المؤلف: أبو البقاء العكبري
المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين

مسألة [أيّهما أسبق حركات الإِعراب أم حركات البناء؟]

اختلفوا في حركاتِ الإِعرابِ هل هي سابقة على حركات البناءِ أو بالعكس؟ أو هما مُتطبقان من غير ترتيبٍ.

فذهبَ قومٌ إلى الأوّل وهو الأقوى، والدّليل عليه من وجهين:
أحدُهما: أنّ الإِعرابَ تابعٌ لفائدة الكلامِ، والكلامُ موضوعٌ للتفاهم، فيجب أن يكون مقارنًا للكلامِ كمقارنة المفردِ لمعناه، وبيان ذلك أنّ المفرد في نحو قولك فرسٌ وغلامٌ وجبلٌ، متى ذكر واحد من هذه الأَلفاظ كان معناه مصاحباً له، فإذا انتهى اللَّفظ فهم معناه عند انتهائه، وكذلك الكلام المقصود منه ما يحصّل من الفائدة عن التَّخاطب، والتَّخاطب لا يكونُ إلاّ بالمرّكب، فالمفرداتُ تُصوّر المعاني، والمُركّبات تفيدُ التَّصديقَ، وهوالمَقصود الكلّي من وضع الكلام، وإذا كان الإِعراب مقارنًا للكلامِ فُهم معنى المركّب عند انتهاء أَلفاظه، كقولك: أعطى زيدٌ عمراً درهماً، فإنَّك لا تُدرك معنى هذه الجُملة إلاّ أن تعلم الفاعِلَ والمفعولَ، حتّى يَسْتقرّ عندك معنى ما قُصد بالجملة، فأمَّا حركاتُ البناءِ فلا تُفيد معنى في المرّكب، وإنّما هي شيءُ أَوجبه شبهُ الحرفِ الذي لم يُوضع لتُفيد حركته معنى.

والوجهُ الثاني: أنّ واضعَ اللّغةِ حكيمٌ، ومن حكمتِه أن يضعَ الكلامَ للتفاهمِ، ولا يتمُّ التَّفاهم إلاّ بالإِعرابِ، أن يكونَ مقارنًا للكلام لتَحصلَ فائدة الوضع.

وأمّا البناءُ فلا يعرف المعنى فيه من اللَّفظ، وإنّما يعرف بجهة أُخرى، ألا ترى أنّك إذا قُلتَ ضَرَبَ موسى عيسى لم يفهم من اللّفظ الفاعل من المفعول، وإنّما ميّزوا بينهما بأن ألزموا الفاعل التقديم، وهذا أمر خارج عن اللّفظ والإِعراب، إِمَّا هو اللّفظ، أو مدلول اللّفظ، ولو قال: كسر موسى العصا فهم الفاعل من المفعول من المعنى، إذ قد ثبت أنّ المراد بموسى الكاسر وبالعصا المكسور، وهذا أيضًا خارج عن أدلّة الأَلفاظ، إلاّ أنّه مع خروجه عن دليل اللَّفظ يقدّر الإِعرابُ عليه تقديراً، والتقديرُ إعطاء المَعدومِ حكمَ المَوجودِ، وإنّما كان كذلك لقيامِ الدّليلِ على أنّ هذه الأسماء غيرُ مَبنيّة، فلزم أن تكون مُعربة.

واحتجّ من قالَ حركات البناء أصلٌ: بأنّ حركة البناء لازمة وحركةالإِعراب مُنتقلة، والَّلازمُ أصلٌ للمنتقلِ، وسابقٌ عليه.

واحتجّ من قال: ((لا يسبق بعضها على بعضٍ))، أنّ واضعَ اللّغةِ حَكِيمٌ في فيُعلم من الابتِداء ما يحرَّكُ للإعراب، وما يُحرَّك لغيره، فيَجب أن تَتَساوق ولا تَتَسابق.

والجوابُ عن شبهة المذهب الثاني: أنّ الأصلَ والفرعَ لا يُؤْخَذُ من اللّزومِ والانتقالِ، بل يُؤخَذُ من جهةِ إفادةِ المعانِي، وقد ثبتَ أنّ الأسماء هي التي يقع فيها اللَّبس، وأنّها محالّ الفاعليّة والمفعوليّة، فكان الإِعراب مقارنًا لها، لئلاّ يقع اللّبس، ثمّ يحتاج إلى إزالته بعد وُقوعه، والبناء أجنبي عن ذلك.

والجوابُ عن شبهة المذهب الثالث: أنّا لا نريد بالسّبقِ هنا السَّبق بالزّمان، بل السَّبق بالرتبة، ولا شكّ أنّ الإِعراب سابق بالرّتبة.
وأمّا البناءُ فيجوز أن يكون متأخّراً عن الإِعراب، وأن يكون مقارناً له في الوضع. والله أعلم بالصوّاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع مشابهة

اضغط على ايقونة رابط قناتنا على التليجرام

ترك تعليق