقهاء العربية فلا يرتضون هذه الطريقة، بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف، ومعنى مع غيره، فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعالفيُشربون الفعل المتعدي به معناه، هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل، لا يقيمون الحرف مقام الحرف، وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عُدِّي بـ (إلى) تضمَّن الإيصال إلى الغاية المطلوبة، ومتى عُدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب، وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعريف والإلهام والبيان. وبسط المبرد رأيه في تناوب الحروف قال: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض إذا وقع الحرفان في معنى، وذكر أن هذا كثير جداً بعد أن أورد طائفة من شوا هد القرآن والشعر، وكذلك فعل السيوطي، والزركشي، وعرض ابن الشجري باباً لقيام بعض الحروف مقام بعض، وكذلك ابن قُتيبة. وأمّا أبو حيان الأندلسي في بحره في مواضع كثيرة يقول: تضمين الأفعال أوْلى من تضمين الحروف.
وقال ابن درستويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة، وإفساد الحكمة فيها والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس.
وقال أبو هلال العسكري: إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها ووقع كل واحد منهما بمعنى الآخر فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد فأبى المحققون أن يقولوا بذلك، وقال به من لا يتحقق المعاني. ولهذا قال المبرد: الفرق بين أبصرته وبصرت به: فأبصرته يجوز أن يكون لمرة وأن يكون لأكثر، أما بصرت به فمعناه أنك صرت بصيرا بموضعه {فَبَصُرَتْ بِهِعَنْ جُنُبٍ}، ثم قال أبو هلال ومما يعرف به الفرق بين المعاني: اعتبار الحروف التي تُعدَّى بها الأفعال: أدخلته ودخلت به. ففي أدخلته جاز أن تكون معه وفي دخلت به فهو داخل معك وبسببك. وقال أبو بكر محمد بن عبد اللَّه المعروف بابن العربي المعافري الأشبيلي: وكذلك عادة العرب أن تحمل معاني الأفعال على الأفعال لما بينهما من الارتباط والاتصال، وجهلت النحوية هذا فقال كثير منهم: إن حروف الجر يبدل بعضها من بعض، ويحمل بعضها معاني البعض فخفي عليهم وضع فعل مكان فعل وهو أوسع وأقْيَس، ولجؤوا بجهلهم إلى الحروف التي يضيق فيها نطاق الكلام والاحتمال. أ. هـ.
وذكر الزركشي: أن النحويين اختلفوا في أيهما أوْلى. فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أن التوسع في الحرف، وأنه واقع موقع غيره من الحروف أوْلى، وذهب آخرون إلى العكس، والأول مذهب الكوفيين. أ. هـ وبعد عرضنا لأقوال بعض الأئمة أقول: هل للحرف معنى قائم في نفسه أم معناه في غيره؟ وهل ينفرد بمعنى واحد أم يحمل عدة معانٍ؟ وإذا كانت له عدة معان فهل يحملها على الحقيقة أم على التضمين في فعله المتعدي به؟