باب ما ينتصب لأنه خبر لمعروف يرتفع

مسألة [٤٩]

ومن ذلك قوله في باب ترجمته: هذا باب ما ينتصب لأنه خبر لمعروف يرتفع، زعم أنك إذا قلت في الدار عبد الله، وما أشبه ذلك من الظروف، إن عبد الله قدم أو أخر إنما يرتفع بالابتداء، والدليل- فيما زعم- على ذلك أنك تقول: إن في الدار عبد الله.

قال محمد: والقول في هذا أنك إذا قلت: في الدار عبد الله، فأردت بعبد الله التقديم، رفعته بالابتداء كما قال: والدليل على ذلك أنك تقول: في داره عبد الله، وفي بيته يؤتى الحكم، أضمرت لأنك أردت التقديم وأضمرت فيه التأخير، وكذلك حيث قلت: في الدار عبد الله، أضمرت في قولك: /٦٤/ في الدار) اسما مرفوعا يرجع إلى عبد الله، لأنه خبره فلا يكون خبره ولا صفته إلا شيئا هو هو أو فيه ما يرجع إليه، ألا ترى أنك تقول: رأيت رجلا في الدار، فيكون (في الدار) وصفا لـ (رجل)، وتقول: زيد في الدار، فيكون خبرا عن زيد، وإن لم ترد بزيد التقديم كان رفع زيد بقولك: في الدار، لأن معناه استقر وحل محل المضمر، فرفعه ما كان يرفع المضمر.

وأما قوله: إن في الدار زيدا، فإنما هذا على مذهب من جعل في قوله: (في الدار) ضميرا كما وصفت لك، فإن لم تفعل فينبغي أن تقول: إنه في الدار زيد، فترفع زيدا بقولك: في الدار، وتشغل (إن) بضمير شيء هو القصة كما تقول: إنه قام زيد، “وأنه تعالى جد ربنا” وهذا قول أبي الحسن الأخفش الذي لا يجوز غيره، وأنشد عمارة

لنفسه حين اضطر:

كأنهن الفتيات اللعس

كأن في أظلالهن الشمس

رفع الشمس بالظرف، وأراد في كأن الهاء كما أجاز الخليل: إن زيدا ضربت في الضرورة، فتنصب زيدا بضربت، وتضمر في (إن) الهاء.

وأما أبو عثمان المازني فيقول: إن الظروف ترفع المضمر ولا ترفع الظاهر، وهذا قول مرغوب عنه، لأن العوامل إنما وقوعها على المضمر من حيث تقع على المظهر.

قال أحمد [بن محمد] هذه مسألة فيها خلاف بين أهل الكوفة والبصرة، وقد خالف الأخفش فيها “أيضا” سيبويه، وهي تقتضي الكلام في بعض أحوال العربية ومبانيها لينكشف وجه الصواب فيها.

فأما الأخفش ومحمد فقد وافقا سيبويه في جواز الرفع بالابتداء إذا قلت: في الدار زيد، وادعيا جواز الرفع بالظرف وجعلا هذا وجها ثانيا في المسألة، فيقال لمن ادعى ذلك، خبرنا عن هذه العوامل التي جعلتها العرب توجب وجوب الإعراب كالفعل وما يبنى منه واشتق وشبه به، وإن وأسماء العدد، وحروف الجر، وعوامل الأفعال الجازمة والناصبة، من أين علم النحويون علل هذه الضروب من الإعراب؟ والعرب لم تخبرنا عن ضمائرها ولا أنبأتنا عن إرادتها.

فإذا قال: علمنا /٦٥/ ذلك من جهة الاستقراء لكلامها والمراعاة لألفاظها، فلما رأيناها تأتي بعد كل عامل من هذه العوامل بنوع من الإعراب تلزمه معه وجها واحدا وصورة لا تتغير مع ذلك العامل، علمنا أنه الموجب لذل الضرب من الإعراب، وهذا من أكبر أصول النحويون في استخراج العلل التي تجمع هذه الأشياء قطعة قطعة، وتحيط بها بابا بابا.

قيل له: فهل يجوز أن يدخل بعض هذه العوامل الملفوظ بها على بعض؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن أين علمت أن ذلك لا يجوز؟ فإذا قال: من جهة أنها استقرئت في كلام العرب فلم يوجد ذلك في شيء من كلامها، قيل له: فإذا رفعت الاسم بالظرف فقد نقضت ما قدمته من هذه الأصول المجتمع عليها، وذلك أنك زعمت أنا إنما نعلم أن العامل هو علة للإعراب الواقع في المعمول فيه إذا ألزم في الكلام وجها واحدا مع عامله، ولسنا نرى الاسم مع الظرف يلزم وجها واحدا، لأنا نجده مرفوعا مرة ومنصوبا أخرى في التقديم والتأخير جميعا، ألا ترى أنك تقول: في الدار أخوك، وإن في الدار أخاك، وأخوك في الدار وإن أخاك في لدار، فلا أرى الظرف ألزمه وجها واحدا فيعلم أنه العامل فيه من حيث علمنا سائر العوامل، فأعطيت العوامل وصفا واحدا رفعته عنها ها هنا بجعلك الظرف عاملا وهو بغير ذلك الوصف، ونفيت عن العوامل أيضا وصفا آخر، وهو أنه لا يدخل عامل على عامل، ثم أوجبت لها هذا الوصف المنفي عنها هناك بجعلك الظرف عاملا وإدخالك (إن) والعامل عليه، فنقضت الوصفين جميعا، وأوجبت من أوصاف العوامل ما كان منفيا ونفيت ما كان موجبا، وهذا فساد لمباني الصناعة وأصولها، وهذا الإلزام بعينه يلزم من زعم أن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر بالمبتدأ، وذلك أنهما عاملا لفظ فيما يزعم أهل الكوفة، فينبغي أن “لا” يلحقهما شيء من العوامل نحو أن والفعل وغير ذلك، إذ /٦٦/ ليس يدخل عامل على عامل، (لأنا قد نرى) خذا الخبر الذي كان مرفوعا بالمبتدأ على ما قالوا منصوبا، ورافعه في الكلام موجود، ألا ترى أنك تقول: زيد قائم، فإن كان زيد هو الرافع لقائم فينبغي ألا تقول: كان زيد قائما، ونحن إنما نعلم أن زيدا هو الرافع لقائم إذا ألزم قائما الرفع مع وجود زيد معه، وإلا فمن أين يعلم ذلك والعرب لم تخبرنا باعتقادها فيه، وإنما دلنا عليه الاستقراء، وهذا ظن لا دليل معه وتحكم لا حجة تصحبه.

فأما ما ذهب إليه سيبويه فعلى الأصول المجمع عليها، وذلك أنه يرفع بالابتداء، والابتداء معنى وليس بلفظ، فيكون قد أدخل عاملا على عامل مثله، ويكونان معا موجودين، فلا يلزمه ما لزم هؤلاء، وإذا أتيت بعامل لفظ فقد ارتفع بالابتداء، وهو قوله: (ولا تصل إلى الابتداء مع ما ذكرت لك).

ومع هذا فإنا لا نجد في كلامهم “أبدا” مبتدأ مرفوعا، فقد نجد مع قائم زيدا وهو غير مرفوع بالوصف الذي يوجب أن يكون الشيء عاملا، هو لازم للابتداء وليس بلازم لزيد ولا قائم، لأنك تجد زيدا وقائما وهما مرفوعان ومنصوبان، وأحدهما مرفوع والآخر منصوب، فلو كانا هما العلة في رفع كل واحد منهما لصاحبه لما وجدا إلا وإعرابهما كذلك، وإنما وقع الخلاف بين البصريين والكوفيين في المبتدأ وفي الفعل المضارع لعدم عوامل اللفظ فسلك الكوفيون طريق الظن ولزم البصريون الأصول، وإلا فما يختلفون في أكثر عوامل اللفظ، ألا ترى أنهم لا يختلفون في باب إن ولا كان ولا الفعل ولا اسم الفاعل ولا المصدر ولا أسماء العدد ولا حروف الجر ولا عوامل الجزم والنصب في الأفعال، وهم مجتمعون على هذه، وإنما يختلفون فيها في فرع أو عبارة أو مسألة مركبة، وهذه التي عددناها هي العوامل المتفق عليها، ولو كان المبتدأ يرفع الخبر كما ذكروا لكان زيد وعمرو وما أشبههما من العوامل، وكانت الأسماء كلها كذلك عاملة /٦٧/ ومعمولا فيها، ولو كان هذا إنما يعمل فيه لما ينساغ للإنسان من القول دون ما توجبه الأصول ولغة القوم لانساغ لنا أن نقول: إن الفعل يعمل في الفعل، فنعتقد في: جاء زيد يسرع، وكان عمرو يذهب، أن يذهب ويسرع مرفوعان بالفعل الأول، ولا يلتفت إلى ما يدخل عليهما من العوامل بعد ذلك.

وأما ما تعلق به محمد بن يزيد من الضمير الذي يتضمنه معنى الظرف فنقول: نرفع زيدا بما كنا نرفع به ضميره إذا تأخر الظرف، فالضمير ها هنا إنما “هو” متعلق بفعل دل عليه المعنى، وذلك أن الظروف فيها معنى في ومن أشبههما من حروف الجر، فلا تكون إلا متشبثة بفعل ملفوظ [به] أو متشبثة بمعناه وإن لم يلفظ به.

فإن قال: أرفع الاسم بالفعل الذي رفع الضمير في المعنى، قيل له: لا يجوز ذلك، من أجل أن الظرف إنما هو دليل على الفعل، من أجل أنه مفعول فيه، وليس لفظه مبنيا على الفعل ولا مشتقا منه كضارب وحسن، ونحن إذا قدمنا ضاربنا وهو جار على الفعل محتمل للضمير مثنى تثنية الاسم مجموع بجمعه، لم يكن الوجه فيه إذا قدمناه في قولنا: قائم زيد، أن نرفع زيدا به إلا أن يكون قبله ما يعتمد عليه، وإذا كان الفعل بهذا ضعيفا وهو جار على الفعل ومشتق منه كان أجدر ألا يجوز فيما ليس جاريا على الفعل ولا مشتقا منه، وهو أيضا فلا يجوز على مذهبه إذا قال: خير منك زيد، أن ترفع زيدا بخير وفي خير ضمير وإنما ينوي به التأخير، تريد زيدذ خير منك، فخير مشتق من الفعل، وهذا لا يجوز فيه، فما لم يكن مشتقا كان أحرى بألا يجوز.

وأما البيت الذي (استشهد به) من شعر عمارة:

“كأن في أظلالهن الشمس”

فهو ضعيف، وتأويله على مذهب سيبويه فيما يجوز في الشعر سهل، وهو أن يجعل الضمير من كأن محذوفا وتقديره كأنه في أظلالهن “الشمس”، وتحذف الهاء وتكون الشمس مرفوعة بالابتداء وهذا منساغ في الشعر، (وجاء أمثاله).

المصدر: الانتصار لسيبويه على المبرد

ترك تعليق